بؤس الليبرالية الجديدة واستفحال مُشْكِلة التشغيل

بؤس الليبرالية الجديدة واستفحال مُشْكِلة التشغيل
الثلاثاء 9 أبريل 2019 - 08:52

العَمَلُ هاجِس الناس المؤرق، خاصّة كلّ مؤهّل منهم في كوينه وعلمه. غير أنّه في الوقت الذي فشلت فيه السياسات المتبعة لإنعاش سوق العمل بمحاربة بطالة الخرّيجين الشباب، ظلّت بعض الأسئلة الحرجة معلّقة، مثل: هل يمكننا تصوّر عالمنا بلا عمل؟ وكيف نستطيع تصوّر اقتصاد بلا وظائف ؟ هل بدأ عصر التحوّل عن النمط الحديث للتشغيل إلى عهد اعتماد الذكاء الاصطناعي في كلّ شيء؟

عادة ما يعلّق الفاعلون السياسيون الاقتصاديون الأمل على العناصر نفسها التي سبق لها وأن أفرزت ظاهرة بطالة الخرجين. تسجّل هذه المعضلة بؤس السياسات الليبرالية المتبعة حتى اليوم، والتي لا تريد أن تأخذ بالاعتبار ما هو جوهري في المسألة، وهو أنّ نمط الإنتاج الرأسمالي المعولم لا يعمل سوى على تركيز الثروة في يد نفس مالكيها المحتكرين.

لكن بدخول الذكاء الاصطناعي على خطّ مجال الإنتاج والعمل للتعويض عن ضعف إنتاجية العمل الإنساني، تفاقمت الأزمة أكثر. فبعدما كان العمل يقتصر بالضرورة على الجهد البشري من خلال العضلات والمجهود الفكري، حيث كانت للتايلورية حاملة لمشعل التقدم في هذا المجال؛ ظهر الجانب السلبي للعمل المتسلسل متمثلا في تكثيف وتضخيم ظروف الحياة من جهة، ونزع الطابع الشخصي عن العمل من جهة أخرى (ميشال درانكور).

كان التشغيل الشامل نتيجة حتمية للإعداد للحروب الكبيرة كما في الحرب العالمية الأولى والثانية حيث كانت ساخنة، أو عندما كانت باردة في ما بعد الحربين الكبيرتين حيث الصراع الأيديولوجي يحفّز الاستعداد للحرب ويستنفر القوى للعمل والاجتهاد. هذا ما أشار إليه “بيير باسكالون”، أستاذ الاقتصاد ونائب برلماني، وهو أحد الاقتصاديين القلائل الذين تجرؤوا على طرح السؤال: هل يمكن أن نخرج من الأزمة عبر الحرب مرّة أخرى؟

سؤال الحرب، هذا، يبدو في مواجهة أزمة لا تقبل الحل، وهو كما لو أنّه يستبطن الجواب الكارثي عبر تصريف الأزمة من خلال إشعال فتيل الحروب. لكن، هل يحلّ الحرب مشكلة العمل؟ صحيح أنّ الإنسان لا تعوزه الوسائل والحجج للبحث عن أقرب السبل لتبرير حماقاته، غير أنّ الأزمة الاقتصادية الحالية تنفرد بكونها متشعّبة ومعقّدة نظرا لتسابك الاقتصاد العالمي نفسه. وقد يبدو من حسن الحظ أنّ الحرب الكونية أقل احتمالية على المستوى العالمي اليوم نظرا لتشابك المصالح وتداخلها، ولعلّ هذا ما لاحظه “بيير باسكالون” بنفسه، مذكّرا أنّ الحرب إذا كانت قد قادت فيما مضى إلى التشغيل الشامل، فذلك لا يعني أنّها الحل لتجاوز معضلات الاقتصاد العالمي المتأزم.

لكن، مع كلّ التقدّم الذي تخطّه الإعلاميات والتطبيقات البرمجية في مجال التصنيع والإنتاج والعمل، يبدو أنّه ليس وحده مجموع العمل الميكانيكي هو الذي يترابط بدون أي تدخل إنساني حقيقي ولا مراقبة أيضا؛ بل إعداد العمل ذاته ومراقبته وتنظيمه وتوقعه وتسييره؛ وهذه كلّها أمور يلحقها التغيير الآن بوتيرة سريعة. ولعلّ “أومرون” (Omron) اليابانية التي تشكل في بلد اليابان لوحدها ما شكلته الميكانيكا الإرسالية (Télémécanique) المنصهرة الآن في شركة “شنايدر” (Schneider) بفرنسا، ابتكروا النموذج المسمّى “سيليك” (Silic)؛ حيث يتعلق الأمر بإعداد المجتمع “الأمثل”.

فاقت الوثيرة التي يريدها أصحاب رؤوس الأموال في انجاز العمل كلّ القدرات الطبيعية للبشر، فغدا إدخال الروبوتات لا مفرّ منه لكسب رهان المنافسة الشرسة. لذا؛ أصبح لزاما إعادة التفكير في طبيعة الشغل نفسه، حيث إنّ العمل كما ينجز اليوم لم يعد بحاجة إلى اليد العاملة التقليدية، وهذا الأمر هو ما يرّق الناس ويشكل الشغل الشاغل للمجتمعات الراهنة التي من خاصيتها أنّها مجتمعات ما بعد الشغل.

تحوّل التشغيل الشامل في عصرنا الحالي إلى مجرّد حلم خيالي بعدما عمدت القوى الرأسمالية إلى استدماج الذكاء الاصطناعي في كلّ مناحي الإنتاج الصناعي والخدمات. ولعل بؤس الخطابات الأيديولوجية للقوى الليبرالية الجديدة قد وصل أوجه باستمرار آلتها الأيديولوجية في إيهام الناس بإمكانية التقدّم اللانهائي على هذا النحو. وعلى خلاف ذلك، يظهر في عصرنا الراهن أنّ التشغيل الكبير، مثلما كان عليه الأمر في القرن الماضي، قد ولّى وبلا رجعة؛ أو هكذا يظهر، على الأقل، مع الثورة الصناعية الثالثة والرابعة التي تبشّرنا بإحلال الروبوتيك محلّ البشر.

لقد تآكل عهد العمّال شيئا فشيئا جراء اكتساح تكنولوجيا المعلوميات وبرمجيات الذكاء الاصطناعي مساحات هامة وواسعة في مجال الشغل والعمل. لذلك لم يعد الشغل بديهيا كما في العصر الحديث، وإنّما أصبح استثناء تاريخي في عصر سيطرة التوجّهات الليبرالية الجديدة. في هذا الإطار، حذّر “جيرمي رِفْكن” من أن نهاية الشغل، بالشكل الدراماتيكي الذي يحدث به في مطلع الألفية الثالثة، قد يجعل الحضارة الإنسانية تندثر وتنمحي نهائيا، حيث يتهدّدنا المصير الخطير لتطوّر التكنولوجيا بالاستبدال الكبير للبشر بالإنسان الآلي.

يحدث هذا في الغرب الصناعي المتقدّم، حيث الاقتصاد قوّي مقارنة بالعالم الثالث الذي ننتمي إليه. لكن ماذا عنّا نحن في المغرب؟ الواقع أنّ المتأمل في وضعنا سيصاب بالتشاؤم وهو يعاين وضعية شباب متعلّم، أو غير المتعلم في البوادي، لا يجد ما يعطيه الأمل في إيجاد فرصة عمل تقيه البؤس والفقر والبطالة التي تتسيّد المشهد. أمّا تلك الكائنات الحزبية الريعية الفاحشة الثراء، تلك التي تزايد على هذا الوضع القائم بمهاترات سياسوية، ومناوشاتها المصطنعة، لتأثيث مشهد سياسي عفن، فإنّه يصدق عليها قول الشاعر المتنبي:

جَوعـانُ يأكـلُ مِـن زادي ويُمِسكُنـي ++++ لِـكَـي يُـقـالَ عَظِـيـمُ الـقـدرِ مَقـصُـودُ

‫تعليقات الزوار

5
  • nos richesses
    الثلاثاء 9 أبريل 2019 - 09:17

    le maroc possède des richesses visibles pouvant assurer la vie continue des marocains:
    la terre,les mers,le soleil,des richesses qu'il faut protéger et utiliser d'une façon propre;
    la terre,agricultures,et élevages,obligation de reboisement des terres nues pour rendre le climat moins agressif, le sahara à reboiser par des arbres spécifiques qui existent dans d'autres pays,étude d'une possibilité de conduire les eaux de mer en zones basses,maintenir la qualité des sables qui vont être très demandés ,recherche des produits en sous sol,
    le soleil,les énergies voltaiques à développer en même que celles de vent,
    les mers dont il faut absolument surveiller leur propreté contre les pollutions diverses et ainsi augmenter leurs rentabilités ,sans oublier de s'équiper de bateaux avec la formation des cadres marins en tout genre,
    attention ne pas trop compter sur l'industrie autos diesel mais électriques

  • ملاحظ
    الثلاثاء 9 أبريل 2019 - 13:32

    قد نتفق جميعا على انتقاد النظام الليبرالي الجديد وتحميله كل الازمات والموبيقات التي تعيشها الانسانية حاليا وقد نمضي وقتا طويلا في تعداد كوارثه لكننا ننسى ان هذا النظام جاء بديلا لفشل الانظمة السابقة له
    فأن لم نكن قد لامسنا وشاهدنا العواقب المفجعة للنظام الاشتراكي والذي إعتمد كليا على تخطيط الدولة لكل مجالات حياة المواطن فتورم هذا الجهاز لتصبح الدولة جهازا بيروقراطيا وبوليسيا قمعيا وإستبداديا أتي على حرية التفكير بل اتي على ارواح المواطنين
    لو لم نكن قد شاهدنا ولامسنا هذه الحقيقة لطرحنا النظام الاشتراكي كبديل لما يعلنه كشعارات كالمساواة وتقاسم الثروة والدولة في خدمة المواطن وقد ظهر ان ما هي الا شعارات زائفة
    المهم ليس هو نقد النظام الليرالي الجديد بل تغييره بإيجاد بدائل إجرائية او على الاقل أصلاحه وهذا امر ليس بالهين وقد لا يكون في المتناول

  • بلال
    الثلاثاء 9 أبريل 2019 - 14:09

    كلما سمعت مسؤولا يتحدث عن دعم المقاولات وحرية التبادل والمنافسة أشعر بالغثيان،اشتراكيو الأمس هم ليبراليون و اسلاميون اليوم !! هذا عبث و عدم شعور بالمسؤولية، نحن اليوم بلد زراعي متخلف تابع لاقتصاد صناعي متقدم يحقق أرباحا على حساب بؤسنا وفقرنا وان وقع في أزمة نعوض خسائره رغما عنا ، الليبراليون واشقاؤهم الإسلاميون لا يؤدون سوى إلى مزيد من التأخير، تأخير الوعي الثوري (والثوري عن حق) الذي وحده القادر على إدخالنا إلى التاريخ من أوسع ابوابه

  • عبدالحق
    الثلاثاء 9 أبريل 2019 - 16:56

    ربما العمل لثمان ساعات في اليوم و القيام باعمال تتطلب القليل من الجهد العقلي هي المهددة بالثورة الصناعية الرابعة مع الذكاء الصناعي كما حدث عندما حلت الالات المكانيكية مكان الجهد العضلي في الاعمال التي كانت كانت تتطلب تكرارا لنفس الحهد البدني في الثورة الصناعية السابقة , لكن تبقى الاعمال التي تتطلب ابداعا ولمسة انسانية و المقاولة حيث يتبع الانسان فكرة ليحولها الى منتج من خلال الدراسة و التسويق و الادارية و غيرها من كفاءات ستبقى مطلوبة و قد يتحول العمل الى عمل مرن و متغير وليس وظيفة يستمر الانسان فيها حتى تقاعده . احتمالات المستقبل مفتوحة

  • عبد الوهاب
    الثلاثاء 9 أبريل 2019 - 19:50

    الثورة الصناعية الرابعة تعني تغيّر وتبدل مفهوم الشغل رأسا على عقب، أو هكذا يمكن أن نفهم من خلال تحليلات بعض الدارسين للمستقبليات. المهم، أنّنا مهدّدون بفقدان الظائف والكثير من مزايا النظام التقليدي القائم على مفهوم الوظيفة المستقرة؛ لكن من جهة أخرى سوف يستفيد ذوي العقول النيرة والخيال المبدع من مزايا الثورة الرابعة خاصة ذوي التكوين العلمي والفكري الرصين. في حين سوف يتراجع دور العامل بالمعنى القديم الذي يعوّل على جهده العضلي فقط.

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32 7

احتجاج أرباب محلات لافاج

صوت وصورة
"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 15:07

"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء

صوت وصورة
“أش كاين” تغني للأولمبيين
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:52 1

“أش كاين” تغني للأولمبيين