تأملات في واقعة "الشرطي" و"الكوميدي"

تأملات في واقعة "الشرطي" و"الكوميدي"
الأربعاء 22 ماي 2019 - 01:20

تداولت عدد من المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي، مؤخرا، مقطع فيديو قصيرا بث مباشرة عبر شبكة التواصل الاجتماعي (فيسبوك) يظهر فيه شخص قيل إنه “كوميدي”، يدعي أنه تعرض للعنف من قبل شرطي مرور؛ وهي الواقعة التي فتحت مساحات شاسعة من الجدل، تقاسمها مؤيدون تضامنوا مع الشخص المعني، وأمطروا الشرطي بوابل من السب والشتم والإهانة، وآخرون تفاعلوا مع الشرطي وأبدوا تعاطفا واضحا معه، آخذين بعين الاعتبار حالته النفسية وظروف عمله، وما يمكن أن يكون قد تعرض له من إهانة أو احتقار أو استفزاز، أثناء ممارسة عمله الاعتيادي بالشارع العام، في وقت تفاعلت فيه المديرية العامة للأمن الوطني مع الواقعة بالسرعة المطلوبة، وفتحت بحثا إداريا عبر المفتشية العامة، لتحديد ما يكون قد صدر عن الشرطي من تجاوزات، موازاة مع البحث القضائي المفتوح من قبل الفرقة الجنائية الولائية تحت إشراف النيابة العامة، لكشف النقاب عن ظروف وملابسات الواقعة.

ولا يمكن البتة المجازفة والخوض في تفاصيل الواقعة لاعتبارين اثنين: أولهما كون المقطع الذي بثه المعني بالأمر مباشرة على الفيسبوك، قصير جدا، ويركز على رد فعل الشرطي فقط، ولا يسمح بمعاينة ما يكون قد صدر عن الطرف الآخر من تصرفات وردات أفعال، ثانيهما: كون القضية فتح بشأنها بحثان، أحدهما إداري والآخر قضائي؛ لكن هذا لا يمنع من التأكيد على أن رجال الشرطة مهمتهم الحرص على تطبيق القانون، ولا يمكنهم التصرف إلا في حدود ما ينص عليه القانون والضوابط الأمنية ذات الصلة، تحت طائلة التعرض للجزاءات الإدارية والقضائية المناسبة، وما قد يصدر عن بعضهم من عنف جسدي أو لفظي، لا يمكن القبول به أو التطبيع معه، مهما كانت الظروف والبواعث، و”المواطنون” بدورهم ملزمون باحترام القانون والامتثال له وتحمل المسؤوليات كاملة في حالة الإخلال بالقواعد القانونية، من منطلق أن لا أحد فوق القانون، وسلطة القانون تسري على الجميع على قدم وساق، دون أية اعتبارات مهما كانت طبيعتها، وغير مسموح لأي شخص استغلال منصبه أو وضعه الاعتباري، لانتهاك القانون، أو التطاول على الأشخاص المكلفين بإنفاذ القوانين، بعدم الامتثال لأوامرهم أو تعريضهم للإهانة أو الاستفزاز أو العنف المادي أو المعنوي..

ما تعرض له شرطي المرور من سب وشتم وتشهير عبر مواقع التواصل الاجتماعي يكرس نظرة توجس وعداء للشرطيين، والحقيقة هي أنهم بدورهم يمكن أن يكونوا في حالات كثيرة موضوع عنف مادي أو معنوي، قد يطالهم أثناء ممارسة مهامهم الاعتيادية بالشارع العام أو في الملاعب الرياضية، خاصة من قبل المجرمين وتجار المخدرات أو من قبل مواطنين يعتقدون أنهم فوق القانون.. ولا يسمح المجال باستحضار عدد من الحوادث التي تعرض لها بعض الشرطيين في السنوات الأخيرة، إما بالدهس بالسيارة أو باستعمال أسلحة بيضاء، أو بالضرب والجرح الخطيرين أثناء التدخلات..

وبما أن الشرطي -موضوع القضية- يشتغل ضمن شرطة المرور، فلامناص من القول إن هذه الشرطة تواجه المواطنين يوميا بحكم مهامها المرتبطة بمراقبة السير والجولان، والبعض لا يتقبل إيقافه، إما لمراقبة وثائق السيارة أو لتحرير محضر في حقه لمخالفته لمقتضيات مدونة السير، والبعض الآخر يرفض تسليم الوثائق، ولا يجد حرجا في ممارسة الإهانة والاستفزاز، في حق رجل شرطة لا يقوم إلا بمهمته في الشارع العام. كما يقوم بها المدرس في القسم والطبيب في المستشفى والقاضي في المحكمة.

لا شك في أن شرطي المرور وقع في مصيدة الإهانة والاستفزاز، وكان يفترض أن يكون في موقع “الطرف الشاكي” لو تملك أعصابه وسيطر على نفسه ونفذ ما تقتضيه اللحظة من إجراءات؛ لكنه تحول إلى “طرف مشتكى به”، بعدما نجح الطرف الأول في توثيق ردة فعله في تسجيل بث مباشرة على “الفيسبوك”، والحالة الهستيرية التي كان عليها “الشرطي” تعكس حالة نفسية وصل فيها التوتر مداه، خاصة بعدما تبين له أن المعني بالأمر بصدد توثيق ما حدث بالصوت والصورة. ومن الناحية المنطقية، ما كان له أن يصل إلى هذه الحالة، لو لم يكن قد ووجه بتعبيرات إهانة أو استفزاز، وإن كان ذلك لا يشفع له ولا يبرر له ما صدر عنه من سلوك؛ لأنه يسهر على القانون وغير مسموح له بالانحراف عنه، وحالة الشرطي تفرض إثارة موضوع المواكبة النفسية والصحية للشرطيين وخاصة المنتسبين إلى شرطة المرور، الذين يكونون أكثر من غيرهم، عرضة للإهانة والاستفزاز والعنف، بالنظر إلى طبيعة المهام التي يباشرونها بالشارع العام، والتي تجعلهم يوميا وجها لوجه أمام عينات مختلفة من المواطنين، بعضهم يصر على إنكار القانون والتمرد عليه، علما أن الكثير من هؤلاء الشرطيين يعانون من أمراض مزمنة من قبيل الربو والسكري والضغط وغيرها؛ وهو ما يجعل الدعم النفسي والصحي أمرا لا محيدة عنه.

ولا شك في أن الطرف الثاني، الذي ادعى العنف، عملية إيقافه من قبل شرطي المرور ارتبطت باقترافه لإحدى مخالفات مدونة السير والجولان، وفي غياب المعلومة حول ظروف وملابسات الإيقاف، وما ترتب عن ذلك من ردود أفعال متبادلة، فما هو مؤكد أن المعني بالأمر تجرأ وعمد إلى تصوير الشرطي بدون موافقة ودون مراعاة لحالته النفسية، ضاربا عرض الحائط التشريعات ذات الصلة بالحياة الخاصة والحق في الصورة، وهذا لا يعد فقط انتهاكا للقانون، بل أيضا استفزازا ناعما للشرطي وتشهيرا بصورته عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا “عنف” ربما تتجاوز تداعياته حدود العنف الجسدي.

وفي هذا الصدد، يمكن إثارة ثقافة مجتمعية آخذة في التنامي والانتشار، تتقاطع في مفردات التسيب وعدم الانضباط وعدم الامتثال لسلطة القانون، ولا يسمح المجال باستعراض جملة من الحالات التي تنتهك فيها حرمة القانون، من قبل مواطنين تسيطر عليهم عدوى الأنانية المفرطة، ويكفي الإشارة إلى من يقترف مخالفة من مخالفات مدونة السير والجولان، ويحتج على الشرطي الذي أوقفه، بل ويتمادى في الاحتجاج ويرفض تسليم الوثائق لتحرير محضر المخالفة، ومن يحتل الشارع العام من أصحاب المقاهي والمطاعم والمحلات التجارية وباعة الرصيف بدون حسيب ولا رقيب، ومن يغش في الامتحانات بل ويدافع عن حقه في ممارسة الغش ولو تطلب ذلك اقتراف فعل العنف، ومن يتملص من كافة الواجبات والالتزامات، وينقلب على القانون سعيا وراء نزع مصالح ذاتية، ومن يتلاعب بالقانون ويفصله على مقاسه، ومن يعتقد أنه فوق القانون ولا يمكن أن تطاله سلطة القانون، ومن يعبث بالقانون، بدل الحرص على تطبيقه على قدم المساواة..

وفي نفس السياق، وعلى الرغم من أن الواقعة فتح بشأنها بحث قضائي تحت إشراف النيابة العامة، وآخر إداري من قبل المفتشية العامة للأمن الوطني، فإن الكثيرين أبوا إلا أن ينصبوا أنفسهم قضاة افتراضيين فوق العادة، وأدانوا الشرطي دون عناء، بل وأمطروه بوابل من السب والشتم والإهانة، وهذا يحيلنا على عقليات هدامة تعيش بين ظهرانينا، تتخذ من منصات التواصل الاجتماعي أوكارا آمنة للانتقاد والسب والشتم والتشهير بالأشخاص والخوض في تفاصيل الحياة الخاصة والإدانة والتخوين، بدون خجل أو حياء، ضاربين عرض الحائط كل القوانين التي تحمي الحياة الخاصة ومنها الحق في الصورة، التي صارت دعامة سهلة المنال، لإتيان تصرفات مدانة قانونا، أقل ما يقال عنها إنها تصرفات وقحة ومنحطة، وهو عنف ناعم في الشكل، لكنه خطير مضمونا، بالنظر إلى تداعياته على نفسية الشرطي وعلى أسرته ومقربيه وأصدقائه وعلى سمعة المؤسسة التي يمثلها..

عموما، فما وقع لا يمكن قطعا اختزاله في واقعة بين “شرطي مرور” و”مواطن”، ولا يمكن حصرها في حدود قضية أثارت جدلا واسع النطاق عبر مواقع التواصل الاجتماعي، هي قضية تسائل واقع رجال الشرطة، وما قد يتعرضون له من إهانة أو استفزاز أو عنف مادي أو معنوي، أثناء ممارسة مهامهم الاعتيادية بالشارع العام، مما يفرض تأهيلهم المستمر قانونيا وحقوقيا وتواصليا ومواكبتهم نفسيا وصحيا، من أجل تنفيذ أمثل للقانون والحيلولة دون انتهاكه، وواقعة تسائل الكثير من المواطنين الذين يعتقدون أنهم فوق القانون ولا يمكنهم الانصياع لسلطته..

لذلك، فمهما عاتبنا الشرطي أو انتابتنا مشاعر التوجس والحقد والعداء للشرطة، فلا يمكن إغفال أو نكران أن ما ننعم به من أمن واستقرار، الفضل يرجع فيه إلى مختلف المكونات الأمنية التي تضحي بالغالي والنفيس حفاظا على سلامة الأشخاص والممتلكات، وما يمكن أن يصدر عن الشرطيين من تصرفات غير لائقة ما هي إلا حالات معزولة، يمكن أن تبرز معالمها في أية وظيفة، ولا يمكن أن تحجب الرؤية عن الوجه المشرق لشرطة، نجد فيها الحضن الدافئ متى أحسسنا بالظلم أو طالنا الإيذاء من قبل الغير.. ولسنا في موقع الدفاع عن الشرطة أو بصدد تلميع صورتها؛ لكن نحن مع “الشرطة المواطنة” القادرة على فرض سلطة القانون على الجميع على قدم المساواة والتي تضع خدمة المواطن ضمن أولوياتها، ومع “الشرطي” الذي يلتزم بأخلاقيات المهنة الشرطية وبروح القانون، ومع “المواطن” المسؤول والمنضبط والذي يمتثل للقانون ويحترم المؤسسات ويتقيد بالواجبات والالتزامات؛ فالشرطة لن ترتقي إلا بشرطيين مسؤولين ومنضبطين، وحال الوطن لن يستقيم إلا بمواطنين يقطعون مع “الأنانية المفرطة” و”التهور” و”الاستهتار” ويحترمون القانون والمؤسسات، وبالقدر ما ندين كل ما يمكن أن يصدر عن الشرطة من عنف أو إخلال بالواجب بالقدر ما ندين كل شخص أهان الشرطة أو استفزها أو حط من قيمتها أو نال من سمعتها.. عسى أن ننام ونصحو على وطن يكون “القانون” فيه -كما قال الفيلسوف الفرنسي “مونتيسكيو” – “كالموت الذي لا يستثني أحدا”.

[email protected]

‫تعليقات الزوار

3
  • ضبط النفس .
    الأربعاء 22 ماي 2019 - 02:02

    الأكيد أن الشرطي سيوبخ كثيرا من رؤساءه فلا شيء يبرر له رفس الرجل حتى لو خالف قواعد السياقة . السلطة المخولة لرجل الأمن تعطيه قوة القانون وليس قوة صفع أو ركل المواطنين .

  • مغربي حر
    الأربعاء 22 ماي 2019 - 03:33

    الكاتب يتناقض مع نفسه: يقول في بادئ الامر إن الواقعة فتح في شأنها بحثان، إداري وقضائي و يعود بعد سرد ضروف عمل الشرطي ليرجم بالغيب " لا شك ان الشرطي وقع في فخ الاستفزاز … كذا"
    هل كنت حاضرا في الواقعة حتى ترجم بالغيب؟
    الشرطي بصفة عامة رجل قانون وليس شخص عادي كبقية العامة، موكول إليه تطبيق القانون وليس رفس و ركل و ضرب المواطنين.
    عيب و عار و نحن في 2019 و هناك أشباه كتاب يدافعون عن الظلم و الحگارة، أتمنى من الله في هذا الشهر الفضيل أن يعاقب هذا الشرطي الظالم.
    تحياتي هيسبريس على النشر و شكرًا

  • momo
    الخميس 23 ماي 2019 - 01:45

    هل قلتم بءان ا ءاخانا في الله كوميدي? لو كنت مخرجا لشغلته وءاخونا الشرطي يحتاج للمساعدة النفسية ووقت للراحة تم بعدها اعادة التكوين والتقويم

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32 9

احتجاج أرباب محلات لافاج

صوت وصورة
"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 15:07

"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء

صوت وصورة
“أش كاين” تغني للأولمبيين
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:52 1

“أش كاين” تغني للأولمبيين