تأملات على هامش قراءة رسائل صوفية

تأملات على هامش قراءة رسائل صوفية
الثلاثاء 5 فبراير 2019 - 12:55

(1)

لا يهمني في هذا المقال كثيرا الاختلاف الأزلي والسرمدي حول التصوف ورجالاته ومقولاته، فيبدو أن كلَّ طرف مُتمَترسٌ خلف مواقعه ومتشبّث بمواقفه، ولن يقع تزحزحٌ في هذه المواقف والمواقع – في نظري – مادام لـ”الفكر الوهابي” حضور قويّ وصولة في ثقافتنا وواقعنا. وليس هدفي – أيضا – أن أدافع عن رجل مجرد ذكر اسمه يجعل البعض ينتفض احتجاجا على من يعتبره رمزا من رموز الخرافة والرجعية والسكونية، والهروب من مجابهة الواقع ومواجهته، واستقالة للعقل، وارتكانا للمحافظة المانعة من التقدم. وإن كنت – في الحقيقة – أشفق غاية الإشفاق على أناس سيتَصرّمُ عمرُهم دون أن “يتذوقوا” – للأسف – معارفَ منتجةً لمعانٍ توجد خارج نطاق العقل ومنطقِه المجرد. وإنه – والله – لخسارة عظمى أن يغادرَ الإنسانُ بعد قضاء عمر في إعمال العقل، وترتيب المقدمات، والنظر في الأسباب، واستنباط للقواعد والقوانين، ليكتشف – يوم لا ينفع الاكتشاف – أن أبعادا أخرى أرقى وأفيد وأمتع قد فاتته يوم كان من سكان هذا العالم، حينئذ – طبعا – لن يفيدَ علمٌ ولا معرفةٌ من أي نوع كانت، فلا صوت يعلو يومئذ على الكسب وما قدمت اليد.

(2)

هدفي – إذن – بعيد كل البعد عن الجدال حول قضية تحالفَ الجميعُ على تشنيعها دون أن يُتعبوا أنفسهم في التّدقيق والتّحقيق والاقتراب من عوالمها، والتي تشترط أولا، وقبل أي حديث، القدرةَ والقابليّةَ على “التجريب”، ولكنه تجريب مُكلِّف على مستوى المواقف والعمل والأخلاق، وهذا ما يرفضه بعض خصماء التصوف، فهم – بالفعل – مغرمون بالتجريب، ولكن بشرط ألا يُلزمهم بشيء، وأن يكون بعيدا عن خطاب الأمر والنهي الأخلاقيين، وأن يكون “عائما”، غير مشدود لأية نقطة ارتكاز أخلاقية.

(3)

مقدمة خفيفة من وحي قراءة ثانية لرسائل مولاي العربي الدرقاوي (1737 ـ 1823 م) ( إذن الأمر مرتبط بهذا المُخرّف الكبير…وَقُولا مْ الصباح..!!) هذه الرسائل التي جمعها بنفسه، وكان يهدف من وراء كتابتها أن يقيّد “ما يَرِدُ عليه من معانٍ”، وما يتشارك مع تلامذته من “مذاكرة” حتى لا تضيع بعد وفاته أو تُحرَّف، لأنه أدرك – مع تواضع ثقافته – بأن المكتوبَ أبقى من الشفهيّ وأكثر انتشارا منه.

لقد كتب رسائله لـ”مريديه” بلغة القلب التي لا تهتم كثيرا بالصّنعة وما يتبعها من زخارفَ وتَوْشياتٍ، بينما يتقدّمُ فيها التبشير والرحمة والمعاني التربوية دون إغفال للحكمة والتأويل، ولكنه تأويل ضارب في أعمق أعماق العوالم في تعدد أبعادها.

ولكن – كما قلنا – كل إشاراته وعباراته تدفعك لركوب طريق التجريب، فـ”خالف هواك – كما يقول – إذ ذاك ترى عجبا”، و”جرب أن تبتعد عن الحس لترى كيف تتقوى فيك المعاني”، التي هي “مثل ما للبحر من الأمواج” في تنوعها وتعددها.

(4)

تَذاكَرَ “المُربِّي” في رسائله مع تلامذته حول قضايا كثيرة، وأغلبها عزيز، وقد بانت من خلالها مُكنَتُهُ وصالتُه. لقد تذاكر حول: علاقة الحسّ بالمعنى، العزلة وعلاقتها بصفاء الفكرة وأصالتها، النفس باعتبارها كَوْنا، علم الولي ومعرفتُه، التصدر للتربية الإحسانية، الوساطة التربوية، رؤية النبي، وجود كل العوالم والأبعاد هنا والآن، علاقة النفس بالروح، الذكر، الاشتغال بالأوامر والنواهي الإلهية المفضية إلى الاستقامة باعتبارها أعظم الكرامات، حياة القلوب، السببية، التخلي والتحلي، قضاء الحوائج المادية والمعنوية، مخالفة الهوى باعتباره مُجْلبا للعلم الوهبي، خرق العوائد بين النورانية والظلمانية، الإذن الصوفي، الشريعة باب الحقيقة الوحيد، شرط الصحبة في السلوك التربوي، حقيقة الوجود والموجودات، أسرار الربوبية وإفشاؤها…

ليَعدْ الباحثُ إن شاء إلى الرسائل فهي متاحة في طبعتين، الأولى محققة في الخليج (1999م)، والثانية غُفلا في المغرب. وسواء كان بحثك أكاديميا صرفا، أو بحثا عن ما يمنح الروح الصفاء والطمأنينة والسعادة، فستجد ضالّتك، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها كُتبت في ظروف مختلفة اجتماعيا، فخذ واترك.

(5)

لماذا ـ إذن ـ عندما نتحدث عن التصوف نُحسّ وكأننا نمشي في منطقة الخطر، إلى درجة أن المتعاطف مع قضاياه يخاف أن يُصنَّف في خانة الخرافيين والمستقيلين عقليا؟

تموقف الوهابيين الأقحاح من التصوف أو “الممسوسين” بشظايا فكرهم مفهوم ولا يثير الاستغراب، فهم يعتقدون أن هذا “الطريق” خارج الشرع – كما يفهمون الشرع – ويضعون كل رجالاته – تقريبا – وإنتاجاتهم ومصطلحاتهم في سلة واحدة، سلة البدع، إن لم يكن الكفر. أما موقف الحداثيين فيثير الاستغراب، بل الاشمئزاز، بسبب انتقائيتهم الممجوجة، فهم يُشْبِعون ما يسمى بـ”التصوف العملي” تهكما وتنكيتا، لأنه ببساطة – وكما سبق الذكر – مُكلّف على المستوى الأخلاقي العملي، أي أنه – بكل وضوح – يقف ضد أهوائهم وغرائزهم. في حين يحتفلون أيّما احتفاء بنصوص “التصوف الفلسفي” ومقولاته المبهمة، ومن ثم “القابلة لكل صور التأويل” مهما كانت بعيدة، بشرط أن تخدم الاديولوجيات الرافضة للالتزام بشعائر الدين العملية. ويكون احتفاؤهم أكبر عندما يتعلق الأمر بتلك المقولات والأشعار المجتزأة التي يُفهَم من ظاهرها القول بتساوي الأديان، مهما كان بعضها محرّفا، وكذا تلك التي تدعو للتسامح والسلام، وكأننا نحن من يشعل الحروب وينشر الكراهية في العالم.

(6)

ما سماه التاريخ تصوفا، سماه البلاغ القرآني النبوي سلوكا نحو الإحسان، وهو درجة ومقام في الدين، والانحراف الذي وقع فيه بعض رموزه: قولا وعملا أمر عاد جدا في طريق خطرة شرطها التجريب، ولا يتحمل مسؤوليته المبدأ والمعيار، بل مَرَدُّه إلى عدم التزام أولئك بأخذ الحيطة والحذر اللازمين في مثل هذه المسالك.

والعاقل، من داخل البنية الثقافية طبعا، عليه أن يستوعب جيدا أن هؤلاء قد حافظوا من جهتهم على جزء من الميراث النبوي، كما حافظ غيرهم من المحدّثين والفقهاء وعلماء الكلام على أجزاء أخرى بعد ما تفرق هذا الميراث في الأمة إثر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وزحف الملك العضوض وسيطرة الاستبداد على واقع المسلمين.

(7)

وأسأل أصدقائي المثقفين: ما هو في نظركم أكثر الكتب مقروئية وانتشارا بين القراء العرب – المسلمين عبر كل تاريخهم، هل هو “رسالة” الشافعي، أم “موطأ” مالك، أم “إحياء” الغزالي” أم “تمهيد” الباقلاني، أم “رسائل” إخوان الصفا”، أم “رباعيات” الخيام، أم ديوان المتنبي، أم “بداية ونهاية” ابن كثير، أم فتاوى ابن تيمية، أم “مقدمة” ابن خلدون، أم “بنية” الجابري؟ ولا واحد من هذه العناوين. البحث التاريخي أثبت أن هذا الشرف الرفيع حازه كتيب صغير يعرفه الجميع تقريبا واسمه “دلائل الخيرات” لرجل صوفي اسمه الإمام الجزولي. وهو مجموعة من الأدعية والأوراد والأحزاب، أي أنه – أولا وأخيرا – كتاب محبة وعمل. سيسارع البعض للتأكيد على أن هذا كتاب “العوام” بامتياز، ومؤشر دال على العلة والمرض وليس على العافية و العنفوان. وإنما هو “الهوى” يدافع عن مواقعه !

وهل يمكن أن ينكر أحد أن جزءا عظيما من الأدبيات في الثقافة العربية على طول تاريخها، إن لم يكن أعظمها، هو عبارة عن تراجم ومناقب وسير وطبقات، وأن أغلبَها ذاتُ طبيعة صوفية. ترى هل كان أسلافنا مجموعة من المجاذيب والخرافيين والمريدين فاقدي العقل والإرادة والفعل؟

(8)

هل هذا استدعاء للتصوف كي يعود ليسودَ حياتنا الفردية والجمعية كما كان سابقا ؟ كلا، ولا يمكن أن يقول به سَوِيٌّ، بل هذا نداء “للاستقامة في الفهم والحكم” أولا، ثم صرخة لننفض الغبار المتراكم عن قضية ظلمها التاريخ كثيرا وشوّهَها كلَّها فضاع لُبَْها.

أما من يُروِّجُ لمقولة “المستقبل للإسلام الروحاني” فيدسُّ السّمَّ في الدّسم كما يقال، فهم يقصدون بذلك الانتصار للجانب “السلبي” في التصوف، أي ترك مالا يعني، والاشتغال بخاصة النفس، ولعن الاشتغال بالسياسة والمدافعة، كما يفعل أغلب الطّرقيّين الآن في كل الأنحاء، والذين تحوّلوا، أو قل أحسن حُوِّلوا، إلى “دراويش السلطة” يُستخدمون طواعية في مواجهة كل حركة تغييرية، خاصة إذا كانت ذات نفس إسلامي.

نحتاج في زمننا هذا ليس إلى تصوّف كما هو في صورته التاريخية، بل إلى تصوّر ينشغل بالحياة وإشكالاتها، ويعارك الظلم ليقيم دولة العدل والحرية. يفعل ذلك وكأننا في هذه الدنيا مُخَلَّدون أبدا. وفي نفس الوقت يهتم بتربية الإنسان الفرد، في أخصّ خصوصياته، ويُخلي الطريق أمام عقله وقلبه ويُعَبّدُها كي يعرفَ خالقَه، ويتهمّم بآخرته. ويفعل ذلك بحُرقَة من لا يشك طرفة عين بأن موتَه غدا. (هذا خطاب وعظي سَيُسِرُّ بعضهم!) وإنها ـ لعمري ـ معادلةٌ صعبة جدا حار في حَلّها الأكابر، وتاه في شعابها آخرون. قَال معاذُ بنُ جَبَل رَضِيَ اللَّهُ عنه: “يا ابنَ آدمَ أنت مُحتاجٌ إلى نَصِيبِك من الدُّنيا وأَنت إلى نَصِيبِك من الْآخِرَةِ أَحْوَجُ فَإِن بَدَأْت بِنَصِيبِك من الْآخِرَةِ مَرَّ بِنَصِيبِك من الدُّنيا فَانْتَظَمَهَا انْتِظَامًا وإِن بدأْت بِنَصِيبِك من الدُّنيا فَاتَك نَصِيبُك من الْآخرةِ وَأَنت من الدُّنيا على خَطَر”.

‫تعليقات الزوار

3
  • مهتم
    الأربعاء 6 فبراير 2019 - 11:38

    سعى المتصوفة من خلال الزوايا إلى إقامة دويلات بالمغرب في مرحلة ما بعد الموحدين مما أسهم في تعميق الانحطاط الحضاري للمغاربة، دون أن ننكر أن لهؤلاء إسهامات متعددة على المستوى الاجتماعي والعسكري (محاربة المحتل الإيبيري) … بالمقابل فإن العصر الرقمي الذي نعيشه يتطلب منا حضورا ذهنيا قويا لكي نتمكن من مسايرة المستجدات العملية وهو الأمر الذي لن تتمكن دولة المتصوفة من تحقيقه.

  • مسلم مغربي
    الأربعاء 6 فبراير 2019 - 15:34

    بكل تأكيد،من فاتته معرفة الله في سفرية الحياة فاته كل شيء؛بل لم يعرف حتى نفسه؛لأن الغاية القصوى والمطلقة هي الله الله؛ " كان الله والباقي الله "،كما يقول العارفون بالله؛من لم يعرف مولاه لم يتذوق حلاوة الإيمان ولم يتمتع بحبه لله وحب الله له؛لئن كان العطاء الرباني يشمل جميع الخلق،فالعطاء الإلهي خاص للعباد الأصفياء الأتقياء؛صفوة القرل:منتهى العلم لا اله الا الله،وهو التوحيد،ومنتهى العمل طاعة الله،وأن تجعله عليك رقيبا قريبا؛وهذا لا يخص شخصا بعينه؛"فباب الله ليس عليه بواب"،كما يقول أجدادنا؛وهو يسع الجميع وخزائن الرحمن عظيمة تسع الكون وما أخفى؛وكل من أقبل بصدق على الحبيب يلقى المحبة والأنس اللذان يفضيان إلى رضا الله وهو غاية كل العارفين؛الإقبال على الله هو عبادته بعلم:" اقرأ "وخذ العلم من أفواه العلماء فلكل نصيبه،ومن بطون الكتب فبكل كتاب حكمة،فيعلمك الله بالإلهام والموهبة والهبة والعطاء لتستمر بثبات في الدعاء والذكر وسجود الشكر متذللا راجيا خائفا؛حقيقة فيها تصوف سني وفيها كذلك سلفية وفيها وفيها…،وكل الطرق تؤدي إلى الكعبة؛لكن كن فيها عبدا لله مسلما وكفى والصلاة والسلام على الرسول المصطفى.

  • rachid
    الخميس 7 فبراير 2019 - 10:54

    والله صدقت معادلة صعبة الجمع بين الدنيا و الاخرة و ان تسلك مقام الاحسان ان تحافظ على جذوة الايمان متقدة بين اضلعك طوال وقتك ….احيانا يرتقي الايمان بالانسان حتى ليكاد يصافح الملائكة في الطرقات و احيانا اخرى تهوي الى اسفل سافلين فتقرا القران فلا يكاد يجاوز حنجرتك وكاتك لم تعرف الايمان قط

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55

تقنين التنقل بالتطبيقات