القيم.. سؤال تنزيلها

القيم.. سؤال تنزيلها
الأحد 16 دجنبر 2018 - 04:12

لا اختلاف حول ما وصلته القيم من انحطاط، سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع، وخاصة لدى الشباب، لا أدل على ذلك مما نلاحظه خلال السنوات الأخيرة مما يعرف بشغب الملاعب الذي سرعان ما تطور إلى عنف الملاعب، علما أن كرة القدم هي قبل كل شيء وبعده فرجة فيها تقنيات كروية، فيها خطط، فيها روح رياضية، لا بد فيها من غالب ومغلوب، وفيها المنافسة نزال وفق قانون اللعبة الصارم. فَلِمَ تخريب الملاعب وتدميرها؟ ولم قذف لاعبي الخصم بالقناني وما إلى ذلك؟ زد عليه ما باتت تعيشه المؤسسات التعليمية من ممارسات لا تليق بمقامها، علما أنها في الأصل مؤسسات تنشئة وتربية على القيم الراقية. فما الذي تبَقَّى إن غزت هذه السلوكات المشينة عقر دارها؟ وكذا ما باتت تعرفه شوارعنا من ممارسات مشينة، والأدهى لما تصل الدناءة للاغتصاب في حافلة على مرأى ومسمع من ركابها.

ظواهر غريبة قمة في الجهل والتخلف والتهور. فما معنى أن يصور مجموعة من الشباب أنفسهم حاملين السيوف والسواطير وقناني الخمر ولفافات الحشيش؟ فهل يفتخر إنسان له مسكة عقلية بهذه الموبقات والمخالفات القانونية؟ شباب مراهق لا يقدر العواقب قدرها حتى يغل الفأس في الرأس، فلا يستفيق من غيبوبته إلا لما يجد نفسه في زنازين السجون الباردة، فيندم حيث لا ينفعه ندم. فالفصل الأول من القانون الجنائي المغربي ينص بصريح العبارة ألا يعذر أحد بجهله للقانون. وهي تسري على الجميع، علمها من علمها وجهلها من جهلها.

وطبعا لما نتحدث عن الانحطاط القيمي لدى فئة عريضة من الشباب، لا نغفله لدى فئة من الكبار، ممن يتحملون مسؤوليات جساما على مستوى السلم الإداري، أو منتخبين يتولون تسيير جماعات أو جهات أو أقاليم لما تمتد أيديهم إلى المال العام، أو الاستهتار بمشاريع عامة تفوت على البلاد عائدات من شأنها أن تحسن من وضع المواطنين والمواطنات. والأدهى، لما يبلغ الانحطاط القيمي مبلغه من الانتهازية، لما يتخذ البعض من الدين مطية لتحقيق أهداف سياسية أو وسيلة لإشباع غرائزه الجنسية، كالذي تزكم الأنوف هذه الأيام روائح أخباره، بتصويره لضحاياه عرايا بعد أن يناولهن شيئا ما، كما ورد على لسان إحداهن بمرارة، تحت ما بات يعرف بـ”الرقية” المنتشرة كالفطر في الدروب والأزقة عنوان التخلف والجهل بجوهر الدين الحنيف.

لا مجال للاستمرار في التوصيف، وإلا لما أسعفتنا هذه المقالة في الإحاطة بالحضيض الذي أصبحت عليه قيمنا. فالوضع القيمي يحتاج إلى أكثر من هذا بكثير. علما أن الاختلال القيمي واهتزازه لا يعني بلدنا لوحده، باعتباره أصبح ظاهرة عالمية على تفاوت بين التقدم والتخلف، سواء على مستوى فهم القيم أو على مستوى الممارسة اليومية، خاصَّة في ظلِّ اضمحلال السُّلوك الإنساني المعاصر، وطغيان الأنانيَّة والفردية والمادية، على حساب القيم الرُّوحية والأخلاقيَّة.

ودون الإسهاب في التعريفات النظرية للقيم وتميزها عن الأخلاق وعن المبادئ على اعتبار أن القيم تهم بالأساس الأفراد والأخلاق تتعلق بالمجتمع، فيما المبادئ تهم ما هو متعارف عليه كونيا لا علاقة لها بالإيديولوجيات والأديان والفلسفات. فلو كانت جهة واحدة مسؤولة عن القيم سلبا أو إيجابا لهان الأمر، ولأمكن التغلب عليها، لكن مع الثورة المعلوماتية، فإن الأمر بات أكثر تعقيدا، فالمسؤولية مشتركة تقع على عاتق كل المتدخلين (أسرة، مدرسة، إعلام، مجتمع مدني…)، ومن ثم لا يمكن أن يتحقق شيء على درب التصحيح ما لم يستشعر الجميع خطورة الوضع القيمي وانعكاساته السلبية على أية تنمية.

فإذا كان على دستور المملكة 2011، فإن القيم فيه لا تختلف في شيء عن القيم الكونية من فصل السلط والمناصفة واستقلالية القضاء وحرية التعبير وحرية الفكر واحترام الأقليات والاعتراف بكل مكونات النسيج المغربي.

وإذا كان على الميثاق الوطني للتربية والتكوين، فإن القيم تعتبر أحد مرتكزاته الأساس. فعلاوة على تركيزه على الإيمان بالله وحب الوطن والتمسك بالملكية الدستورية، يراهن على تربية المتعلم على قيم الاستقامة والصلاح والاعتدال والتسامح والمشاركة الإيجابية.

فالسؤال أمام انفراط العقد القيمي، كيف السبيل لترجيح كفة القيم الإيجابية على السلبية، والقيم الجيدة على الرديئة، وصولا إلى القيم المنتجة للنهضة والتقدم؟ هل يمكن تحقيق ذلك بما هو معتمد لدينا من مناهج وبرامج في جل مؤسساتنا التعليمية بالطرق التقليدية التي لم تراوح بعد دائرة التلقين في عمومها؟ أم هل يمكن تحقيقها بالخطب المنبرية المكرورة، جل الخطباء وهم يتناولون قيمة من القيم، لا يتجاوزون سرد مجموعة من النصوص القرآنية والحديثية وسير السلف الصالح سردا لا تجديد في طريقة تقديمها وعرضها؟ أم هل يمكن تحقيقها بما تقدمه بعض القنوات التلفزية على شكل رسوم متحركة أو دروس وعظية إرشادية بطرق موغلة في التقليدانية؟

القيم اليوم لا يمكن بأية حال ترسيخها وغرسها بالتعليم والتلقين والشحن والوعظ. إنها تتوقف على الاجتهاد في اختيار الحوامل بحسب الفئات العمرية وما يناسبها من لعب ومتعة وأدب وخيال ومغامرة، وكذا الخرجات والرحلات والمخيمات والمسارح ودور السينما ومعاهد الموسيقى والأفلام التربوية وما إلى ذلك. “فالفضيلة لا تلقن وإنما تكتسب”.

لنأخذ قيمة الغش مثلا، فالبون شاسع بين تَناوُلِها بتعداد النصوص المعروفة على مسامع الأطفال، وبين معالجتها عن طريق عرض فلم تربوي قصير جدا، كالذي يتناول قصة طفلين صغيرين بينهما صداقة حميمة، حصل مرة أن ضبطت المدرسة أحدهما يغش فأنكر، استدارت ناحية صديقه لتسأله وكان قد رآه يغش. وقبل أن يجيب انقطع الفلم. ففتح باب النقاش على مصراعيه بين تلاميذ الفصل؛ فهل يشهد في صديقه بما أنه رآه يغش، فيفقده ربما إلى الأبد؟ أم يشهد بما رأت عيناه فيبرئ ذمته. المهم فتح نقاش بين الصغار كل يدلي بدلوه في الموضوع. فأيهما أولى بهكذا طريقة لغرس القيم أم بـ”احفظ واعرض”؟

عادة ما نُعجب بقيم بعض الأمم المتقدمة حد الانبهار (اليابان مثلا)، لكن المفروض أن نسبر أغوار قيمهم الراقية من قبيل تقديسهم الذاتي للعمل، ونظافتهم، واحترامهم لبعضهم البعض، وتحيتهم التي لا تفارقهم، وحرصهم الكبير على الوقت، وغيرها. فهل سقط كل ذلك عليهم من السماء كمائدة بني إسرائيل أم هو نتيجة لتخطيط دقيق وتربية جيدة يخضعون لها منذ طفولتهم؟ ففي مدارسهم الابتدائية المجهزة بأحدث الوسائل التعليمية يسود النظام والاحترام المتبادل بين التلاميذ فيما بينهم والأطقم التربوية كذلك.

فحتى قبل ولوجها، يجدون مديرها بالباب يبادلهم التحية، إلى أبواب حجراتهم يجدون المدرسة تتبادل وإياهم التحية، وقبل قيامهم يؤدون التحية، والتحية في بيوتهم، وفي شوارعهم، وفي إداراتهم وأماكن عملهم. فكيف لا تترسخ في أذهانهم وتترجم في سلوكاتهم؟ ففي مدارسهم تُدرَّس مادة من أولى ابتدائي إلى سادسة ابتدائي اسمُها “طريق إلى الأخلاق”، يتعلَّمون فيها الأخلاق وفن التعاملَ مع الناس، ولا أثر للرُسُوب من أولى ابتدائي إلى ثالث متوسِّط؛ لأن الهدف هو التربية وغرْس المفاهيم والقيم وبناء الشخصية، وليس التعليم والتلقين.

*كاتب

‫تعليقات الزوار

6
  • البقالي
    الأحد 16 دجنبر 2018 - 08:08

    القيم قبل وصول البيجيدي الى ميزانيات الدولة اصبحت تندثر شيئا فشيئا … المغاربة كانوا يحلمون باهل الله بنكيران وجماعته … المصيبة انهم لا يفقهون الاختلاف …منطق البلطجة …اما ان تكون معنا واذا مس شخص منها سنفعل وسنفعل….قيم الدولة البيجيدي داخل الدولة المغربية حسب ما أكده الهيني في استعداده للوقوف أمام المحكمة ضد حامي الدين ….القيم داخل الأسرة والمجتمع والمدارس في خطر.. البنيات الفوقية تتحكم في الشعوب وتفرض عليها القيم التي تهوى….

  • Peace
    الأحد 16 دجنبر 2018 - 08:50

    "القيم اليوم لا يمكن بأية حال ترسيخها وغرسها بالتعليم والتلقين والشحن والوعظ. إنها تتوقف على الاجتهاد في اختيار الحوامل بحسب الفئات العمرية وما يناسبها من لعب ومتعة وأدب وخيال ومغامرة، وكذا الخرجات والرحلات والمخيمات والمسارح ودور السينما ومعاهد الموسيقى والأفلام التربوية وما إلى ذلك. "فالفضيلة لا تلقن وإنما تكتسب". "

    هناك شيء اخر هو تعلم الادب و محاربة قلة الادب او "الضسارة" و تعليم الانضباط بالصرامة. و لكن الاساليب التي يجب استعمالها, هي النقاش الصارم بشكل خاص و منغلق في غرفة او مكتب و التهديد بعقوبات بمنع اشياء اعتاد عليها الانسان و يعتبرها بالنسبة له من البديهيات و للردع تطبيق هذه العقوبات, ليبقى محروما منها و يراجع نفسه, لانه سيشعر بالفراغ و يدعوه ذلك لتفكير مليا في الامر…

  • Peace
    الأحد 16 دجنبر 2018 - 09:09

    هناك شيء اخر مهم و هو تخصيص حصة قبلية للتعريف بالقوانين المعمول بها و نتائج الانضباط و العمل بها كالمكافاة او العقاب اذا اخل المرء بها.

    مثلا اول حصة او لقاء في المدرسة يتم للتعريف بمرافقها و كيفية استعمالها و القوانن الخاصة بها مثلا المكتبة و قاعة الاعلاميات و ان الاكل و الشرب داخلها ممنوع و ان عليك ان لا ترمي الازبال هنا و لكن في الاماكن المخصصة لها و ان لا تستعمل الهاتف النقال و التدخين ممنوع و هنا يمكنك فعل كذا و هنا لا يمكنك فعل كذا ووو الى اخره…فتكون الحصة الاولى في القسم نفس الشيء, الاستاذ يقول انا طريقة هكذا و احب كذا و لا اتسامح مع كذا ووو فيحس التلميذ انه مقيد في المؤسسة التعليمية بعدة قوانين و ليس الدخول في الدرس في اول حصة مباشرة, بدون اية مقدمات…

    نفس الشيء في جميع المرافق, فبمجرد ما تقوم بمخالفة حتى يقف عليك احدهم و يخبرك بان هذا ممنوع هنا..

  • دون تعليق
    الأحد 16 دجنبر 2018 - 11:45

    وهل من القيم
    ان يتقاضي البرلمان والحكومة والاحزاب رواتب يسيل لها لعاب العباقرة قبل الفقراء
    دون الحضور
    ودون اي قيمة مضافة
    فكيف ستكون قيم الباقية الباقية
    اللهم ان هذا منكر

  • Petchou
    الأحد 16 دجنبر 2018 - 12:20

    ""لا اختلاف حول ما وصلته القيم من انحطاط، سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع، وخاصة لدى( الشباب)""…

    من اين تلك الكرموصة ؟ من تلك الدركّة

  • ahmed arawendi
    الأحد 16 دجنبر 2018 - 13:52

    أتفق معكم تماما باستثناء الجزم بأن أخلاقنا اليوم هي أسوأ من أخلاق أسلافنا.
    فالأخلاق لها علاقة بمستوى التمدن و هي الشِّفْرَةُ التي تقرها المدينة لنفسها لتحقيق التناغم و الراحة الاجتماعية و الفردية لكل مكوناتها.
    كلما كانت هذه الأخلاق حية و معرضة للنقاش الاجتماعي و غياب عملية الإكراه (هل يمكن اعتبار من تفرض عليه فرضا, خلوقا?) كلما كانت هذه الأخلاق أكثر صحة; ببساطة لأنها "كود" ساهم الجميع في تحريره و بالتالي"كود" يحترمه الجميع لأنه في ملكية الجميع و ليس إرغاما مقدسا ينزل من فوق.
    طبعا كل هذا هو بعيد كل البعد لا عن المغرب التاريخي و لا عن مغرب الحاضر.لأن الفرد لا يسؤل و لايسمح له بالتنفس و لا يوجد في مجتمع مثل مجتمعنا و بالتالي ما يُعتبر أخلاقا هو عبارة على مجموعة طقوس للواجهة الاجتماعية التي سرعان ما تختفي عندما يختلي الفرد بنفسه ليظهر المغربي المرقي الطبيعي بلا زواق مثل اليهود الذين تصورهم المسلسلات العربية المهترئة و هو يقبل جرة النقوذ و يزعق:
    مالي يا ناس!!
    ما الفرق بين التشرميل و قبائل غمارة وهي تهاجم التطوانيين في القرن 16 لسبي التيتيز الجميلات من الغرناطيين المهاجرين البؤساء!!!!!

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين