عندما يستهزئ الخطيب بالعقول

عندما يستهزئ الخطيب بالعقول
الجمعة 26 أبريل 2019 - 02:31

قطيعة الخَـطابـة مع الـمعرفة

إن ارتفاع مستوى المعرفة لدى الجمهور الـمـتـلقي يمثل تـحدياً لمهنة الخَــطابة. إن كانت الخَطابة في أصلها باباً من أبواب المعرفة Knowledge فإن المعرفة باتت في تطور حثيث من حـيث كثافـتُها المستـفـيضة والإنتاجُ والتوزيع وتحكمُها في كل التخصصات وترشيدها لجميع القطاعات في الدول الحديثة. المـتلـقـي للخَـطـابة هو موضوع المعرفـة ومــنـتجها وناشرها في الوقت نفسه، وقد أضحى في تطوير ذاتي مستمر يصبح ويمسي عـلى ما استجد ونـما في تخصصه. لا تكاد توجد مؤسسة في العالم الحديث لا تـستـثمر في مستخدميها بالـتـغـذية المعرفية من خلال الدورات التديبية من أجل رفع مستوى الإنتاج. لـيس يلزم الخَطــابةَ اليوم مواكبةُ المعرفة في تطورها السريع فحسب، بل يُــنـتـظر توجيـهـها للمعرفة؛ كما يُـفـتـرض أن تشتمل على المعرفة العالِـمة النظرية الأكـاديمية والمعرفة الـديـداكـتيكية التطـبيقية التي من شأنها تبسيط النظرية وإخراجها وتكييفها وترجمتها إلى خطوات عملية ملموسة، وتوجيه المتلقي لاكـتشافها، والتدليل على مؤسسات إنتاجها بالإحالة على مرجعيتها الصلبة.

“يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ” [سورة الجمعة:آية2]. والحكمة إنما هي مهارة تنزيل المعرفة النظرية [الإجمالية] وتحويلها إلى الممارسة [الفرعية العملية].. تَـمثـل ذلك في السنة الفعلية التطبيقية التي جسدت علوم الوحي وحولته إلى تَـخـلـق ميداني.

جُـردت الخَـطابة من المعرفة بـشقيها فظلت راكـدة قاصرة سجينةَ مجالها الوعظي البرتوكولي، فلا هي وُضعت قيد الدراسة والنقد ولا طرقت باباً للمناهج والآليات المعرفية المتاحـة، فلم تعد تختلف بأمستردام عن نـظـيـرتها بمداشر المغرب وقُـراه، وبالتالي يئس المتلقي من أن تحـمـل الخطابة من جينيات الـتغـيير شيئاً. الجماهير المُسلِـمة تعتقد أن الخطاب الإسلامي ينفرد بـقيم مضافة لا تُــعرَض في سوق المعرفة مثل سؤال الأخلاق، والهُـوية، وكرامة الإنسان ضداً على تـشـييـئه. كما ينتظر المـتلـقي من الخطابة المقاربة المعرفية للـتربية والتعليم والأسرة وترشيد المؤسسة الدينية الغارقة في أوحال الجهـل. فــقـطيعة الـخـطابة مع المعرفة جعلت الهــوة سحيقة بين المنـتـظَـر- مـواكبة سيرورة المعرفـة، والمنتظِـر- المتلقي الباحث عن التحصيل المعرفي والتغذيةFeedback المركزة بعيداً عن العموميات.

الإنسان يبلغ مبلغ الرشد

نَـضـج الإنسان، صار راشداً، والرشد عند الفقهاء هو: الصلاح في العقل والقدرة على حفظ المال. به تُــلغى الوصاية، وضده السفاهة. أوقـف الله بعثة الإنبياء لتــمـدن الإنسان ومبلغه مبلغ الرشد، حيث صار قادراً على أن يختار: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي [سورة البقرة 256] فحصول الرشد علة لرفع الإكراه المقتضي لحرية الإرادة. من خصائص الإنسان المعاصر المتلقي للخطابة اليوم: الرشد والانعتاق والنقد والتحليل والصراحة والاستقلالية والتساؤل والتواصل والفحص والإطلاح والقراءة والتفكيك وغيرها من مفاهم الرشد.

المنافسة في الـخَـطابة

كل شيء مُــعَـوْلم، وكل معولم يلج اليوم عالم المنافسة، بهذا تلج الخَـطـابة مجال المنافسة بدورها من بين الخَطابات المتواجدة بـسوق المعرفة. كل الأيديولوجيات تُــعرَض بانفتاح وحرية وإلغاء للحدود والقيود على الفكر والقـناعات بلا قِـناعات؛ فالمعلومة متاحة للجميع. المتلقي تتقاسمه الخَطابات المتعددة المنضبطة المسلحة بالمعرفة العابرة للقارات مخترقة للحواجز دون استئذان. هذا التنافـس من شأنه أن يرغم ممارس الخَطابة على الديناميكية والابتكار وإبداع طرق جديدة للتعامل مع جمهور مـتعلم مستقـطَـب من لدن حرفـيـين مهرة ممتهنين للخطابة في أعلى درجة الجودة والتسويق.

في المقابل تقع خَطابتنا من فضاء المعرفة في ركن بعيد تـئن هزيلة على استحياء محتشمة تستحق الشفقة والرثاء؛ كما هو شأن خطابة بعض برلمانيي الرباط عندما يــحـطـبـون [بالحاء المهملة] خارج التاريخ وقد تجاوزهم الزمن جاهلين أو متجاهلين وعـي الجماهير التي باتت تحقق مكتسباتها بيدها بعيداً عن مسرحياتـهم.

وتبقى الـخَـطابة

رغم سيطرة وسائل الاتصال الاجتماعي لازالت الخطابة تفرض نفسها على مُــهج الجماهير منذ ميلادها في العصر اليوناني ونضوجها في العصر الجاهلي، وصقــل مواهبها في العصر العباسي بفضل المعتزلة وأهل الكلام.. تظل الـقوة التي تُحـدث المفارقة وتحول المسارات، بواسطتها يــسحب الساسة البساط من تحت أرجل خصومهم غداة الاقتراع، ليس ببرامجهم السياسية. ومن الخطب التي صنعت التاريخ خطــبة: عـنـدي حُـلْـم لـمارتن لوثر كينغ، والخطبة العذراء لقيس بن خارجة، والشوهاء لسحبان بن وائل، أول من استعمل كلمة أما بعد [فصل الخطاب] في أحد الروايات من خلال قولته المشهورة: إذا قلت أما بعد أني خطيبها. وخطبة طارق بن زياد، وخطبة إبراهام لينكولن المعروفة بخطبة جيتيسبرج

أخــيراً

لا تقتلوا الخَــطابة، إنها صناعة الوعي وبوابة التغيير وتشكيل العقل.. زمام القلوب والتأثير في القرار والاختيار، الحافز المحرك والإقناع الممكن والقيادة والجرأة والاستمالة والتأطير والإلهام والكلمة النافذة والقول الفصل والإعــلام الـحـر؛ في فضائها ولــدت الجماهير التي باتت مضطهـدة وفيها لمحت حـلمها في السماء فتسلقت نحوه وانسلت من لباس الذل والقهر. لم تعد الجماهير في زمن المعرفة الفائضة قطيعاً تستسيغ كل ارتجال عار من النظر والاستدلال، فاحترموا عقولها ولا تستهـزؤا بها.

‫تعليقات الزوار

3
  • ابونهم
    الجمعة 26 أبريل 2019 - 19:38

    "يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" [سورة الجمعة:آية2]. والحكمة إنما هي مهارة تنزيل المعرفة النظرية [الإجمالية] وتحويلها إلى الممارسة [الفرعية العملية]
    فصلت موضوع الحكمة وتغاضيت عن الْكِتَابَ عن قصد هل من تفصيل لهذه الكلمة

  • Peace
    الجمعة 26 أبريل 2019 - 23:25

    الخطابة هي فن و قد تصبح مهنة, و لكن لها تعريف محايد, اي ان من يجيد الخطابة ليس بالضرورة ان يكون حكيما او له نوايا صادقة. لذلك فالسكوت في زمن احتراف الخطابة من طرف الشعبويين مثلا في السياسة و الاسلاميين في الدين و ترك المجال لهم مفتوحا صراعيه بدعوى انه هناك طابوهات او الحياء و "الله لا يستحيي من الحق" او لانهم لا يريدون التفرقة اكثر او يخافون من المواجهة و و و او لانهم في سبات عميق ينتظرون رحمة ربهم و رشدا كاصحاب لكهف…

    هناك امثلة كثيرة في القران الكريم "الله لا يستحيي من الحق" و ايضا ما قاله هارون لموسا عليهما السلام: " قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) طه

    إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) الكهف

  • Peace
    السبت 27 أبريل 2019 - 06:12

    اما الخوف من المواجهة:

    يقول الله تعالى:
    وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) البقرة

    الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) الاحزاب

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) المائدة

    هنا الجهاد لا يعني بالضرورة بالسيف, و انما يمكن ان يكون بالقلم او الخطابة او الذكر و الصلاة, لانه في كل هذه الحالات يمكن ان يتعرض المؤمن للاذى او القتل و الغدر…

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 2

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 1

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 2

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز