حِبْرُ الأُسْتَاذ مِن دَمِه

حِبْرُ الأُسْتَاذ مِن دَمِه
الأحد 3 مارس 2019 - 11:27

تزامنًا مع اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، عرف الشارعُ المغربيُّ يوم الأربعاء 20 فبراير مظاهرات وطنية ضمّت آلافا من الأساتذة الذين فُرض عليهم التوظيف بالتعاقد. كنا في ذلك اليوم بصدد تعريف العدالة الاجتماعية، محاولين أن نقيس درجة فعالية هذا المبدأ على الأداء السياسي للحكومة، وأن نجد سبلا لمناقشة أزماتنا الاجتماعية، وأن نقف في لحظة تأمل نرصد فيها ما أسست له الحكومة ومدى استجابتها للمطالب الشعبية، ونحدد مكامن الخلل التي تستدعي حتما الضغط على الجهات المسؤولة لتفعيل ما تعاقد عليه الشعب المغربي في الوثيقة الدستورية وضرورة تفاعل الحكومة بفتح حوار وقياس نتائج سياساتها وإستراتيجياتها على الواقع الاجتماعي للمواطنين.

ونحن نحتفي بهذا اليوم العالمي ونسترجع ذكرى تأسيس حركة 20 فبراير التي نشأت في سياق مجتمعي خاص وشكلت نقطة قوة في المسار الديمقراطي المغربي، تفاجأنا بظلامية التعامل مع احتجاجات الأساتذة الذين فُرض عليهم التعاقد.

وللتوضيح، فالميثاق الوطني للتربية والتكوين قام بإدراج نظام التعاقد في توظيف الأساتذة الجدد، بتفويت مجموعة من اختصاصات الإدارة المركزية إلى الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، حيث جاء في المادة 135 من هذا الميثاق: “يسمح بمزاولة مهمة مدرب أو مدرس لمن توافرت فيه الشروط التي تحددها السلطات المشرفة على التربية والتكوين، ويراعى في تحديد إطارات توظيف المدرس مبدأ الحفاظ على جودة التأطير في جميع المستويات. ويتم تنويع أوضاع المدرسين الجدد من الآن فصاعدا، بما في ذلك اللجوء إلى التعاقد على مدد زمنية تدريجية قابلة للتجديد، على صعيد المؤسسات والأقاليم والجهات، وفق القوانين الجاري بها العمل”. كما أكد على إقرار التعاقد المخطط الاستعجالي الذي جاءت به وزارة التربية الوطنية.

وهنا تجدر بنا الإشارة إلى أن نظام التعاقد الذي يفرض على الأساتذة الجدد فيه ما ينافي الدستور انطلاقا من مبدأ المساواة الذي ينصّ عليه الفصل 6 في فقرته الثانية: “تعمل السلطات العمومية على توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين، والمساواة بينهم، ومن مشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية”. إن الفوج الجديد من الأساتذة لن يكون لهم نفس الوضع القانوني لزملائهم الخاضعين لقانون الوظيفة العمومية. ومن ثمّ، فإن توظيف الأساتذة بالتعاقد تبعا لعجلة مخطط الوزارة الوصية سيخلّف نتائج شديدة السلبية تمسّ بالأساس علاقة المواطن بالمنظومة التعليمية؛ نذكر من هذه العواقب:

– عدم استقرار الوضع الاجتماعي للأساتذة؛ فالتعليم قطاع دائم ومستمر، وبالتالي فتوظيف الأساتذة بالتعاقد يعد أمرا مجانبا للصواب، لأننا لسنا نستقطب موارد بشرية أو خبرات لمدة معينة، بل نحن أمام شباب حديثي التخرج وفي أوج عطائهم، فكيف يمكن للضمير المجتمعي أن يقبل على هذه الفئة الحرمان من الإدماج في الوظيفة العمومية، علما أن أجورهم تسدد من المالية العامة؟

– ضعف المردودية إذ لن يكون، في الواقع، باستطاعة الأستاذ الذي تخرج من سلك الإجازة أن يواكب بمهنية المقررات الدراسية مباشرة بعد التوظيف؛ لأنه لم يخضع لأي تكوين بيداغوجي معمّق، عكس زملائه المدمجين في الوظيفة العمومية. وإذا نسجنا موقفنا على منوال من يجزمون تحسين المردودية قياسا على تقلص معدل غياب الأساتذة، فمجموعة من الأسئلة تطرح على أذهاننا بإلحاح لمعرفة هل الوجود الجسدي للأستاذ أكثر أهمية من تحفيزه النفسي لاستقبال المتعلمين؟ هل إجبارية الحضور تحت تهديد فسخ العقد قادرة على جعل الأستاذ شغوفا بتبسيط المعلومة للمتعلم؟ هل الأستاذ المواظب على الحضور سيتمكّن من كسب ثقة المتعلم وأولياء الأمور مقارنة بزملائه الذين خضعوا لسنوات من التكوين والتدريب؟ هنا يكمن السبب الرئيسي وراء شلل المرافق العمومية بالمجتمعات العربية، بجعلنا من مسألة التحفيز والتكوين الذاتي للمواطن أمرا ثانويا، وهاجس الدولة كله هو أن يسجل الموظف حضوره ليتقاضى أجره نهاية الشهر. نغلق نوافذ النور ثم نبحث ونتفحّص كيف لنا أن نخرج من عتمة الظلمة.

– غياب الحماية الإدارية للأستاذ المتعاقد وتفشي الظلم و”الحكرة”؛ عكس الأساتذة الخاضعين لقانون الوظيفة العمومية، فالأستاذ الذي فرض عليه التعاقد غير محمي من لدن الإدارة، فبقراءتنا لعقد الإذعان الذي تفرضه الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين، نلمس وكأن الأستاذ المتعاقد يشتغل لدى مدير الأكاديمية تحت حراسة المفتش وليس في مؤسسة عمومية، كما أن نسبة كبيرة من حقوقه غير معترف بها في ذلك العقد. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، نجد في الفصل 19 من قانون الوظيفة العمومية: “يتعين على الإدارة أن تحمي الموظفين من التهديدات والتهجمات والإهانات والتشنيع والسباب التي قد تستهدفهم أثناء القيام بمهامهم، وتعوض إذا اقتضى الحال وطبقا للنظام الجاري به العمل، الضرر الناتج عن ذلك في كل الأحوال التي لا يضبطها التشريع الخاص برواتب التقاعد وبضمانة الوفاة، حيث أن الدولة هي التي تقوم مقام المصاب في الحقوق والدعاوي ضد المتسبب في الضرر”؛ وهو ما ليس له وجود في عقد الإذعان الذي تفرضه الأكاديمية الجهوية، على الرغم من كل ما تعانيه مدارسنا من عنف داخلي قد يلحق الضرر النفسي أو الجسدي بالأستاذ. هذا دون إعادة التذكير بهشاشة حماية الأستاذ المتعاقد فيما يخص شروط الإقالة التي من المفروض أن تمر بعدة مراحل نجدها تتلخص بكل بساطة وبشكل غير مسؤول في”فسخ العقد وإنهاؤه” عند ست حالات مذكورة في العقد.

– نفور المواطنين من مهنة التدريس؛ بتسوية الأجور مع تكريس اللاّمساواة المهنية سيفقد قطاع التعليم نُبْله ولن يكون طموحا للمواطنين، فالخيار “الإستراتيجي” الذي يهدف إلى سد الخصاص سيلقى حصارا من لدن الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد بنضالهم ومشاركتهم في إضرابات في مستهل السنة الدراسية أو منتصفها، ثم في حال تعنّت الجهات المسؤولة بعدم قبولها إدماج الأساتذة قد يأتي جيل آخر لن يهتم لشأن هذه المهنة نظرا لهفوات الإطار القانوني المنظم لها.

ومازالت لائحة النتائج السلبية لفرض نظام التعاقد على الأساتذة عديدة كلّها ترفع من حجم التوتر بين المواطنين وبين المنظومة التعليمية.

قطاع التعليم في المغرب كان دائما يشكو من عِلاّته، حاله على ذمة التدخلات الاستعجالية؛ غير أن الحكومات التي تتولّى التدبير دائما ما تعبث بمعدّات العلاج وتتعمد إزالة جهاز التنفس عنه بحجة إثبات رؤيتها “الفعّالة” للتحسين من وضعيته، والحال أننا نزيد من اشتداد أزمة التربية والتعليم بعدم توصّلنا إلى طموح جماعي على غرار الإرادة الشعبية.

وبناء على ما سبق، فإن إقحام نظام التعاقد في توظيف الأساتذة سيسجّل نكسة قطاع التعليم. وفي غمرة هذا الوضع المستهجن، لا بد أن نقف عند تعثّر إصدار القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم دستورية القوانين كما ينصّ عليه الفصل 133 من الدستور، والذي بموجبه يمكن للمواطن أن يلجأ إلى القضاء الدستوري للدفع بعدم دستورية قانون معيّن، حيث كان من المُرَجّح أن الأساتذة الذين يودّون ولوج مهنة التدريس، وفي ظل الأكاديمية الجهوية التي تفرض عليهم نظام التعاقد، أن يلجأوا إلى السلطة القضائية للدفع بعدم دستورية العقد على أساس غياب مبدأ المساواة كما ينصّ عليه الفصل 6 من الدستور، حيث نجد أن هناك مفارقة بين الأساتذة المدمجين في الوظيفة العمومية وزملائهم المتعاقدين. لكن الولادة المستعصية لذلك القانون التنظيمي حالت دون ذلك، ويمكن للقارئ الكريم التفضّل بالرجوع إلى قرار 18/70 الصادر عن المحكمة الدستورية التي بتّت من خلاله عدم تطابق عدد كبير من فصول هذا القانون التنظيمي مع الدستور.

وختاما، أستحضر مقتطفا من كتاب مستقبل الثقافة في مصر للسيد طه حسين، حيث يقول إن: “الدعامة الصحيحة للحرية الصحيحة إنما هي التعليم الذي يُشعر الفرد بواجبه وحقه، وبواجبات نظرائه وحقوقهم، والذي يُشبع في نفس الفرد هذا الشعور المدني الشريف، شعور التضامن الاجتماعي الذي يجعله حريصا على احترام حقوق نظرائه عليه، ليحترم نظراؤه حقوقه عليه”.

إن الدفاع عن المنظومة التعليمية هي قضيتنا جميعا، وكل فرد منّا عليه أن يجعل من تجربته ومعرفته قيمة مضافة لإحداث إصلاح جذري ينهض بالمنظومة التعليمية. لذا، ينبغي دائما تركيب القوانين بطريقة يفهمها العقل المجتمعي، وهنا أغتنم الفرصة لمؤاخذة مقرّر التدريس الجامعي بكليات الحقوق على إلغائه لمادّة سوسيولوجيا القانون التي تدرس بالأساس شروط إنتاج القوانين وفقا لواقع المجتمع.

*باحثة في العلوم السياسية

‫تعليقات الزوار

6
  • علي
    الأحد 3 مارس 2019 - 17:26

    الظلم ظلمات و الحق لا يضيع مادام وراءه طالب و مدافع عنه

  • الجامعة
    الأحد 3 مارس 2019 - 18:40

    التعاقد في الدول المتقدمة نجده في التعليم العالي الجامعي وفي المعاهد والمدارس العليا المتخصصة من اجل الاستفاذة من الكفاءات سواء من الداخل أو الخارج، ولهذا انظر الجامعات في كندا وفرننسا والولايات المتحدة …يعمل فيها بالتعاقد اساتذة من كل الجنسيات تقريبا لان المهم هو الكفاءة العلمية والمردودية والبحث العلمي ، بينما في الجامعة المغربية الاستاذ ضعيف جدا ولا ينتج منهم الا القليل القليل لان هذا الاستاذ موظف ولا يهمه الا الراتب الشهري فماذا تنتظر من هذه الجامعة

  • MOHAMMED MEKNOUNI
    الأحد 3 مارس 2019 - 19:28

    20 فبراير ، بالنسبة لي هي من تسببب في حكومة فرضت التعاقد وعلى الجميع أن يتذوق مرارة التقليد الأعمى الذي أوصل المغاربة لهذا الوضع الإرتهاني لحكومة فاشلة وفشلها يكمن في قوانيها التي شرعتها وهي غير عليمة بالبعد القانوني لإختياراتها الجوفاء التي أزمت المواطن المغربي آملا
    إجراء إنتخابات سابقة لأوانها لأن الوطن يئن تحت وطأة الإسلام السياسي المتضلع منظريه في إستحمار المواطن المغربي بعدما ركنوا زوجاتهم وأبنائهم في البرلمان والمرافق العمومية وهلم جرا وحتى لا أنسى التقاعد الغليظ الذي أصبح يتقاضاه الرئيس المعزول ولا شك سيتقاضاه وريثه،( الله يحد الباس ).

  • contre les contrats
    الثلاثاء 5 مارس 2019 - 11:59

    l'aveuglement du mouvement 20 février ,mouvement qui a rejeté tout le monde,makhzen et partis politiques,situation favorable au parti opportuniste obscurantiste islamiste pjd qui a giflé le 20 f pour se mettre au service du makhzen,le 20 f n'a rien compris,alors il a offert sa victoire au pjd qui a imposé le contrat aux enseignants dans le but de compléter la taklikha de l'arabisation imposée par le parti du mal,l'istiqlal,
    alors pas de mouvement irresponsable comme le 20 f,donc pas de mouvement politique profitable aux islamistes,des mouvements pacifiques continus pour rejeter ces contrats contraires au droit à l'égalité des fonctionnaires de l'état

  • محمد البيهي
    الثلاثاء 5 مارس 2019 - 13:15

    مقال رائع و الإشارة إلى القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم دستورية القوانين مهمة جدا .تحياتي أستاذة إيمان

  • فاطمة كدو
    الثلاثاء 5 مارس 2019 - 13:28

    أعجبني العنوان كثيرا.. و طبعا محتوى المقال و نبرته النقدية.. دمت بهية

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02

وزير النقل وامتحان السياقة