ابن يجبش التازي .. قصة ظهائر سلطانية..

ابن يجبش التازي .. قصة ظهائر سلطانية..
الأربعاء 1 ماي 2019 - 04:53

بين منفرجة وصرخة جهاد يائسة ومخطوط “تنبيه” يئن الى حين تحقيقه

دون خوض في أصول الشيخ ابن يجبش الاجتماعية، لما في الأمر من تضارب في الاجتهاد والرأي والوثيقة والرواية..، هو محمد بن عبد الرحيم بن يجبش التازي دفين تازة، أديب صوفي اهتم بعلوم الدين واللغة والفقه والنحو والعروض، كان صديقاً للامام السنوسي صاحب “العقائد” الذي كانت له معه مراسلات عدة. والى جانب ما تميز به ابن يجبش كفقيه أديب ناظم ناثر. عُرف بقصيدة”المنفرجة” التي سلمها ابنه أبو عبد الله لإبن القاضي أبي العباس أحمد بن محمد المكناسي، وهو الذي أفاده أيضا بوفاته بتازة عام 920ه. وقد ورد أن الشيخ الهبطي دخل يوماً على ابن يجبش بمنزله بتازة وكان مريضاً، وأثناء حديث بينهما عن معنى الوصال سقط هذا الأخير مغشياً عليه. وإذا كان ابن يجبش قد أدرك ابراهيم التازي الشهير بسلطان الأولياء دفين وهران وأخذ عنه، فقد كان عاشقاً لا يفارق السماع بقصائد له فيه ومن أكابر العلماء العارفين فصيحاً صوفياً بشأن في ذلك.

وحول منزلة بن يجبش التازي الفقهية والصوفية في مغرب بني وطاس، ورد أنه لما ذاع صيت أبو عبد الله الغزواني الذي توفي في أواسط ثلاثينات القرن العاشر الهجري وكثر أتباع زاويته ببلاد الهبط، وبعدما تضايق السلطان أبو عبد الله محمد بن الشيخ الوطاسي من شعبيته، أمر بالقبض عليه خاصة وأن الدولة كانت تمر بضعف واضطراب شديد. ولما نقل الشيخ الغزواني لفاس للمثول أمام السلطان، وبعدما سكت جميع أعضاء مجلس السلطان الذي كان من بينهم عامل تازة أبو العباس أحمد بن محمد الشيخ وشقيق السلطان، تكلم كاتب وإمام صلاة السلطان طالباً من الغزواني الاجابة حول المنسوب اليه، والمتعلق بهداية الناس وانهائهم عن المنكر حيث استجاب له من استجاب وأبى من أبى. فكان جواب الشيخ الغزواني هو مطالبته بالسكوت حتى يغتسل من جنابته، وعلى اثر ما أحدثه هذا الرد من غضب تدخل أخ السلطان الذي كان حاضراً موضحاً أن الجنابة في فهم الصوفية هي غير ما هو معروف لدى عامة الناس، وأن المتصوفة يقصدون بذلك غموض المشاعر الاخلاقية. ولما سُئل الأمير أخ السلطان عن مصدر معلوماته أجاب بأنه تلقاها من سيدي محمد بن عبد الرحيم بن يجبش، فارتاح السلطان لجواب أخيه والتفت للشيخ الغزواني راجياً منه أن يكون قريباً منه وأن يستقر بفاس.

ولعل شعور عدد من العلماء والمتصوفة بضعف الدولة خلال هذه الفترة، كان وراء تحريك ضمائرهم وإدراك ما عليهم من مسؤولية تاريخية غير مألوفة. ومنهم ابن يجبش التازي الذي ارتبط خطاب اصلاحه بهذه الفترة الصعبة من تاريخ المغرب التي كان عليها مغرب بني وطاس حيث الغزو الابيري لسواحل البلاد، فثار غيرة على واقع بدعوته للاصلاح وتوجهه للأمة. فجاءت رسالته التي ألفها في الجهاد أواخر القرن الخامس عشر الميلادي أحسن مثال، بنص توزع على قسم منثور وآخر منظوم مع خاتمة له بالدعاء للسلطان، الذي قد يكون هو محمد الشيخ الوطاسي1504- 1471 أول سلاطين الدولة الوطاسية. وهذه الرسالة التي لا تخرج عن كونها مجرد دعاء تقليدي، لم تكن تنتظر من السلطان أي عمل لاصلاح وضع المسلمين، وهو ما يدل على أن المغاربة كانوا على درجة كبيرة من اليأس تجاه حكامهم على إثر ما أصابهم. حيث سقوط غرناطة ونهاية دولة المسلمين بالأندلس.

وعلى إثر ما أحدثه وخلفه الاحتلال المسيحي لسواحل المغرب خلال هذه الفترة من أثر قوي، قام الدعاة والمشايخ بحث الناس للدفاع عن البلاد. والى جانب تحريضهم على الجهاد جمعوا المال لتحقيقه وافتكاك أسرى المسلمين. وبقدر ما كانت دعوتهم للجهاد تتقوى بتقوي خطر النصارى، بقدر ما لم تستثن نظرتهم الحاكمين مستنكرين تخاذلهم عن القيام بالتعبئة لمواجهة العدو. وقد شكل ابن يجبش التازي ضمن هؤلاء خلال هذه الفترة الدقيقة من تاريخ البلاد، مثالا حقيقياً لعظمة ما قام به العلماء من تحسيس وتعبئة. بعدما ذهل مما حصل من غفلة الناس وانحرافهم عن الدين، هذا في وقت جمع فيه العدو كل امكاناته لغزو البلاد. وقد ارتبط صراخ وصرخات الشيخ ابن يجبش التازي اليائسة، بفترة دقيقة دخل فيها العالم الاسلامي مرحلة انكماش، وعوض بقاء المغرب منفداً لجهاد هجومي في علاقته بأروبا اكتفى بالدفاع حماية لكيانه وهويته، وهو ما أثار غيرة ابن يجبش كشاهد عيان معبراً عن هول ما أصاب المغاربة. وعليه يرتب على اثر ما كان عليه من ردة فعل تجاه الوضع ضمن قلة قليلة ممن تناول الجهاد من خلال نصوص مستقلة، متوجهاً بندائه لجميع من كان يهمه ويعنيه أمر احتلال الإبيريين لسواحل البلاد داعياً للتعبير عن النكبة في كل مكان.

واعترافاً منه بغيرة شيخنا وما كان له من صدى في التعبئة من أجل وطنه، وبعد استرجاعه لثغر المعمورة وطنجة والعرائش وأصيلا، أصدر مولاي اسماعيل عام1112ه ظهير توقير يخص زاوية ابن يجبش، محدراً من يخرقه قائلا:”من تعدى هذا الحد المذكور أو كسره أو خالف أمرنا يقطع رأسه.” ونفس إلتفاتة التوقير هذه حافظ عليها كل من أبي العباس أحمد بن المولى اسماعيل، والمولى سليمان والمولى عبد الرحمن بن هشام ثم المولى الحسن الأول، وحتى الفقيه الزرهوني حتى لا نقول”بوحمارة” كما هو فهم تسطيحي متداول لدى الكثير والذي ثار ضد المولى عبد العزير مطلع القرن الماضي، توجه بعنايته لهذه الزاوية من خلال ظهير له خدمة لما كان بصدده سياسياً.

وتحفظ خزانة جامع تازة الأعظم المرينية بعض من مخطوطات ابن يجبش التازي، منها مخطوط”تنبيه الهمم العالية على الصدقة والانتصار للملة الزاكية وقمع الشرذمة الطاغية” الذي لايزال يئن تحت رحمه ربه وسط رطوبة خزانة عتيقة الى حين تحقيقه، ولعله بقدر ما هو عليه من قيمة تاريخية لفائدة الباحثين في التراث المغربي، بقدر ما هو بحاجة لعمل تحقيق علمي كغيره من مئات الكتب المخطوطة بهذه الخزانة، لجعل ذخيرة تازة من الارث الفكري في متناول الباحثين والدارسين، علماً أن التوجه بالعناية للكتب المخطوطة عموماً بخزانات البلاد العتيقة هو دعوة للتحقيق أساساً باعتباره أداة حماية الى جانب أهمية العملية من الوجهة العلمية الأكاديمية.

وتبقى الغاية العلمية من البحث عن المخطوط والتعامل معه، كما مخطوط ابن يجبش التازي بخزانة جامع تازة الأعظم ، هو جمع أكبر عدد ممكن من نسخ المخطوط الواحد والتي قد تمكن الفيلولوجي من وضع تاريخ لنص المخطوط، الذي بات سبيلا وحيداً لبلوغ نسخة المؤلف أو ما هو أقرب منها. وأما اعتماد نسخة واحدة في التحقيق فهذا أمر مرفوض من قِبل علماء الفيلولوجيا، والمتخصصين في هذا الحقل العلمي الدقيق يرون أن عملا بهذا الأسلوب لا يمكن أن يسمى سوى تصحيحاً، لأن النسخة الوحيدة ليس من شأنها أن تخضع للأساليب الحديثة في نقد النصوص. أكثر من هذا يذكر هؤلاء أن معظم النسخ الوحيدة التي خضعت لعمل التحقيق كثيراً ما كانت ناقصة مليئة بالأخطاء. ولعل التحقيق كورش علمي لا يزال بخجل علمي كبير ببلادنا منهجاً وتكويناً وتراكما، ومن المفيد الاشارة الى أن التحقيق هو إخراج نص معين في شكل أقرب ما يكون لصورة ما تركه مؤلفه، اعتماداً على المقارنة بين النسخ التي بقيت من الكتاب. ولا جدال في أن التحقيق ميدان صعب لا يلجه إلا الموهوب المالك لقدرة وموهبة الغوص في أعماق المخطوط، ومن الخطأ أن يتحمل مسؤولية التحقيق من هو بدون تكوين ولا قدرة ولا إدارك لطبيعة العمل ومجرياته، ولعل من نتائج هذا ما يصادف من تحقيق يفتقر لأيسر قواعد البحث العلمي، وفي الوقت الذي سيتم الكشف فيه عن مزيد من المخطوطات المغمورة وسيتوفر فيه محققون بكفايات علمية، ستكون هناك ضرورة اعادة تحقيق ما تم تحقيقه طوال القرن الماضي في جامعاتنا بحسب تقييم المتخصصين.

*باحث- المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس- مكناس.

‫تعليقات الزوار

6
  • مللو
    الأربعاء 1 ماي 2019 - 17:36

    شكرا لصاحب المقال على مجهوده القيم حول هذا الموضوع التراثي الذي يهم اعلام وعلماء وفقهاء المغرب الذين ما احوج الجيل الجديد للاطلاع عليها وكنا نتمنى لو كانت هناك مناهج جهوية في التعليم لادراج جزء من هذا الموضوع التراثي الذي يهم جهة فاس مكناس. لقد كان اجدادنا مثالا قويا في حب الوطن والدفاع عليه خلال فترات الماضي الصعبة وخلال فترة الاستعمار الفرنسي للبلاد. وهذه ذاكرة وطنية من الضروري صيانتها وحمايتها من خلال التعريف برجالها وما اكثرهم عبلر التاريخ. لم اكن اعرف ان هذا العلم الصوفي مدفون في تازة، ولكن سبق لي ان قرأت في مقال على الانترنت حول ان هذا الفقيه هو من منطقة كرسيف أو ارشيدة وان اصله الاول من الجزائر وربما من تلمسان. ودور المؤرخين هو التنقيب عن الوثائق وكتب هذا الفقيه الذي دعا للجهاد من اجل تحرير سواحل المغرب من الاستعمار البرتغالي. ان الاهتمام بتراث العلماء المغاربة القدامى ورد الاعتبار لتراتهم المكتوب حماية للترات المغربي. شكرا لجريدة هسبريس المتميزة

  • ابن غازي
    الأربعاء 1 ماي 2019 - 18:37

    تفاعلا مع الاخ الكريم صاحب المقال بعد شكره على عمله الحيد حول هذا الرجل الصوفي المغربي الذي عاش الغزو الابيري لسواحل المغرب على عهد بني وطاس، وكمهتم باعلام المغرب وهذه الفترة، لذي كتاب وهو مصدر تاريخي من المصادر المغربية الهامة، وهذا الكتاب هو للشيخ ابن غازي العثماني المكناسي صاحب كتاب "مكناسة الزيون" الشهير، وهذا الشيخ كان خطيبا بالقرويين ورئيس الهيئة العلمية بفاس، وكان محرضا على الجهاد لدرجة انه التحق بجيش محمد الشيخ الوطاسي وجاهد بنفسه في اصيلا، ولكنه لم يذكر الشيخ ابن يجبش في كتابه رغم انه عاش خلال نفس فترته، فهو توفي عام 919ه والشيخ ابن يجبش توفي عام 920ه. ولا ادري لماذا تجاهل ابن غازي هذا العلامة التازي في حديثه عن هذه الفترة، فهل لك بما تفيدني لانني بصدد العناية بهذا الموضوع في البحث مع شكري الجزيل، وشكر جريدة هسبريس ادامها الله علينا

  • متقاعد
    الأربعاء 1 ماي 2019 - 20:30

    لست من مدينة تازة ولكني عملت بها في التعليم قديما قبل ان اتقاعد وفيها درس ابنائي وكبروا بين دروبها وكنت اعشق المدينة القديمة نظرا لماثرها ومنها قبة السوق والجوطية وسيدي عزوز واحراش وباب الجمعة والدروج وجامع الكبير واسوار بوقلال وضريح بن بري، وقد زرت تازة قبل اربع سنوات للاسف فقدت كثير من جمالها وحركتها التجارية في قب السوق، والدكاكين فيها لا بيع ولا شراء وتغلق باكرا والمدينة القديمة كانها خلاء وموت مطبق للاسف. عندما يجلس معي اصدقائي في مديني الشاطئية واذكر لهم تازة يقولون لي انها بلاد بوحمارة، واقول لهم انها ليست كدلك وانها مدينة تاريخية فيها المأثر الجميلة والطبيعة وراس الماء، ولهذا اشكر الاستاذ الذي كتب المقال لانه بين لاصدقائي قيمة تازة وفقهاءها ومتصوفتها وتاريخها فشكرا لك يا اخي

  • ابن المغرب
    الأربعاء 1 ماي 2019 - 23:42

    الشكر موصول للسيد ابن غازي على التفاعل ويبدو أنك اعتمدت سيدي على نسخة الروض الهتون المحققة من طرف عبد الوهاب بن منصور وهي خلو تماما من ذكر ابن يجبش من جهة فهو أمر طبيعي لأن ابن غازي المكناسي يتحدث عن مكناس وابن يجبش لا علاقة له بمكناس ومن جهة ثانية لأن هناك نسخة أخرى من هذا الكتاب بتحقيق د عطا أبو ريه وفي مقدمته يذكر المحقق أن ابن يجبش كان متفرغا للجهاد بمعية الشيخ عبد الله الورياغلي حيث كانا يشغلان بالتدريس خلال فصلي الشتاء والربيع ثم بالجهاد خلال باقي الفصول وإذا كان على بن غازي أن يذكر شؤون الجهاد ورجالاته فالواجب ذكرهم جميعا في تلك الفترة ونعلم أن ابن غازي كان شيخا لابن يجبش ويفهم من كلام المحقق لنسخة التي نتحدث عنها أن ابن يجبش كان يرفض الخروج في الجيش الوطاسي الرسمي مثلما كان يفعل شيخه ابن غازي فكتاب الروض الهتون في هذه النسخة يؤكد على العكس ولو في المقدمة أن ابن يجبش شارك بفعالية في الجهاد ضد البرتغال المحتلين للشواطئ المغربية وخاصة في معارك أصيلا ( معارك بالجمع وليس معركة واحدة ) وليس من المستبعد أنه كان يخرج مع الحركات الجهادية التي انتشرت خلال هذه الفترة الامر واضح

  • الاصيلي
    الجمعة 3 ماي 2019 - 20:03

    هو العالم الصوفي الأديب الفقيه سيدي أمحمد بن عبد الرحيم بن يجبش التازي التسولي…؛ اختلف في تسميته واصله على مدى خمسة قرون، فهو عند أحمد بابا التمبوكتي ابن بحبش، وعند بن عسكر في "الدوحة" يحبش وكذلك عن ابن القاضي في "الدرة" وعند الناصري في الاستقصا، لكن ما أتبثه أبو بكر البوخصيبي في كتابه القيم "أضواء على ابن يجبش التازي" استنادا على وثائق خطية من بلد المترجم، وبعض الظهائر السلطانية أن اسم صاحبنا هو ابن يجبش، ياء وجيم وباء وشين، هو الصحيح المعول عليه، وهذا أيضا رأي العلامة عبد الله كنون..

  • الرشيدي التاغيتي
    السبت 4 ماي 2019 - 15:38

    شكرا لصاحب المقال الذي احتاط في حديثه عن ابن يجبش ولم يحسم في انتماءه الاجتماعي، ولهذا فأنا اسأل هل هذا الصوفي المجاهد هو من بلاد تاغيت أم من بلاد ارشيدة شرق المغرب ام من بلاد تلمسان وكان قد دخل المغرب قادمنا منها الى ناحية كرسيف ثم تازة بقبيلة اتسول قبل الاستقرار في تازة، وهل يمكن تسميته بابن يجبش التاغيتي الرشيدي التلمساني الجرسيفي التسولي التازي، وشكرا

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 7

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال