من أجل بعث روح وفضاء "تومليلين"

من أجل بعث روح وفضاء "تومليلين"
الإثنين 29 أبريل 2019 - 19:25

كان لقاء مؤثرا ومليئا بالمشاعر العميقة، ذلك الذي أتاحه لنا المخرج حميد درويش بالمكتبة الوطنية بالرباط، عندما قدم لنا فيلمه الوثائقي “أجراس تومليلين”.

يحكي الفيلم عبر الصورة والتعليق والشهادة قصة دير رهبان عرفته منطقة “تومليلين” بناحية أزرو بالأطلس المتوسط،، ما بين 1952 و1968، حيث تمّ إنشاء دير للرهبان البنيديكتيين Moines bénédictins ، الذين عاشوا لمدة 16 سنة بهذه المنطقة، وتعرفوا على سكانها واقتسموا مع أبنائها المرّ والحلو، وساهموا في تعليم الكثير من أطفال المنطقة الذين أصبحوا اليوم أطرا عليا ودكاترة في العديد من المجالات، وعايشوا مسيرة المغاربة من أجل التحرر والاستقلال من الحماية الفرنسية، وكانت لهم مواقف شجاعة وصادقة في هذا المجال. ولأن الدير كان يحتوي على داخلية خاصة باليتامى، وعلى مكتبة كبيرة غنية بالكتب الثمينة والنادرة، فقد كان الرهبان يفتحون أبوابهم لكل تلاميذ المنطقة حتى يستفيدوا من مرافق الدير، ومن الأفكار المحمودة التي كان يعمل بها الرهبان، أنهم كانوا يخصصون لقاءات تكوينية للتلاميذ في فترات الاضطهاد التي كانت تدفع سلطات الاستعمار إلى إغلاق المدارس والثانويات ضدا على العمل الوطني والمقاومة المغربية، فكان التلاميذ المغاربة من أبناء المنطقة يجدون في ضيافة الرهبان فضاء يسمح لهم بالتحصيل والدرس والتثقيف. وقد بلغ عدد المستفيدين من الدير في تلك الفترة ما يناهز 18000 فردا في السنة.

بذل مخرج الفيلم وفريقه جهدا كبيرا في تجميع المعلومات والصور وشهادات الأحياء من المعنيين بهذه القصة، سواء منهم الرهبان أو الأطر المغربية والباحثون المختصون، ونتج عن هذا الجهد الكبير فيلم جميل يقدم صورة نبيلة عن بلدنا المغرب، صورة فقدناها بسبب الانسلاخ اليومي عن ذواتنا، وسقوطنا في براثن الإيديولوجيات العابرة للقارات، والتي ساهم في إقحامها في فضائنا المشترك أحزاب سياسية وتنظيمات دينية بنت إيديولوجياها على مرجعيات أجنبية وغريبة عن ثقافتنا الوطنية.

ما يثير الانتباه في تجربة دير “تومليلين” هو قوة الإشعاع الذي استطاع أن يحدثه في وقت وجيز، فعلاوة على اضطلاع الرهبان بمهام مساعدة السكان والأطفال وتعليمهم ومعالجة أمراضهم، وتوعيتهم بالجوانب البيئية والصحية، بتواضع جمّ وروح إنسانية عالية، مع الامتناع عن ممارسة أي نشاط تبشيري، فقد استطاع هؤلاء الرهبان الذين كانوا يتمتعون بثقافة واسعة، وبتكوين فلسفي ولاهوتي عميق ، أن ينظموا في هذه الفترة التي عاشوا فيها بين ظهرانينا لقاءات حوار وتبادل دولية حضرها كبار فلاسفة ومفكري تلك الحقبة، وكان الهدف إسماع كلمة الحكمة وإيقاظ الضمائر بلفت الانتباه إلى القيم الإنسانية الأكثر سموا، وأهمها الإخاء بين البشر، وقيم التضامن والتعاون والعيش المشترك، والحوار بين الأديان والحضارات. ومن أبرز فلاسفة تلك المرحلة الذين حضروا لقاءات “تومليلين” الفيلسوف الفرنسي ليفيناس Levinas والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي، إضافة إلى عشرات الجامعيين والمثقفين الكبار والطلبة من المغرب وفرنسا والعالم، كما استقبل رهبان الدير السلطان محمد الخامس وولي العهد الأمير الحسن، والعديد من الشخصيات الوطنية والدولية المؤثرة، وكان محمد الخامس يستقبل في قصره الأساتذة والمفكرين المحاضرين في “تومليلين” تكريما لهم. كما كان لـ”شيخ الإسلام” محمد بالعربي العلوي موقف مشرف من الدير ورهبانه، حيث كان يحثّ الساكنة على التعامل معهم بثقة تامة. كان الجميع يدرك أهمية ما يحدث بتولميلين ما عدا شخصيات وقيادات حزب الاستقلال التي ما فتئت تقوم بالتحريض ضدّ الدير ورهبانه انطلاقا من مفهوم خاطئ للوطنية المغربية، واعتمادا على أساليب كانت تتنافى مع الواقع ومع أبسط مبادئ اللياقة والاحترام، إلى أن تمّ إغلاقه سنة 1968. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأساليب هي نفسها التي اعتمدها الحزب المذكور في معاملة الأمازيغ المغاربة والأقليات الدينية كاليهود والبهائيين، والتي أدت لمدة طويلة إلى اعتبار الأمازيغية مؤامرة استعمارية، واعتبار اليهود غير مرغوب فيهم مما سهل ترحيلهم إلى إسرائيل، والمطالبة بالحكم بالإعدام على البهائيين المغاربة.

لقد شهد جميع المغاربة الذين استفادوا من رهبان “تومليلين” بأن هؤلاء لم يقوموا أبدا بأي عمل تبشيري، بدليل أن الذين كانت لهم علاقة مباشرة بالرهبان لم ينتقل أي أحد منهم إلى المسيحية، لكن الجميع بالمقابل شهد بأن أثر هؤلاء الرهبان على ساكنة المنطقة كان في غاية الأهمية من الناحية القيمية والعلمية.

لقد أتاح لنا فيلم “أجراس تومليلين” فرصة الاستماع إلى بعض هؤلاء الرهبان ممن بقوا على قيد الحياة، والذين يعيشون اليوم في فرنسا، وقد استشف الجميع من نبرات أصواتهم، ومن صدق كلماتهم، حنينا قويا إلى تلك التجربة الفريدة التي عاشوها بالمغرب، واحتراما عظيما لساكنة منطقة أزرو التي عاملتهم بحسّ إنساني عميق.

ومن المشاهد المؤثرة في الفيلم الوضعية المزرية التي آل إليها الدير بعد أن غادره الرهبان، حيث صار اليوم جدرانا صدئة متهالكة وأبوابا ونوافذ مهشمة، كما تحولت حدائق المكان إلى مزابل.

في مرحلة أصبح فيها مجرد المزج بين ابتهالات إسلامية وترانيم مسيحية ويهودية في أمسية فنية يثير موجة من الكراهية في بلد الحضارات هذا، تحمل ذاكرة “تومليلين” من المعاني ما ينبغي بعثه اليوم في ظل وضعية يحتاج فيها بلدنا إلى تلك القيم التي احتضنها فضاء الدير قبل عقود، ومن تمّ وجب العمل من أجل ترميم الفضاء وإعادته إلى سابق عهده، وتخصيصه للتنشيط الثقافي والفني، ولعقد اللقاءات الوطنية والدولية في الحوار والتناظر والتبادل، إحياء لذكرى أولائك الرهبان الذين علّموا من كان في محيطهم معنى المزج بين التواضع ونكران الذات والحكمة الإنسانية والإصغاء إلى الآخر.

‫تعليقات الزوار

14
  • عروبي
    الإثنين 29 أبريل 2019 - 19:46

    نادرا جدا ما نجد سوسيا ينتقد الحركة الامازيغية ! رغم انها حركة عنصرية تهدد المغرب في وجوده ؟ رغم انهم يرفعون راية المظلومية !!

  • KITAB
    الإثنين 29 أبريل 2019 - 21:06

    المثير للشفقة والألم هو تعاملنا مع تراثنا التاريخي بهذه اللامبالاة والاستخفاف فكم من صوامع شامخة وصروح للعلم اندرست ولم يعد لها أثر بعد عين، وبالمقابل وكما هو ملحوظ لكل سائح يقف مثلاً على أطلال طليطلة وقرطبة واشبيلية بإسبانيا سيتبادر إلى ذهنه وكأنها فقط شيدت بالأمس القريب وهي ابنة قرون خلت… إنها الثقافة تفعل فعلها في التاريخ والسياسة…. الأستاذ يعلم جيدًا كم للمغرب من صروح اضمحلت وتحولت إلى ركام من الأتربة والحجارة، مثلاً مسجد أحمد الذهبي بمراكش والمنارة وسجن قارة ووو صهريج السواني وحصون اسماعيل ووو أين هي الآن تحولت إلى خرائب، نعم الأستاذ أثار نقطة على جانب كبير من الأهمية، أين هي مدارس ومعاهد ومؤسسات المستعمر الإسباني في المغرب ؟ فقد كانت تعد بالعشرات… ولما سألت بعضا ممن عايشوا صدر الاستقلال أفادوني بأنها تم تخريبها ودك حصونها بمجرد حصول المغرب على استقلاله لثقافة دينية جاهلة بأن كل ما يمت بصلة إلى "النصراني" فهو حرام !! لم أعثر ولو على سجل واحد يتصل تاريخه بمدرسة إسبانية في الشمال، وتحياتي

  • عبد الله
    الإثنين 29 أبريل 2019 - 21:33

    الواقع يكذب ما تقول يا كاتب المقال، بل إن كل الجماعات المسيحية المتواجدة في المنطقة( توفصلت ،تومليلين،بن الصميم، عين اللوح….)هدفها الوحيد هو التبشير مع استغلال الوضعية المادية الهشة للفئات الفقيرة بمنحها مساعدات وعطايا ( منح العيد، ملابس مستعملة…) الى جانب التكفل بمصاريف الدراسة التي لا تخلو من تدريس التعاليم المسيحية والانجيلية والتي أعطت نتائجها حيث أعرف بعض من درسوا في مؤسساتها وتشبعوا بمبادئها وأصبحوا من معتنقي المسيحية.

  • خليل
    الإثنين 29 أبريل 2019 - 22:57

    يا سلااااااام، الكاتب المحترم يتباكى على أطلال صرح استعماري تبشيري بكاء شاعر يهيم حبا في عشيقته، متناسيا أن معظم أسباب مصائبنا جاءت من الاستعمار وتكالب القوى الغربية علينا، وهو ما كلفنا قتلى بالملايين وحروبا وصراعات دامية لا زلنا ندفع ثمنها إلى يومنا هذا، بل تم تدمير دول وحضارات عريقة ونهب كل مآثرها وتحفها كما حصل للعراق الذي نزف الملايين من القتلى والجرحى والمهجّرين بسبب جشع طغمة من أباطرة البترول بواشنطن وبتحفيز من اللوبي الصهيوني، لذا فبدلا من تباكيك على دير تبشيري كان أحرى بك أن تتباكى على الآلاف من القتلى الذين أزهقت فرنسا أرواحهم بدم بارد في شتى أنحاء المغرب، ولأننا نعلم بأن أرواح الشهداء المغاربة العرب لا تساوي عندك شيئا، فكان أحرى بك أن تتباكى على أرواح إخوانك البربر على الأقل الذين فتكت بهم قوات المستعمر بلا شفقة ولا رحمة

  • تجولت..
    الإثنين 29 أبريل 2019 - 23:09

    تجولت في الفايسبوك فلم ارى بغالا و لا ضباعا شر من احباب عصيد و كسيلة من أصحاب راية العقرب…قنبلة في يد فرنسا تفجرها متى شاءت

  • ابن جندي رحمه الله
    الثلاثاء 30 أبريل 2019 - 00:22

    تمنيت لو تطرقت الى إنجازات هؤلاء المبشرين والى كل الاعمال التي قاموا بها على ارض فرنسا لابناء جلدتهم إبان الحرب العالمية الثانية .لان الجنود المغاربة الذين حرروا فرنسا وخاصة القاطنين منهم بالجنوب المغربي لم يحصلوا لا على تعليم ولا على كتب ولا على طباشير لا من رهبان الكنائس هنا ولا بفرنسا .

  • Bilawane
    الثلاثاء 30 أبريل 2019 - 07:28

    دير تومليلين حقيقة يعرفها أهل البلد ، من نواحي أزرو و إفران ، تجربة إنسانية فريدة، فاسألوهم ان كُنتُم في زيارة للمنطقة، وبعد ذلك إستغفروا ربكم من تعاليقكم الخاطئة ومن حقدكم الدفين لشخص وقلم سي عصيد

  • Maatouk
    الثلاثاء 30 أبريل 2019 - 11:23

    وعايشوا مسيرة المغاربة من أجل التحرر والاستقلال من الحماية الفرنسية
    Comme le faisait le suppôt du colonialisme Charles de Foucauld
    Assid, constatant que son militantisme douteux pour la cause de le la langue fabriquée dans les labos de l'IRCAM n'aboutira jamais cherche refuge auprès des catholiques français
    Assid à cherche de la béatification

  • كاره الضلام
    الثلاثاء 30 أبريل 2019 - 12:14

    من انبل ما قام به هدا الدير هو ايواءه للعملاق العبقري الجيلالي الغرباوي في عز محنته النفسية و الراحة التي قدموها له هناك
    انت قلت كلمة جيدة و هي انهم كانوا يمتنعون عن التبشير و هدا جيد لان اي نشاط تبشيري كات سيفرغ اعمالهم الخيرة تلك من معانيها و يحولها الى فهل شيطاني قبيح و مغرض، و لكنك كلامك هدا فيه تناقض مع كلامك بخصوص زيارة البابا الدي نشرته على اليوتيوب و دافعت فيه عن حق المسيحيين في تالتبشير في المغرب و نفيت ما قالته الصحافة من كون البابا دعا المسيحيين المقيمين في المغرب ال الامتناع عن التبشير، و جيد ايضا انك لم تنسب دلك التسامح و الانفتاح الى الرهبان النصارى وحدهم و اعترفت للمغاربة ايضا بالنبل و الضيافة و هدا امر لا ينفيه الا مستلب حاقد،نحن المغاربة شعب طيب مضياف متسامح و سنبقى كدلك رغم كل شي شريطة ان يكون الضيف دا نية سليمة ،كل من يمر من بلدنا و هو يكن لها الحب نحن نحبه و نحتضنه او حسب تعبير العربي باطما:
    السايح اللي يجي عادي
    عادي
    ما يعادي
    كل من يمر من هنا بكشل عادي و من غير عداء فهو مرحب به في بلاد الكرم و الحب الانساني

  • البير نويل والأحدية
    الثلاثاء 30 أبريل 2019 - 13:03

    لو كانت الدير تنفع لنفعت ديارها في جبال البيريني وفي جبال الألب .كم من دير في أدغال إفريقيا وفي أستراليا من شمالها الى جنوبها منذ 200 عام والفقر والامية والكراهية بين القبائل والحروب والمجاعة والتهجير والسيطرة مستمرة بإسم الانسانية والأخلاق العالية . لست بحاجة إلى إنسانية "البتي بان والConditinnement فالشكلاط " .

  • Maatouk
    الثلاثاء 30 أبريل 2019 - 15:01

    À l'approche de Noel , dans chaque classe il y'avait un sapin et les instits demandaient aux élèves marocains de les décorer avec guirlandes et des boules lumineuses et scintillantes et de faire des dessins symbolisant cet événement. Voilà ce qui se passait dans les écoles françaises du royaume et notamment à Azrou.
    Pour Assid ceci n'est surement pas une forme d’évangélisation des marocains

  • بوتزكاوت
    الثلاثاء 30 أبريل 2019 - 15:34

    ردا على تعليق 1 عروبي
    اذا كانت الحركة الامازيغية عنصرية فماذا ستكون حركة التوحيد والاصلاح حركة نازية !؟ ودراعها السياسي حزب العدالة والتنمية, حزب الاستقلال حاملي الفكر والاديولوجية العروبية القومجية ومن المضحك ان المشارقة ينعتونكم بشتات الرومان وجبناء فرنسا

  • mourad
    الثلاثاء 30 أبريل 2019 - 17:49

    لا أفهم لماذا يعتبر المغاربة من يقوم بالتبشير بالمسيحية شريرا بينما يعتبرون من يقوم بالتبشير بالإسلام في الغرب "مجاهدا" ويعتبرون ذلك "صحوة مباركة"، غريب أمر المسلمين . إنه التخلف والسلام.

  • فضاء اسراگ 1978
    الثلاثاء 30 أبريل 2019 - 21:13

    لا أظنك تعلمت اللغة العربية والفرنسية والانجليزية وكذا الفلسفة على كراسي وبين أحظان أباء الكنائس والدير في القرى المجاورة لإغرم ن تارودانت .الفضل كل الفضل يعود لللغة العربية التي منها جذورك و إليها يعود نسبك ( السكاك ) .

صوت وصورة
وزير الفلاحة وعيد الأضحى
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 17:34 1

وزير الفلاحة وعيد الأضحى

صوت وصورة
تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:12 1

تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين

صوت وصورة
احتجاج بوزارة التشغيل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:02 2

احتجاج بوزارة التشغيل

صوت وصورة
تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 15:15 2

تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات

صوت وصورة
حملة ضد العربات المجرورة
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 11:41 20

حملة ضد العربات المجرورة