من لم يكن مهندساً..!

من لم يكن مهندساً..!
الأربعاء 1 ماي 2019 - 22:56

لافتة طريفة رفعها أفلاطون على باب منزله، كما ذكر ابن خلدون في مقدمته، تقول: “من لم يكن مهندساً فلا يدخل منزلنا”.

عند الرجوع إلى كلمة هندسة باللغة العربية، نجد أنها تحمل عدة معاني، وإن كان أصلها فارسي “الأندازة” يعني المقادير المطلقة، فهي تشمل عموماً مجال الهندسة الرياضية (Geometry) التي تبحث في الخطوط والأبعاد والسطوح والزوايا والكِمِّيات والمقادير المادية من حيث خواصها وقياسها أو تقويمها وعلاقة بعضها ببعض؛ ثم مجال الهندسة النظرية وهي المبادئ والأصول العلمية المتعلقة بخواص المادة ومصادر القوى الطبيعية وطرق استخدامها لتحقيق أغراض مادية؛ بالإضافة إلى مجال الهندسة التطبيقية أو العملية (Engineering)، وهي تطبيق العلم (الفيزياء، الكيمياء، الرياضيات، والأحياء) لتوفير الحاجات الإنسانية، وذلك من خلال الدراسة والتصميم.

وقد أوضح ابن خلدون، في مقدمته، فضل الهندسة قائلاً: “واعْلَمْ أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله، واستقامة في فكره؛ لأن براهينها كلها بَيِّنَة الانتظام، جليّة الترتيب، لا يكاد الغلط يدخل أقيستها؛ لترتيبها وانتظامها؛ فيبعد الفكر بممارستها على الخطأ، وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهْيَع (أي: الطريق أو النسق)”.

وإن كانت إسهامات الحضارات القديمة كالمصرية والبابلية أو الإغريقية في الهندسة لا تتعدَّى عملية البناء، كإقامة الأهرامات والجسور وتشييد السدود ومد قنوات الري، فقد تبَلوَر هذا العلم على أيدي العلماء المسلمين الذين طوَّروا تقنيات الهندسة الميكانيكية منذ القرن التاسع الميلادي حتى القرن السادس عشر الميلادي، وكانت هذه التقنيات تعرف باسم “الحيل النافعة”، وهي آلات وتجهيزات يعتمد البحث فيها على حركة الهواء (الإيروديناميكا)، أو حركة السوائل واتِّزانِها (الهيدروديناميكا و(الهيدروستاتيكا). ثم بعد ذلك، ما آلت إليه علوم الهندسة عند انتقالها إلى الغرب، وما وصلت إليه في عصرنا من تطور غير مسبوق.

وتبقى مهمة المهندس الحيوية هي إيجاد الحلول الناجعة لمشكل أو مسألة ما بأقل تكلفة وفي وقت وجيز، زيادة على دوره في تيسير وإتاحة الاستخدامات العملية للاكتشافات والابتكارات العلمية.

تُراكِمُ فئة المهندسين رصيداً معرفياً هائلاً بفعل تكوينها مُتنوِّعِ الاختصاصات والذي يتطلب عدة مقدرات ومهارات إضافة إلى خصال الصبر والجَلَد مع المثابرة، ثم التجربة الميدانية والاحتكاك الدءوب بكل ما يرتبط بالمجال الإنتاجي والاقتصادي، إضافة إلى الإداري والتسييري، مما يُكسِبها خبرة تقنية ومالية وقانونية في تسيير المشاريع. ويختار البعض، بعد مشوار طويل، العمل في الخبرة القانونية لدى المحاكم، قصد تنوير القضاء للفصل في النزاعات ذات صبغة تقنية وتحديد المسؤوليات في الحوادث الخاصة بالبنايات والمنشآت الهندسية.

الغريب في الأمر أنه لحد الآن لم يتم إدراج صنف “خبير” ضمن أسلاك الوظيفة العمومية بالمغرب، مِمَّا يُضيِّعُ فرصة الاستفادة من العديد من الطاقات والخبرات التي حصدت تجربة كبيرة عبر العمل في القطاع العمومي أو الخاص، في حين يمكن الاستعانة بها في مختلف القطاعات الحكومية، بدل اللجوء إلى كفاءات أجنبية قد لا تكون في المستوى المطلوب، وتستنزف أموالاً طائلة من ميزانية الدولة دون جدوى.

من جهة أخرى، يشغَل المهندسون مناصب مهمة في المجال التقني أو التسييري، لكن قيود المُشَغِّل، سواء في القطاع العام الذي تحكمه التوجُّهات السياسية، أو الخاص المهووس بالربح المادي، تحدُّ من قوتهم الاقتراحية، وكثيراً ما يكتفون بتنفيذ التعليمات التي تُملَى عليهم.

وتجدر الإشارة أنه منذ “الاستقلال”، جُلُّ مناصب القرار في القطاعات العمومية وشبه العمومية يسيطر عليها خِريجو مدارس ومعاهد فرنسا التي يتحدثون لغتها ويستهلكون منتجاتها ويخدمون مصالحها، بعدما قامت بتجنيسهم وتدجينهم واستلاب هويتهم وثقافتهم المغربية وتبديل غيرتهم الوطنية بالغيرة والدود الشرس عن مصالحها.

وإنه لَمِنَ المؤسف أن تكون النخبة المُعوَّل عليها للنهوض بالبلاد وتحقيق التنمية المنشودة، أداة في يد المستعمر لتنفيذ مساعيه الإمبريالية وتكريس التبعية الفكرية والاقتصادية والسياسية له.

وحتى خِريجو المدارس الوطنية لم يسلموا، إلا من رحم ربي، من الاستلاب الثقافي وطمس الهوية، بفعل التكوين المفرنس بالمدارس المغربية العليا للمهندسين وكذا جراء فرنسة سوق الشغل. وقد كان موقفاً طريفاً ومؤلماً في نفس الوقت حين فاجَئَني زميل في مجموعة تواصل، عندما سألت عن سبب استعمالهم الفرنسية في الحديث، فأجابني أنها هي أيضاً لغتنا الوطنية وعلينا استخدامها !

يعيش المهندسون المغاربة كثيراً من التشرذم، وإن وجدنا لهم بعض التكتلات، فتكون عبارة عن جمعيات خِريجي نفس المدرسة حيث نشهد “عداوة” طريفة بين مختلف المدارس، أو نقابات حزبية غالباً ما تتم إذابتهم وإلجامهم داخلها. فهل انخراطهم في الحياة الجمعوية أو الحزبية يغلب على دورهم العضوي كتِقنوقراط أصحاب منهجية عقلانية وفكر فذ وحر؟

كل هذا التشَتُّت وعدم توفر هيئة مستقلة تمثِّلُهم مع تنوع الاختصاصات الهندسية الحالية واتساع مجالاتها، يحول دون قيامهم بالدور الطلائعي والفعلي كقوة اقتراحية خبيرة ومؤهلة، تؤثر في التوجهات العامة للبلاد، وتطرح الحلول والبدائل بخصوص مختلف القضايا الوطنية التي تمُتُّ بصلة مباشرة بمجال تطوير التكنولوجيا والاختيارات التعليمية والاقتصادية التي تهم تقدم البلاد، بعيداً عن الحسابات السياسية الضيقة، والتي قلَّما تنبني على دراسة علمية أو تحمل رؤية استراتيجية لمستقبل البلاد ومصلحة المواطنين… لا ننسى الدور السياسي والتأطيري الذي اضطلع به المهندسون، طلبةً وأطراً، إبَّان سنوات الرصاص في السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي…

جانب آخر مثير للتساؤل، هو الغياب الحالي للمهندسين عن المنابر الإعلامية، سواء المكتوبة أو المسموعة أو المرئية… نادراً ما تتِمُّ استضافتهم في برامج حوارية أو توعوِية، وقليلة هي إصداراتهم المكتوبة، اللهم بعض المساهمات العلمية والتقنية التي تنشر في مجلات مختصة محدودة الانتشار، وغالبا ما تكون باللغة الفرنسية. ما عدا ذلك، لا نراهم على الصحف والمجلات الورقية أو الإلكترونية، يُعبِّرون عن آرائهم ومواقفهم حول القضايا المجتمعية، كما يفعل زملاؤهم من المهن الأخرى وخاصة العاملين بمجال التدريس أو المحاماة أو الطب…

فهل يخرج المهندس من قوقعته، يُسمِعنا صوتَه ويستعيد دوره الريادي في المجتمع؟ ومتى يجمع شتاته ويعي حجم المسؤولية المنوطة به، فينزع جلباب التبعية ويعود لاستكمال معركة التحرر والتحرير؟

*مهندسة وكاتبة

‫تعليقات الزوار

12
  • cae
    الخميس 2 ماي 2019 - 07:32

    السياسة الخفية تُلقي الضوء على النجوم من المُطربين و الرقصين و المغنين لكي يكونوا قدوة لغيرهم.
    لي صديق طبيب، عندما تكون الحالة التي يكشف عليها طفل أو طفلة يقوم بسؤالم ببعض الأسئلة من باب الاستئناس : ماذا تريد أن تكون في المُستقبل؟ يُقسِم صديقي أن الأجوبة أعجب العجاب: ميسي، مغنية، mannequin…..
    حتى ابن أختي دو 8 سنين، سٱلته نفس السؤال من باب المداعبة و أجاب : بائع أسلحة بيضاء…ههههههههههه
    صادقوا أولادكم و ربهوم و علموهم و وجهوهم خير توجيه…فٱنا إما راع و مسؤل عن رعيتي و إما صلوا علي الجنازة.

  • Bilawane
    الخميس 2 ماي 2019 - 07:33

    كتبت المهندسة مايلي : "وحتى خِريجو المدارس الوطنية لم يسلموا، إلا من رحم ربي، من الاستلاب الثقافي وطمس الهوية، بفعل التكوين المفرنس بالمدارس المغربية العليا للمهندسين"…برافو، وحدك من رحم ربي منذ الاستقلال أيتها المهندسة الكاتبة،،،وخير تعليق هو مابدأت به مقالك : "لن ادخل بابك" باب العقد النفسية، عقد التفوق في تبخيس و تخوين المغاربة و المغربيات

  • اوهام التحرر
    الخميس 2 ماي 2019 - 08:38

    … المتحرر هو القابض بناصية البحث العلمي المبتكر لما ينفع الناس.
    التحرر بعد الاستعمار و سيادة النظام الراسمالي خرافة.
    لقد انفكت بعض الدول من الاءتلاف الغربي وسقطت في احضان المعسكر الشمولي السوفياتي لانها في حاجة الى التكنولوجيا والسلاح.
    اليست تلك تبعية اقبح من البعية الاولى.
    هل نستطيع ان نتحرر من السيارة والتلفاز والهاتف الذكي والكومبيوتر ؟
    حاجتنا الى هذه المخترعات ترمينا في احضان التبعية ان لم تكن لفرنسا فانجلترا او امريكا .

  • morad
    الخميس 2 ماي 2019 - 11:42

    شكرا على المقال… هنا الكثير يقال.
    لمذا يتم تجميد مطلب الهيئة?
    اين الاتحاد و النقابة?
    ما مصير 10.000 مهندس كل سنة ?

  • عمر 51
    الخميس 2 ماي 2019 - 11:49

    لفظ الكميات الوارد في المقال ذكرني بما يلي:
    من يعرف الرياضيات يعرف قواعدها، ومن يعرف الفيزياء يعرف قواعدها. ومن يعرف اللغة يعرف قواعدها. ومن يعرف الجميع يعرف قواعد الجميع وهلم جرا. فرجوعا إلى لفظ: الكميات فقد ورد في النص مكسور الكاف، والأمر ليس كذلك، بل ينبغي أن يكون مفتوح الكاف :" الكـَـميات" لأنه مأخوذ من لفظ [الكـَــم].ويقال له مصدر صناعي. وله قاعدة خاصة في قواعد اللغة العربية. فمثلا: إذا أردنا المصدر الصناعي من لفظ: " المغرب" نقول: المغربية. " الأطلس" الأطلسية. " بين " نقول: البـَينية . بـَعد " البـَعدية" . وهو كثير الاستعمال قديما وحديثا.ويمكن أن نأتي بأي كلمة ونضيف أليها: ياء مشددة، وتاء مربوطة، كما هو واضح في الأمثلة . تبقى الكلمة الأصلية على حالها، ولايحدث فيها أي تغيير، ويكسر ماقبل الياء.

  • مهندس الدولة
    الخميس 2 ماي 2019 - 12:09

    كلنا مع إنشاء الهيئة لحماية هذه المهنة من الدخلاء

  • ahmad
    الخميس 2 ماي 2019 - 14:18

    لا يدخلها من لا يعرف الهندسة،هذه العبارة كانت مكتوبة على باب أكاديمية أفلاطون.والارجح أن أكاديميات اخرى أخذتها عنه .مثلما يحدث الآن مع بعض المدارس الخاصة التي تمتحن التلاميذ في الرياضيات والفرنسية قبل ان تسح بتسجيلهم في لوائحها

  • Yassine
    الخميس 2 ماي 2019 - 23:52

    la raison est simple, on passe notre temps a étudier et se divertir, et gagner de l'argent, car en fin de compte, ca sert vraiment a rien de discuter des choses qu'on ne controllent pas

  • à distance..
    الجمعة 3 ماي 2019 - 08:53

    Hélas, au Bled, la méritocratie excelle par son abscence…..Au publique, parce que le système de la bureaucratie est intrinsèque à la tradition makhzenienne qui prime l´opportunisme et l´arrivisme.Le dilème c´est que l´espace privé est aussi contaminé ,ainsi multitude d´entreprises, ou ne progressent pas ou font faillite pour dénigrer les talents ou juste les utiliser pour imperatif administratif….etc

  • علاء مهندس عربي مغبون
    الجمعة 3 ماي 2019 - 12:25

    عند النظر لمهنة الهندسة في العالم العربي كاملا وليس المغرب فقط
    نصل الى نتيجة مفزعة وهي أنه على الرغم من أن مهنة الهندسة مهنة تطبيقية عملية بحثية تعتمد على التطور المستمر
    الا أن جامعات العرب اول ما يهمها هو الكم وليس النوع فنجد الآلاف المؤلفة من الخريجين سنويا بدون اي مكان لهم في سوق العمل البدائي اصلا وذلك لضعف مخرجات التعليم الجامعي

  • Peace
    الجمعة 3 ماي 2019 - 14:46

    المهندس يجب ان تكون له اخلاق و قيم اولا و المههندس بالمفهوم الشامل هو المخطط الجيد مع تنزيل مخططاته على ارض الواقع, مثلا في الدارجة المغربية نقول: "ما نعرف اش كيهندس هذا عاودتني" يعني يخطط لفعل شيء ما. اما افلاطون فغايته هي تحقيق المدينة الفاضلة, و بالتالي فهو يحتاج لمهندسين اكفاء و عندهم هدف اسمى و تهمهم المصلحة العامة.

    اما الهندسة بمفهومها االعلمي الحديث, فيمكنك ان تتخصص اكاديميا في مجال معين موازاة مع العمل التطبيقي في ذلك المجال و يجب ان تكون مبدعا في ايجاد الحلول للمشاكل التي تعترض مشروعك, مما يجرك حتما لمعرفة عدة مجالات اخرى مرتبطة ارتباطا وثيقا بذلك المجال, فيكون تكوينا شموليا, فلابد ان يكون لك حد ادنى من المعرفة بكل المجالات تقريبا لتتمكن من العمل مع فريق متكامل متعدد الاختصاصات, ليكون المشروع ناجح و ياخذ بعين الاعتبار كلل الجوانب…

  • موسى
    الأحد 5 ماي 2019 - 14:23

    مرة أخرى لم يستطع العرب ترجمة كلمة
    ingénieur ou génie
    مهندس أو هندسة.

    الهندسة التي عناها أفلاطون قديما هي الرياضيات.
    Géométrie
    التي هي أهم عناصر الرياضيات قبل تطور الجبر والمعادلات.

    اما لفظة ingénieur فاستعملت بعد ظهور التخصصات والمهمات الاضافية لفك التعقيدات التنفيذية في عمل ودور المشرف على اليناءات architecte وهي لفظة مشتقة من إسم العالم الفيزيائي الإغريقي ارخميدس.
    كلمة architecte ترجمت في البداية إلى مهندس وهي ترجمة مقبولة على أية حال قبل ان يتم استبدالها بمهندس معماري.
    وكلمة génie تعني العبقرية ومنها اشتقت كلمة ingénieur.

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش