يا مُريدَ الشّر أَعْرِض

يا مُريدَ الشّر أَعْرِض
السبت 29 دجنبر 2018 - 15:04

“يا باغيَ الخير أقبل… يا مُريد الشر أعرض…”

قد تكشف هذه العبارة عن ثنائية الخير والشر الدفينة في كُنه الكائن البشري، لنتساءل عن المسببات والدوافع أمام الشرور المُستشرية والممتدة على نطاق واسع من رُبوع العالم، ولنتساءل كذلك عن الانتشار المهول والسريع لأخبار الفضائح والجرائم التي تُجلِّل حياتنا اليومية وتُشوّهها، لدرجة أصبحنا نستفيق معها على وقْع أبشع السلوكات وأمرّها، ولا ننام إلا وشريط من مسلسلات متنوعة تتردد أمام أعيننا كاشفة لنا عن حقيقة تردّي وتدنّي مستوى أخلاقيات المجتمع وتقويض درجة الإيمان والاعتقاد بالآخر كذات تُلزمنا الاحترام وتفرض علينا الإقرار بالاختلاف كمبدأ يفتح أبواب التعايش والتسامح ومد جسور الخير بين مختلف العِرقيات والجنسيات.

ففي أحايين كثيرة تنطلق الكتابة من الصفر أو العدم لتكون كتابة من أجل الكتابة فقط، وأحيانا أخرى تنبلج الكتابة من وحي المكنونات، ومن كُنه الذّوات لِتُفجّر فينا الصمت الذي يلتوي على حبال الأصوات، فجعل منها همسات شاحبة لا صدى لها ولا حياة فيها لسنوات عجاف… هذا النوع الثاني من الكتابة يفك قيودنا ولو لبُرهة قصيرة، نستشعر فيها حقيقة ضيق الحرية التي تُترجم ضعف الأنفس في الإعراب عن السيل الجارف من معاناتنا ومآسينا المترامية الأطراف لا بداية ولا نهاية لها.

وبما أن الفئة القليلة منا من تولي للكتابة أهمية وتجعل منها شرطا أساسيا للإصلاح؛ ظلت كتاباتنا حبيسة اللحظة لا امتداد لها ولا روح فيها، كوننا ببساطة لا نؤمن أن العالم قد يتغير بنص مكتوب أو بقصيدة منثورة أو حتى بشعار، عكس بعض البلدان التي تغَيّر مسارها بكلمة “وما للكلمة من سلطة”، التي كانت سببا في كشف الأساتير والإطاحة بالفساد وفضح المفسدين، لما لها من مبنى أخلاقي وروح ثورية تتبنى المناخ الاجتماعي وما يحمله من مشاكل وتناقضات، باعتبار الكتابة “حرية” قد تدوم للحظة، لكن هذه اللحظة هي أكثر اللحظات وأقواها جلاءً في التاريخ.

إذن، قوة المواقف التاريخية هي التي قد تشكل هوية الكتابة، ومثال عن ذلك أن الكل قد يكتب عن الأحداث التي شهدها المغرب في الآونة الأخيرة، وما ترتب عن ذلك من تضارب في الأراء وتداخل في الوِجهات، فلكل من منا مِداده، إذ هناك من يكتب بمداد من ذهب ولا يرى في الحياة إلا مهجة وانشراحا، وهناك من يكتب بضخ دماء قلبه فيدرك أن الحياة همجية واختناقا ليس إلا…فكانت الفرصة للبعض في استبدال شفاههم بشفاه ميتة تتقن الدجل والتكهن، والتستر عن الحقائق وحياكة ما هو مبتور، والتغاضي عن ابسط الشروط التي تجعل من الشخص إنسانا، وفرصة للبعض الآخر للتنديد بكل أشكال الظلم والقهر ولو بوسائل بسيطة، مع الإدراك أن كل تشنج سينتهي بالسلام وكل أزمة مصيرها الانجلاء والزوّال… فمثلا أن نخصص أقلامنا للكتابة في الوابل من فضائح الغير وأن نجعل من الحبر مادة نتغذى بها على الوجبات الدسمة لمشاكل الناس، وأن نصبح كُتابا لتفاهةِ التفاهة ومنظرين للوقاحة بانشغالنا على ما لا يهمنا وحشر رؤوسنا في ما لن يُفدنا، بهذا سنجعل من عقولنا المُروّضة عقولا محدودة التفكير وضيقة الأبعاد والرؤى، لأننا سنخلف موعد الانشغال بالقضايا الحقيقية والجوهرية التي تشكل مسائل مفصليةّ؛ قضايا إنسانية ومباحث بشرية كبرى، ونلتهي باللهو واللغو في سفاسف الأمور ورديئها، وهذا نوع آخر من الشر وهو صنيعةُ أيادٍ بشرية، والذي يراكم في التاريخ دمارا وآلاما لن تندمل، فالانتقال من فلسفة “الفضيلة ” إلى فلسفة “الفضيحة” تكشف لنا بجلاء مدى القابلية التي أصبحت لدى الفرد في الإقبال على فعل الشر المُطلق بل والتباهي به، ولعل آخر حدث وشم ذاكرتنا وأدمى قلوبنا وخنق الحياة بدواخلِنا هو دليل قاطع على مظاهر البشاعة والقُبح اللذان طوّقا نفوسنا، وجعلا منا أجسادا خالية مخربة تسعى للفساد والخراب، ذلك بسبب الفهم الخاطئ الذي يكونه كل فرد منا في علاقته بالكون والبحث عن الخير المطلق الذي لا وجود له إلا في مخيال النفوس المريضة والعقول المُتحجِّرة…فماهية الإنسان ليست مشكلة “الكينونة في العالم” être au monde، بل في “كينونته مع الآخرين” être aux autres، فبواسطة علاقتنا مع الإنسان الآخر والقَبول به كذات مختلفة عنا لكنها تُشكلنا وتُكملنا في نقطة هامة وهي “الإنسانية” نستطيع أن نبلغ درجة من التعالي والتسامي، مما سيمكننا أولا من التصالح مع ذاتنا وتقديرنا إياها ” estime de soi “، والتي عن طريقها سنقدر الآخر ونعترف بقيمة وجوده، بهذا سيخشى الفرد العنف : لا العنف الذي قد يتكبّده، بل العنف الذي قد يرتكبه؛ ففي التأمل في يقينية الفناء التي تنتظره، يصل إلى التفكير بأن فضيحة الوجود الحقيقية ليست في كون الإنسان فانيا، بل في أن يصير قاتلا متوحّشا متوجسا بالدماء وإراقتها…

في كتابه “الفضيحة والإصلاح” الصادر عام 1978 يتبنى عالِم الجريمة الأمريكي “لورانس شيرمان”، مفهوما طقسيا لفهم الفضيحة، يلخصه بعبارة: الفضائح هي مراسيم احتفالية لنزع المكانة” ، هذه العبارة التي ستصبح واحدة من العبارات الكلاسيكية، والتي سيتم اقتباسها مرات ومرات تُلخص مسألة انفضاح العالم désenchantement du monde ليس بعبارة فك السحر والشعوذة عن العالم بالاقتراب من العلم والمعرفة والحذو منها، وإنما بلُغة مضادة تعكس الحب المَرضي والولع والتهاتُف على نشر الفضيحة والتشهير بها، فتأتي بجملة من الإمكانات المتناقضة من البناء والهدم والإحلال، لترسيخ القائم وخلق الجديد، وتدعيم الهويات وزعزعتها، وكل هذا عبر قدر متفاوت من العنف والتخريب واستهلاك الشر والأذى وتفريغ الطاقات الباطولوجية، فيصبح الجميع ضد الجميع ويعمم الخزي على الكل حتى لا يبقى سواه، ويتحلل الرُقي ويتلاشى في زمن الفضائح.

‫تعليقات الزوار

8
  • سناء الباري
    السبت 29 دجنبر 2018 - 23:05

    الاستاذة إكرام، سنة سعيدة ملؤها الود والاحترام لشخصك الموسوم بالسمو واناقة الروح، دمت للكتابة وفية وعلى عهد سوسيولوجيا الفضح باقية، انت كما عادتك عنيدة كحرفك العنقاء الحر والمنبثق من رماد هذا المجتمع الذي أبى إلا التمرغ في الانحلال والانحطاط..سلمت وسلم قلمك صديقتي

  • كريم الجزار
    الأحد 30 دجنبر 2018 - 00:45

    السلام عليكم ورحمة الله.
    الكل يتسائل لماذا كثرت هذه الجرائم في بلدنا المغرب. ؟ ؟
    وما هو سر ظهورها بهذا الحجم ؟؟
    أصبحنا نرى الجرائم تلوى الجرائم وأغلبها جرائم بشعة ينده لها الجبين .
    السؤال المطروح ما هو سر إنتشارها وما هي طرق معالجة هذه الظاهرة الخطيرة ؟؟

  • كاتب مغربي
    الأحد 30 دجنبر 2018 - 00:52

    الكل يندد بما بلغه المغرب من تدني وتراجع مستوى الأمن والاستقرار أصبحنا نعيش حالة من الرعب الدائم والهلع الملازم، وموضة قطع الرؤوس ستمسي مألوفة

  • Arsad
    الأحد 30 دجنبر 2018 - 06:27

    لم تتوقف الجريمة في اي بلد مند الأزل انما هو التطور الإعلامي وسرعة تكنولوجية المعلومات والانترنيت هي من تأتي بصور ضخمة للجريمة في هذا العصر.
    اما عن الأسباب فليس هنالك اي سبب للجراءم غير الجشع والبغي والظلم .

  • محمد
    الأحد 30 دجنبر 2018 - 13:18

    تحية أستاذة إكرام قلم جميل يوضح نفسية المجرمين بالظلم والجشع وسرعة التكنولوجيا والاتصال لماذا كثرث الجرائم واغلبها بشعة

  • الأم مدرسة
    الإثنين 31 دجنبر 2018 - 10:01

    من بين الأدعية التي يتلحف بها أصحاب الفضائح اللهم استرنا فوق الأرض واسترنا تحت الأرض واسترنا غدا يوم العرض.
    وهذا دليل على اقترافهم لأفعال يخجلون منها وكلما كان الشخص كثير الإلحاح في دعاء الستر فهذا يعني أن في جعبته إن وأخواتها.
    الذين يتصرفون بشفافية وحسن نية لا يخافون من أخطائهم الإنسانية، فالخطأ الإنساني مشترك بين كل البشر، بسبب عدم كمال الوجود الإنساني.
    أما الذين يبحرون في عالم الخطيئة والشرور هم أكثر الناس حرصا على عدم انكشاف فضائحهم.
    الدكتورة إكرام الجزار من الكفاءات المغربية الواعدة التي تبشر بوجود نخبة من المفكرات والمبدعات وهذه الصورة هي التي قدمتها الطفلة مريم أمجون من قلب الخليج العربي حيث سادت صورة نمطية حول المرأة المغربية كامرأة غارقة في الجهل والشعوذة.
    لدينا مغربيات ساحرات لكن بالفكر والإبداع والرقي. تحية حب أبدي لأمي العظيمة

  • ماسح أحذية
    الإثنين 31 دجنبر 2018 - 12:57

    ثنائية الشروالخيرهي مطلق بشري يكتسب عبر الصيرورة الحياتية للبشرعبر جدليات الانا والاخر والابقاء والاقصاء … فالحتمية الازلية تجعلنا جميعا موريدين للخيروالشرالى حين معين حين نترفع بإنسانيتنا نحوالافق الرحب رغم الاختلاف الثقافي ، الفكري ، الفيزيولوجي والعقائدي… في إتجاه افقي الذي يحدد اللحظة و لاتعنيه الاتجاهات العمودية للمقدس او المدنس فينا فنحن مجرد كائنات بيولوجية محكومة بالتعفن الكيميائي وماعلينا إذن غير لبس جبة الحب لنصبح متصوفة وموريدين للخير عارضين ثائرين ضد الشر على الاقل على مستوى أحاسيسنا …. سنتكم سعيدة كل خير

  • نورالدين برحيلة
    الثلاثاء 1 يناير 2019 - 10:04

    من بين الأدعية التي يتلحف بها أصحاب الفضائح اللهم استرنا فوق الأرض واسترنا تحت الأرض واسترنا غدا يوم العرض.
    وهذا دليل على اقترافهم لأفعال يخجلون منها وكلما كان الشخص كثير الإلحاح في دعاء الستر فهذا يعني أن في جعبته إن وأخواتها.
    الذين يتصرفون بشفافية وحسن نية لا يخافون من أخطائهم الإنسانية، فالخطأ الإنساني مشترك بين كل البشر، بسبب عدم كمال الوجود الإنساني.
    أما الذين يبحرون في عالم الخطيئة والشرور هم أكثر الناس حرصا على عدم انكشاف فضائحهم.
    الدكتورة إكرام الجزار من الكفاءات المغربية الواعدة التي تبشر بوجود نخبة من المفكرات والمبدعات وهذه الصورة هي التي قدمتها الطفلة مريم أمجون من قلب الخليج العربي حيث سادت صورة نمطية حول المرأة المغربية كامرأة غارقة في الجهل والشعوذة.
    لدينا مغربيات ساحرات لكن بالفكر والإبداع والرقي. تحية حب أبدي لأمي العظيمة

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات

صوت وصورة
حملة ضد العربات المجرورة
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 11:41 14

حملة ضد العربات المجرورة

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42 8

جدل فيديو “المواعدة العمياء”

صوت وصورة
"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:15

"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا

صوت وصورة
بيع العقار في طور الإنجاز
الإثنين 15 أبريل 2024 - 17:08 4

بيع العقار في طور الإنجاز

صوت وصورة
مستفيدة من تأمين الرحمة
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:35

مستفيدة من تأمين الرحمة