تسارعت الأحداث المزعجة، وسقطت السياسة في براثن الميوعة، وتدهور المجتمع المدني إلى درجة الحضيض، وتخاذلت الأحزاب وتراجعت فاسحة المجال لبسطاء الشعب للتعبير العامي عن المطالب الاجتماعية بشتى الطرق الشجاعة الراقية الذكية، التي تنم على درجة وعي عال فاجأ العالم بأسره وأبهره، فصار الشعب المغربي قدوة لسائر الشعوب، المتقدمة منها والمتأخرة، بحكمته، وبذكائه، وبصبره المنبعث من اتزان أسطوري اعتبره مثقفون، غاضبون أو متسرعون والكمال لله، جبنا.
هذا شعب طالما اشتكى من حربائية معظم ممثليه، وانتهازية أحزابه السياسية، وغوغائية مجتمعه المدني، في صمت حكيم… ولكنه ارتأى الآن أنه حان الأوان أن ينطلق لإيصال صوته مباشرة وأن يستغني عن جميع مكونات الوساطة الديمقراطية الفاشلة التي لم تستطع إفساح المجال لمثقفين شرفاء حكماء وطنيين موضوعيين، يؤمنون بوجود فكر مغربي نير محض، لم يكتب ولم ينشر بعد، قادر على تعويض فكر فلاسفة أنوار القرون الماضية لأنه فكر أضحى بائدا، أو استنفد مدة صلاحيته…
هذا شعب انطلق في التعبير العفوي الصادق بدون قيادة ولا تأطير. خطر خطر. لا بد لكل حركة مجتمعية من تأطير، ولا بد للسلطة أن تتأقلم مع الأشكال الجديدة للتعبير عن المطالب، مادامت فنية سلمية سليمة لا تبغي عنفا ولا تطمح سوى إلى السلامة، لأن في ذلك تفاؤلا عاما في مستقبل أفضل رغم التعثرات الاقتصادية والمشاكل المالية التي يمكن تجاوزها ولو بدت شديدة مستعصية.
نعم، مادامت هناك مطالب سلمية إبداعية فهذا يعني أن الشعب مازال متفائلا، وهذا يعني أيضاأن الشعب لم يفقد نهائيا ثقته في السلطة التي عليهاأن تحسن الإصغاء والفهم، وأن تجند الكفاءات الفكرية بأقصى سرعة من أجل البحث عن الحل الشامل، وابتكار برنامج علمي معقول دقيق لمعالجة كل المشاكل، بأسلوب مبسط في متناول الجميع لا يعتمد على الأرقام قدر الإمكان، ولا على المقاربات المعقدة العقيمة التي لا تغني من جهل في آخر المطاف.
نحن في حاجة إلى تكوين لجان محلية، تحت إشراف لجنة مركزية، من المثقفين المغاربة الوطنيين الموضوعيين من غير السياسيين وأصحاب المصالح، ومن غير الوجوه المستهلكة إعلاميا، لتقديم حلول فكرية، وليس لإعادة عد المشاكل إلى ما لا نهاية، أو من أجل التنافس حول من يبرز التناقضات ببلاغة لغوية أو بأقوى صيغة لفظية لدغدغة العواطف، أو لمجرد استعراض قدرات كلامية بلا فائدة تذكر، في تكرار ممل لكل التجارب الفاشلة الماضية…
وفي انتظار نضج الأفكار والمقترحات الشمولية وتبنيها رسميا، لدينا مشكل طارئ ألا وهو الاستياء الشعبي المتصاعد الذي يجب معالجته على وجه السرعة.
فنظرا للركود السياسي العام، ونظرا لحاجة الناخبين إلى تغيير منقذ أو نفس جديد، ستكون الأمور أفضل، في القريب المنظور، لو تم التخلي عن اللائحة الوطنية، لأن الفترة الماضية كانت كافية لتأهيل النساء والشباب لخوض غمار الانتخابات بكل مسؤولية كمواطنين أكفاء، مع اعتماد غرفة واحدة في البرلمان ونمط الاقتراع الأحادي الإسمي في دورتين؛ وذلك، بطبيعة الحال، في انتظار ابتكار فكرة مغربية سديدة في المستقبل القريب، إن شاء الله، لبلورة عقد اجتماعي وطني دقيق جديد، يستفيد من كل التجارب التاريخية الدولية، ويراعي جميع الخصوصيات المحلية، ويمكن من تدبير شؤون المواطنين بطريقة أفضل، تجعلهم سعداء لا يشعرون بالغبن فلا يغضبون من جهة، وتجعلهم يساهمون في الدورة الاقتصادية بمعنويات مرتفعة من جهة أخرى.
فرصة أو فرص سانحة في الأفق لا يجب هدرها بأي شكل من الأشكال… رفع المعنويات أولا، ثم طمأنة العقول ثانيا. ثمة الوصية والنصيحة. وسيكون المغرب والمغاربة بخير إن شاء الله. والله أعلم.