دفاعا عن الأدب والعلوم الإنسانية في السينما والحياة

دفاعا عن الأدب والعلوم الإنسانية في السينما والحياة
السبت 19 يناير 2019 - 08:00

يمثل تلاميذ الشعَب العلمية أضعاف تلاميذ الشعب الأدبية في الثانويات المغربية. وتشجع الحكومة هذا التوجه الذي يؤثر كميا وكيفيا على التخصصات في الجامعة، ويعمل أولياء الأمور على أن يتفوق أبناؤهم في الشعب العلمية مثل الهندسة والرياضيات.

تركز السياسة التعليمية على التدريب، وتهمش العلوم الإنسانية التي تدرب الوجدان والعقل. لا جدوى من تدريب اليد إن لم يتدرب العقل.

إن السبب في اتباع هذه السياسة التعليمية المناهضة للأدب والعلوم الإنسانية هو أن دراسة الأدب لا تضمن عملا ولا ثروة. دراسة الطب تخلق ثروة؛ لأن الناس ينفقون على أجسادهم أضعاف ما ينفقون على عقولهم.

ولهذا التصور السائد جذور نثرت شكوكا ورسخت السؤال: ما نفع الأدب؟ ما نفع الحكايات؟

منذ سنوات، أجاب غابريل غارسيا ماركيز: “لقد فعل الأدب كثيرا في التاريخ، كما جعل العالم أقل اكتئابا. إذا اختفى الشعر والرواية والقصة فلن تكون الحياة سوى زنزانة لا تطاق، تلك القاعة التي تدعى القرن الحادي والعشرين لا يمكن أن تكون مجللة بالستائر السوداء” (ملحق العلم الثقافي 23-1-99 ص 11).

لقد فعلت نصوص ماركيز الكثير، فتحتْ نوافذ وذهنيات وما زالت، وخاصة “مائة عام من العزلة”، رواية طُبع منها أكثر من ثلاثين مليون نسخة، على الرغم من أن سردها ليس خطيا؛ بل إن سطرها الأول هو آخر أحداثها: “بعد سنوات، وأمام فصيلة الإعدام سيتذكر الكولونيل… ذلك المساء البعيد… كانت ماكاندو آنذاك قرية…”.

هي رواية طَبَعت القرن العشرين، ودفعت بكولومبيا إلى مقدمة المشهد السردي كونيا. يوحي تصنيف الرواية ضمن تيار “الواقعية السحرية” بأنها منفصلة عن الواقع. لكن الأمر خلاف ذلك، فحسب المؤرخ الإنجليزي إيريك هوبزباوم: “كانت شخصية الكولونيل أوريليانا بويندا تجسيدا لأولى الانتفاضات التي استمرت على مدى اثنتين وثلاثين سنة في المناطق الداخلية لكولومبيا لا لأنه كان ليبراليا أو حتى عارفا بدلالة الكلمة؛ بل لأنه استشاط غضبا من المسؤول المحلي الذي كان يمثل الحكومة المحافظة”. للنص عمق تاريخي، إذن.

إن الواقعية السحرية مقاربة وأسلوب، وليست موضوعا. يَعتبر هوبزباوم أن الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية هي نتيجة لتأثير السوريالية الفرنسية على الفن والثقافة في الدول الناطقة بالإسبانية والتي فيها تأثير ثقافي وتحرّري فرنسي قوي، ومنها المكسيك وكولومبيا والأرجنتين. في أمريكا اللاتينية ثمانية عشر بلدا من أصل عشرين تتكلم الإسبانية، بقيت البرازيل برتغالية وهايتي فرنسية. وقد أثر الإسباني غارسيا لوركا على شعراء أمريكا اللاتينية حسب هوبزباوم في “عصر التطرفات” ص 317.

الأدب مفيد للسينما

قرأتُ “مائة عام من العزلة” عدة مرات وهي غنية بالصور، فمثلا يصف ماركيز القطار بأنه “مطبخ يجر وراءه قرية”. حين قرأتُ الرواية كنتُ في مدينة صغيرة داخلية، ولم أكن قد رأيت القطار إلا في أفلام الويسترين. لذلك، كان الوصف محرضا على تصور مطبخ تتبعه غرف. دائما في صلة الكتابة بالأكل يتحدث ماركيز عن “الحشوة” في بناء القصة. كما يوجد حمَام محشي توجد قصص محشية. تبدو القصة “المحشية” كسمكة سيُدفع بها للفرن. يبدو أن ماركيز يفكر في بناء قصصه كطباخ. يتحدث أيضا عن طهي الصور في “نزوة القص المباركة” عن طهي الواقع لتجنب استنساخه. فمن يريد البقاء في الواقع لا يحتاج سرد قصة أو صناعة فيلم. من يريد فهم واقعه يحتاج فنا. يحتاج محاكاة ومَفْهمة وتجريدا.

وفي تأكيده على أهمية الأدب يبرز ماركيز حاجة السينما إلى الرواية. لذلك يدافع عن الأصل الأدبي للسيناريو قائلا إن “نقيصة السينما الكبرى على مستوى العالم اليوم لا تكمن في التقنية – ولا حتى في تقنية السيناريو وهي تقنية إبداعية – وإنما في نقص الأفكار الأصيلة” ورشة سيناريو ص123. والحل؟

يجيب: “طالما يتوجب كتابة سيناريو من أجل تصوير فيلم، فإن السينما – السينما الروائية على الأقل – ستبقى خاضعة للأدب. فمن دون هذه الركيزة الأدبية، مهما كانت مقتضبة، لن تكون هناك أفلام”.

الحكاية هي الأصل والتقنية تُتعلم. الغريب هو أن ماركيز يهاجم الفلاش باك في السينما، على الرغم من أنه استخدمه في روايته الشهيرة.

الأدب بين الفرنسيين والإنجليز

لم يبدأ الجدل عن دور الأدب اليوم، ولعل أبرز محطات ذلك الجدل وقع في بداية القرن التاسع عشر كما بيّن هوبزباوم في كتابه عصر الثورة 1779-1848 الذي يكشف عن توجه فرنسي وتوجه إنجليزي. يقول المؤرخ إن السياسيين الفرنسيين كرهوا العلوم وأحبوا الفن، وقد قال لامارتين: “الرياضيات هي أغلال الفكر”. وقد كانت الثورة الفرنسية 1789 ملهمة للفن، في أعقابها ازدهرت الفنون والآداب من فرانسيسكو غويا حتى فيدور دوستويفسكي.

لقد أدخلت الثورة الفرنسية والصناعية تعديلا جذريا على وجود الفنان وأنماط الإبداع لديه. استلهم الفنانون مواضيعهم من الشؤون العامة. وبسبب نشاطه الثوري، حُكم على دوستويفسكي بالإعدام ونفي غويا وفاغنر وعوقب بوشكين. لقد كانوا فنانين “على قدر كبير من الالتزام”. بفضلهم استُبدل شعار الفن للفن، وصار الفن للإنسانية.

على الجانب الانجليزي، “كانت العلوم والتقانة هي ربات الوحي والإلهام للبرجوازية”، فصار الأدب في المرتبة الثانية بعد العلم. لم تعد أغاني الحقل تنفع للمصنع ولا أغاني البحارة الرتيبة تناسب السفن البخارية السريعة، وهكذا حطمت الثورة الصناعية التراث الشعبي. وقد أثر تطور الفيزياء على نشأة وتطوير علم الاجتماع.

بدل الأدب صار للإحصاء وزن كبير في الحديث عن المجتمع، اتضح أن “الإنسان في الليبرالية الكلاسيكية (ورمزه الأدبي هو روبنسون كروزو) كان حيوانا اجتماعيا”، وقد مثل البطل سمات المجتمع البورجوازي أي المصلحة العارية والحسابات الأنانية. وفي هذا السياق، رسخ علماء الاقتصاد السياسي الكلاسيكي أيديولوجية مفادها أن كل ما يخرج عن نطاق المنفعة المحسوبة بصورة عقلانية هو “هراء في هراء” عصر الثورات ص 436. وقد أضر هذا السياق المادي بالأدب، إذ “نُبذ الشعراء خارج الإطار المرجعي الذي وضعه علماء الاقتصاد والفيزياء”.

الشاعر ضد البرجوازي

كردّ فعل انتقامي على النبذ، تمرد الرومانسيون ضد التقاليد وضد من يكْبرونهم سنا (حبا في التمرد تنبأ بايرون أن الموت المبكر وحده سينقذه من شيخوخة محترمة). كان الرومانسي الثوري مهددا بالسجن والزواج والمهنة المحترمة والانجراف مع التيار المادي البرجوازي.

وردا على سوء الفهم، انقض الرومانسيون على البرجوازيين وصدموهم واستلطفوا الجنون والشبقية والبوهيمية لاستفزاز المؤسسات. وقد قال فيكتور هيغو “إن الرومانطيقية هي الليبرالية في الأدب”.

بعد أن يورِد هوبزباوم أمثلة عن فوائد الأدب للتاريخ والسوسيولوجيا وعلم النفس (رواية الإخوة كرامازوف لدوستويفسكي كمتن تجريبي لسيغموند فرويد) يضيف أن بصيرة الشعراء لم تكن أكثر عمقا فحسب، بل أكثر صفاء ووضوحا أحيانا، إذ لم تر إلا قلة قليلة من الناس ما رآه وليام بليك في تسعينيات القرن الثامن عشر من زلزال اجتماعي أحدثته الآلات والمصانع”. يختم المؤرخ “إن التقييم الرومانطيقي للعالم، على ضعفه، جدير بالاعتبار”.

للسرد والفن عامة مهمة النبوءة، تقول بربارا ويتمر: “لقد استُخدم الخطاب الرمزي، كظاهرة مفتاحية، في وظيفته بوصفها نوعا من شريحة الذاكرة الجماعية، التي تسمح بضغط القصص الضرورية للجماعة في معلومات مشفرة يتم نقلها بين الأجيال بجهد قليل من تأمين فهم الثقافة لذاتها، ومن ثمة من أجل بقائها” (الأنماط الثقافية للعنف ص 283).

الخطاب الرمزي يؤمن الفهم، الحكايات تسهل الفهم، والسبب حسب الجاحظ في الرسائل ج3ص239 “إن كثرة السماع للأخبار العجيبة والمعاني الغريبة مشحذة للأذهان ومادة للقلوب وسبب للتفكير وعلة للتنقير عن الأمور. وأكثر الناس سماعا أكثرهم خواطر، وأكثرهم خواطر أكثرهم تفكرا، وأكثرهم تفكرا أكثرهم علما، وأكثرهم علما أرجحهم عقلا”.

واضح أن الحكاية توسع أفق عشاقها. توفر المتعة والمعرفة والتسلية لذلك يحتاج الشعب الحكايات والمسلسلات والأغاني. حسب هوبزباوم، عندما تنعدم التسلية للتخفيف من وطأة الحياة الشاقة الكالحة تحل محلها تجمعات الإحياء الديني. تخلق اللقاءات الدينية تضامنا بين شتات من الناس. وهذا يرعب الدولة القومية التي تريد أن تكون ليبرالية لا دينية.

من هنا، لا بد من الحكايات، لا بد من ترميز التجربة. وإن مهمة الحكي هي إنقاذ القلب البشري من المشاعر العادية وتسليط الضوء على الحالة الذهنية لمتلقيه. يقدم الأدب أجوبة وجدانية ومعرفية لقرائه، وحين يفتقدون هذا يصيرون مهددين. وقد لاحظ محمد عابد الجابري، في ثمانينيات القرن الماضي، أن طلبة الشعَب العلمية في المغرب أكثر قابلية للانتقال إلى التشدد الديني من طلبة الشعب الأدبية ذوي الأفق الأوسع؛ حتى لو لم يحصلوا على وظيفة مريحة.

* ناقد سينمائي

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 3

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب