بيان في الرقية والاسترقاء

بيان في الرقية والاسترقاء
الإثنين 31 دجنبر 2018 - 19:39

ترد الرقية في بطون الكتب الحديثية والفقهية بمعنى طلب الشفاء، والرغبة في التعافي بالاعتماد على ما في كلام الله من روح وبركات، يعتقدها المؤمنون، ويسلمون بها، بناء على آيات وأحاديث، كقوله تعالى في سورة الإسراء: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) . ولا أحد من العلماء قديما وحديثا قال بأن اعتماد الرقية يعفي من طلب التداوي عن طريق الأطباء وأهل الاختصاص والعلم بالأبدان، والدليل الأكبر على ذلك هو أن الرسول (ص) كان يتطبب، ويدعو إلى التطبيب؛ ففي الصحيحين أن رسول الله (ص) قال: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)، وقال أيضا: (عباد الله تداووا)، فالمرض طارئ يعرض للإنسان، وينقله من حال إلى حال، لذلك نجد للمريض في الإسلام أحكامه الخاصة، ورخصه المعروفة التي تتماشى وحالته، وما يعرض له، والأصل هو أن يطلب المريض الدواء، ويسأل الأطباء وأهل العلم والاختصاص بالأبدان ومتعلقاتها، ثم يسأل الله العافية ويستفيد مما في كلامه من روح وبركات.

إن الرقية غايتها الاستفادة مما يحمله كلام الله، ويزخر به من أسرار ومعان من شأنها أن تساعد المريض على التعافي، والتماثل للشفاء، ولا تنوب الرقية ولا تنفي مطلقا عمل الطبيب، وما يصفه علماء الأبدان من أدوية وعلاج للمرضى، فالله سبحانه هو الشافي نعم، ولكن شفاءه يأتي عبر العلم بتفاصيل هذه الأجساد وتضاريسها وأخلاطها، وهذا هو المسمى بعلم الطب، ولذلك حين استشكل بعض الأعراب حكم وجوب التداوي، ما دام المرض من قدر الله، كانت إجابة النبي (ص) واضحة: هذه الأدوية والرقى من قدر الله كذلك، بهذا المعنى تلتقي إرادة الخالق، مع عمل المخلوق، فالله سبحانه أوجد العلماء ليشتغلوا، وخلق العقل العلمي ليتدبر أحوال البلاد والعباد بالمنطق والجهد والمنهج، لا بالخرافة والكسل والتواكل والجهالات.

إن الرقية غايتها طلب بركة كلام الله، والاستفادة مما في آياته من روح، والأصل هو أن يرقي كل مؤمن نفسه بنفسه، فلا حاجة بين العبد وربه إلى وسائط؛ فقراءة القرآن الكريم، والانتفاع به، بالنسبة إلى المؤمنين به، هو أمر في مكنة جميع المؤمنين والمؤمنات، وبدون استثناء، ولذلك ورد أن الرسول (ص) أوصى في أكثر من حديث بقراءة آيات بعينها، طلبا لما فيها من بركات، وهذا من الأمور المتواترة، مثال ذلك، آية الكرسي، خواتيم البقرة، سورة الفاتحة، وغيرها، ولم يشترط عليه السلام، للانتفاع بكلام الله شروطا بعينها، كما لم يثبت أن كان الاشتغال بالرقية عملا ومهنة.. نعم ورد في بعض الأثر أن الراقي يكافئ لما قام به من عمل، طلب منه، ولكن ليس باعتبار الرقية مهنة وشغلا . فالرقية بمعنى طلب الاستفادة مما في كلام الله من بركات وهداية، هذا هو حال المؤمن في سائر أيامه، ولا حاجة فيه إلى أحد، إذ المؤمن الحق دائم الاتصال بربه، من خلال تدبر كلامه، والبحث المستمر عن المعنى العميق لآياته سبحانه؛ فليس الغرض من الرقية ومن كلام الله هو طرد الجن، أو فك السحر، أو إذهاب أثر العين، الشيء الذي ابتلي به كثير من الناس اليوم، بحيث أصبحت حياة الكثيرين منهم، كلام في السحر والجن والعين، وما إليها، وغاية القرآن الكريم بالنسبة إليهم هي مطاردة العفاريت والجنة، بكسر الجيم، وفك السحر، ورد العين.. وهكذا تحول الدين كله إلى صرع للجن، وإبطال للسحر، ومحاربة للعين، في حين أننا إذا ما حاولنا تتبع هذه الكلمات في العلم المحقق بالإسلام لا نكاد نعثر عليها إلا لماما، وعرضا، فكيف تتحول اليوم إلى هوس يملأ حياة الناس ويشغلهم، لا معنى لكل هذا إلا الفراغ، وإلا الجهل بمقاصد الدين العميقة، ومراميه القريبة والبعيدة، إنه شغل من لا شغل له، وإنه استغلال بشع لضعف الناس، وطلب الاغتناء غير المشروع على آلامهم ومعاناتهم؛ فالصالحون الأقحاح لا يبيعون صلاحهم، فالصلاح لا يباع، ولا يطلبون شيئا من عرض الدنيا، لأن لهم قربة، هي ببساطة محبتهم العميقة لله، واتصالهم القوي بجلاله سبحانه، ومن تم لا يتصور أن يفسدوا أو يؤذوا أحدا، أو يأتوا من الأفعال أشنعها، من مثل ما نسمعه اليوم، من اغتصاب للنساء وغيرها، فالأصل في الحامل لكلام الله، أن يكون هو أول المنتفعين به، وأول من يعرف قيمة ما يحمل ويقرأ.

نعم يصح أن نطلب دعاء الصالحين منا، ومن نظن ونرى زيادة قربهم من الله، وهؤلاء موجودون في كل مكان، وفيهم الرجال والنساء، الصغار والكبار، ولكن لا دكاكين لهم، ولا مطامع مادية، أو شهوانية، بغيتهم الوحيدة هي طاعة الله وزيادة محبته.. ولذلك ديدن الصالح أنه كثير الحياء، يرفض نعته بالصلاح، ويتحرج ممن يمدحه ويزكيه.

هذه بعض المعالم في فهم معنى الرقية، وفي ضبط مجالاتها وحدودها.. وفي الأخير، لا بد من الإشارة إلى ملمح لغوي جميل، فمن معاني الرقية الترقي والتحسين والتجويد، رقى ترقية، رفع وصعد، فلنتدبر لعلنا نفهم.

‫تعليقات الزوار

3
  • عثمان
    الثلاثاء 1 يناير 2019 - 10:35

    الرقية دواء لكل داء سواء كان بدنيا او نفسيا او مسا او عينا او حسدا او غيره يقوم بها الربانيون حفظة القرآن وليس من هب ودب وهذا من المعلوم في الدين

  • أبو لؤي
    الأربعاء 2 يناير 2019 - 05:16

    من المؤسف أن كثيرا ممن يمتهنون الرقية – والتي تسمى بالشرعية – هم في الحقيقة كهان مدعون لعلم الغيب قد أدخلوا كثيرا من الناس في سراديب من الوهم ، استغوا الحس الديني المصبوغ بالجهل من لدن العامة فجعلوهم سلما للوصول إلى شهواتهم الدنيوية ،
    كتاب الله ليس حكرا على أحد لكل مسلم أن يأخذ به بنفسه ويسترقي به من غير حاجة إلى أن يذهب إلى أحد وقد جاء في الحديث الصحيح أن فاطمة بنت عميس شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سرعة العين إلى أولاد جعفر فقال لها ارقيهم . ولم يقل صلى الله عليه وسلم هاتهم أرقيهم بل أمر أمهم أن ترقيهم
    فإن قال قائل : لا أحسن القرآن ؟ نقول قد قرر أهل العلم أن الرقية في ثلاث سور لا يظن بمسلم إلا وهو يحفظها سورة الفاتحة و الفلق والناس
    وقد ذم الشرع طلب الرقية ففي الحديث لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب ذكر من صفتهم أنهم لا يسترقون ، أي لا يطلبون الرقية من أحد ، أما هؤلاء الرقاة اليوم فهم كهنة يدعون ما لم يحيطوا به علما فيزعمون أن هذا مسحور وهذا به عين وهذا به جن وهلم جرا مع العلم أن الأمراض النفسية مع رديفتها من الأمراض الروحية متشابه

  • Jerada
    الأربعاء 2 يناير 2019 - 07:45

    إلى عثمان تعليق 1 إذا لم تقتنع بما جاء في المقال اذهب إلى البركاني فعنده دواءك

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 1

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين