الصنهاجي

الصنهاجي
الأربعاء 21 نونبر 2018 - 09:47

ذكريات مدرس بين المغرب والمهجر

فجأة اقتحم السيد الصنهاجي الباب الرئيسي قاصدا القاعة العمومية للمدرسة. أدلته أصوات الآباء والتلاميذ على مكان اللقاء. بدا واضحا للأب أنه جد متأخر عن الموعد.

تابع الصنهاجي سيره وهو ينتشي بقندورته الرمادية التي تلازمه طيلة هذا الشهر المبارك. انبهر وهو يرى الحشد الكبير الذي ملأ القاعة بكاملها. حاول البحث عن أطفاله، لكن استعصى عليه ذلك. لقد تجمع كل تلاميذ المدرسة صحبة الأطر العاملة بها في القاعة الواسعة المخصصة للاحتفالات.

في الحقيقة، لم يكن هدف السي الصنهاجي من هذه الزيارة المتأخرة هو رؤية أطفاله. فهو يعلم جيدا أن زوجته كنزة قد رافقتهم كما العادة إلى المدرسة، وهم يشاركون بدون شك صحبة باقي زملائهم في عملية الإفطار.

ثم توقف لحظة للبحث عن مكان شاغر. كانت كل جوانب القاعة ممتلئة عن آخرها بالتلاميذ، المدرسين وبعض الآباء المساعدين. إن مساعدة الآباء في العديد من الأنشطة المدرسية تلقى ترحيبا كبيرا من طرف المدرسة. أكثر من هذا، فالمدرسة هنا بحاجة كبيرة لآراء واقتراحات الآباء. فهي تبذل قصارى جهدها لاشراكهم في العملية التعليمية.

تابع الصنهاجي بحثه. وسرعان ما رمق كرسيا منفردا تموقع في وسط القاعة. لم يتردد في التوجه إليه ولو أنه في الحقيقة مكان ليس للجلوس. كان الصنهاجي يحس بشيء من الجوع والعياء أيضا بعد عودته من أداء صلاة التزاويح.

وكان بالقرب من الكرسي المذكور طاجين كسكس كبير تتوسطه ملعقة كبيرة، ليست كباقي الملاعق، وإنما هي ملعقة أو بالأحرى مغرف للصب.

كانت طانية، أستاذة المجموعة الثامنة، تستعمل هذه المغرف لتصب بها من حين إلى حين بعض الشيئ من طاجين الكسكس في صحن صغير وتوزعه على المجموعات حتى يتذوق الجميع لذة ونكهة هذه الأكلة الأصيلة. طبق الكسكس هذا أعدته إحدى الأمهات كطبق إضافي للتعريف بالأطباق المغربية التي تزخر بها البلاد.

لقد اشتملت وجبة الإفطار على الحريرة المغربية، الفطائر التركية، العراقية والسورية. هذه المأكولات التي أضافت رونقا للطاولات التي تحولت في ظرف وجيز إلى موائد تزخر بكل أنواع المأكولات المعدة لهذه المناسبة. كل هذا إلى جانب التمور، الحليب والشباكية.

واستغل أولياء التلاميذ هذه المناسبة لإظهار مدى أهميتها لديهم. فهي مناسبة كبيرة لإعداد ما لذ وطاب من مأكولات بلدانهم الأصلية في هذا الشهر العظيم. فاجتمع التلاميذ، وهم يرتدون أجمل ملابسهم التقليدية حول الموائد المتنوعة في انتظار الوقت المحدد للإفطار. شيئ واحد يغيب في هذه المناسبة دائما؛ إنه صوت المؤذن الذي عوض في ديار المهجر بالحصة الشهرية لمواقيت الإفطار.

جرت العادة في السنوات الأخيرة أن يحتفل بشهر رمضان في عدة مؤسسات هولندية، عمومية وغير عمومية، حيث يخصص أحد أيام هذا الشهر كيوم “إفطار”. وأضحت هذه المؤسسات تتنافس وتبذل قصارى جهدها للاحتفاء بهذه المناسبة، حيث تعد طاولة الإفطار بكل أنواع الوجبات التي تتناول عادة عند المسلمين، وتحضرها شخصيات متميزة من جميع شرائح المجتمع، كما تعطيها وسائل الإعلام أهمية كبيرة أيضا، وتلقى فيها كلمات غالبا ما ترمي إلى التآخي، الاحترام والتعايش، إلى آخره من تلك المفردات والتعابير الجاهزة التي تتردد في كل مناسبة. وللأسف الشديد، تختفي هذه الطقوس بمجرد اختفاء هذا الشهر، على أن تعود من جديد في السنة المقبلة.

يوم “الإفطار” هذا الذي أقحم ضمن لائحة المناسبات والأعياد المدرسية، يحتفل به داخل مجموعة كبيرة من المؤسسات التعليمية، بل أصبح لفظ “إفطار”-الذي أدخل القاموس الهولندي من بابه الواسع-جد متداول بين الناس.

حين دخل الصنهاجي، كانت أغلبية الحاضرين قد أوشكت على الانتهاء من الأكل. هذا ما عبرت عنه الصحون، الكؤوس والزليفات الفارغة.

لم يبد أي أحد اهتمامه بدخوله في الوهلة الأولى. لكن، سرعان ما اشرأبت الأعناق نحوه وهو يتجه إلى وسط القاعة بهندامه التقليدي وقبعته المعهودة، جارا نعالته الصيفية التي ترسل أصواتا غريبة تنذر بقدومه.

ترى ماذا سيفعل الآن؟

توقف الصنهاجي أمام الكرسي الوحيد المتواجد وسط القاعة. أحس، بدون شك، بالأنظار التي تتابع خطواته من كل جانب. لكنه لم يلتفت تماما للتأكد من ذلك. لقد استطاع السي الصنهاجي أن يجلب أنظار الحاضرين إليه وهو يجلس على هذا الكرسي وسط القاعة. كرسي منعزل تماما عن باقي الحاضرين.

حملق السي الصنهاجي بعينيه حول جوانب القاعة وكأنه يبحث عن شيء. لم يرمق إلا طبق الكسكس الذي أصبح يجاوره.

أدرك أن حظه في تناول شيء من مأكولات الفطور في هذه الساعة المتأخرة شبه منعدم. في الوقت نفسه ازدادت شهيته للأكل وهو يرمق بقايا المأكولات المتنوعة التي لم يحظ بتذوقها. رائحة الكسكس الشهية زادت من توهج شهيته.

التفت من جديد حوله. لمح طانية وهي منهمكة في توزيع الكمية الأخيرة من طبق الكسكس على باقي التلاميذ. انتظر غيابها عن الطاجين. وفي رمشة عين، انقضت يده على المغرف الكبير، ملأه عن آخره بما تبقى من الكسكس ثم اتجه به صوب فمه الفارغ من الأسنان. لم تكن فتحة الفم تتسع طبعا لحجم المغرف الكبير، ولكن الصنهاجي لم يشغل باله بذلك. المهم بالنسبة إليه الآن هو ادخال ما يمكن إدخاله إلى بطنه من الطعام. أما الطريقة، فلا تهم في هذه اللحظة.

عادت طانية من جديد لتتابع عملية توزيع الكسكس على المجموعات المتبقية. وتوقفت منبهرة لما رأت!

“يا إلاهي، ماذا تفعل؟” صاحت طانية غاضبة في وجه الصنهاجي.

التفت الصنهاجي مذعورا صوب جهة الصوت، حاول الرد بسرعة على هذا التدخل، وبذل أقصى جهده لإخراج المغرف الكبير من فمه حتى يتسنى له على الأقل النطق، لكن هيهات “دخول الحمام ليس كمثل خروجه”. لقد استعصى عليه ذلك، لأن إدخال المغرف الكبير كان أيضا بمشقة الأنفس. تطايرت حبات الكسكس من فمه في اتجاهات مختلفة. جحظت عيناه، احمرت وجنتاه واختنقت حنجرته.

أحس من جديد بأنه الآن محط أنظار كل الأعين الحاضرة.

وتابعت طانية وهي جد منفعلة ومستغربة في الآن نفسه:

“لم استعملت هذا المغرف؟ إنها ليست ملعقة للأكل يا سيدي، ألم تر أن حجمها كبير جدا؟

وكيف استطعت ادخالها في فمك؟

عيب عليك. لقد حرمت الآن باقي التلاميذ من تذوق هذه الأكلة اللذيذة”.

لم يستطع الصنهاجي الادلاء بأية كلمة وهو يتابع عملية التخلص من المغرف بكل ما أوتي من قوة. أدرك من جديد أنه تفوق في جلب كل الأنظار حوله. ما يهمه الآن هو الخروج من هذه الورطة بأقصى سرعة.

وأخيرا تسنى له ذلك بمشقة الأنفس. أخرج المغرف ووضعه جانبا.

حاولت طانية الحصول على إجابة أو رد على أسئلتها، ولكن بدون جدوى. وغادرت القاعة ساخطة.

لم يكن في علمها بأن السي الصنهاجي لا يتكلم اللغة الهولندية بالمرة. ربما كان هذا أفضل.

فماذا عساك أن تقول في هذه الحالة؟

تنبه الصنهاجي إلى شناعة تصرفه هذا وهو يرمق الأنظار المستغربة التي تحيطه من كل الجوانب. حاول الاستنجاد بأحد الآباء المغاربة لتبرير موقفه، لكنه أحس بنفور من طرف الجميع.

وتدخل “يان”، مدير المدرسة، لتدارك الوضع؛ فاستدرج الصنهاجي إلى قاعة فارغة، ناوله كوب ماء، وطلب منه المكوث في مكانه بعض الوقت ريثما يعود إليه من جديد. كانت هذه الحركة التاكتيكية بمثابة استراحة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

استحسن الصنهاجي الفكرة حتى يتسنى له الابتعاد عن الأعين التي لم تفارقه، وفي الوقت نفسه هي فرصة لاسترجاع أنفاسه من جديد بعد هذا الجهد المضني الذي بذله.

مرت بضعة لحظات وأحس الصنهاجي برغبة كبيرة في التبول، اتجه نحو الممر المؤدي إلى المرحاض، تأكد أولا من خلو المكان، ثم اقتحمه رافعا قندورته استعدادا للعملية دون تحمل عناء البحث عن زر الضوء.

وأثناء تبوله في الظلمة، فتح الباب فجأة.

ثم انطلقت صيحة مذوية جابت أجواء المؤسسة.

كانت صيحة من إحدى التلميذات التي لم تكن تنتظر أن تعثر على رجل يتبول في مرحاض خاص بالأطفال.

هرعت الأستاذة “يوكا” إلى مصدر الصوت، واندهشت للعثور على الرجل في مرحاض الأطفال، والأدهى من هذا في الجناح الخاص بالفتيات.

انصرف الصنهاجي وهو يردد “أستسمح! أستسمح”!

لم تتفوه “يوكا” بأية كلمة، واكتفت بالقاء نظرة تجاه الصنهاجي حملتها كل ما يجيش في خاطرها من غضب واستغراب.

حاولت مواساة الطفلة ومرافقتها من جديد إلى المرحاض، أقنعتها بأن الرجل قد انصرف. وظلت “يوكا” واقفة جنب المرحاض حتى انتهت البنت من تبولها.

وعند عودتها إلى القاعة من جديد، أرمقت ردود الفعل المختلفة بادية على وجوه المدرسين والآباء تجاه تصرفات السيد الصنهاجي.

أدركت آنذاك أن قصة المرحاض هذه قد سبقتها إلى القاعة.

‫تعليقات الزوار

1
  • مقصود
    الأربعاء 21 نونبر 2018 - 13:08

    ا لغربة خطر على الامي ومابالك ان لديه اولاد فتم الكارثة
    اوروبا اليوم لن ترحم الصنهاجي وامثاله
    وماهو البديل للصنهاجي وامثاله
    حسبنا الله ونعم الوكيل

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 3

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب