يروج، منذ مدة، منذ أكثرمن عقد تقريبا، كلام لا يستند، في زعمي، إلى معرفة علمية استقرائية وميدانية بالواقع القرائي عربيا بعامة، ومغربيا تخصيصا، بالمعنى السوسيولوجي. يتعلق الأمر بالكلام عن أجناس الكتابة المختلفة، وأنماط التعبير المتداولة، والتنابز الادعائي بالسبق، والرجم بالمديح لجنس معين، والتبخيس من قيمة جنس كتابي معين على حساب جنس كتابي آخر.
هكذا تتبثر الصحف والمجلات بالكلام إياه، وتمتلئ قاعات الندوات والجلسات الأدبية بحديث منفعل عن صدارة الرواية في راهننا الثقافي، ومشهدنا الأدبي مغربيا وعربيا. بل يذهب البعض إلى أن الرواية أصبحت ديوان العرب الجديد، وأنها أزاحت الشعر من التداول والانتشار، ودفعته مدفوشا إلى زاوية معتمة. وهذا جابر عصفور ينتصر للرواية معتبرا أن الزمن الأدبي المعاصر زمنها بامتياز. وبالمقابل، يتشبث البعض بالشعر، معتبرا أن له الزعامة والريادة والصدارة، والكلمة الأولى. ألم يقل أدونيس في مهرجان شعري انعقد قبل سنوات بغرناطة،: ( إن الشعراء أكثر تأثيرا من الروائيين في وجدان العالم ). بينما يذهب الباحث المصري “طه وادي” وآخرون، إلى أن القصة القصيرة هي ديوان العرب .
أما بعد: فإن فصل الخطاب- في نظري- يرتبط، أساسا، بفكرة الذيوع والمقروئية، وتداول الكتاب في العالم العربي، والمغرب جزء منه.
هذه الرقعة من العالم التي تعرف نسبة مخجلة ومخيفة من الأمية، وهي نسبة تفضح السياسات العربية “الإنمائية” واندحارها، وسرابيتها في مجال تأهيل الإنسان العربي تربويا وثقافيا واقتصاديا في الألفية الثالثة. إن الأمر ينبغي أن يتحدد في هذه المشكلية بَلْهَ المعضلة القائمة، ويتحدد، بالذيل والتبعية، في ضرورة وجوب معرفة هذه الحقيقة المرعبة، حقيقة أن أقلية فقط هي التي تقرأ، وتتابع، وتتداول الكتاب، وتنتصر لجنس دون جنس، من منطلق توهج وحضور رموز ثقافية بالذات في شكل تعبيري إبداعي يحتل العقل والوجدان. وتأسيسا على ما سلف، فإن للرواية العربية حظها من الانتشار داخل شريحة اجتماعية قارئة محدودة عدديا وزمكانيا لشروط تاريخية وسياسية لامجال للإفاضة فيها الآن . كما أن للشعر حظا من التداول والتلقي ضمن الشرعية إياها والشروط الحافة بها. والأمر – في البدء والختام- يؤول إلى الكتابة، عنيت: إلى الجمال والتصوير في الكتابة، والماء فيها. ومن ثم، فلا مجال للتنابز بالأجناس، إذا صح التعبير، ولا مجال للغمز واللمز من قناة نوع أدبي وتعبيري على حساب نوع أدبي آخر. فالصدارة للكتابة، وحسب، داخل الجنسين معا. وهكذا، فالروايات التي تحوز الإعجاب، وتتنشقها حاسة القراءة والمتابعة – مغربا ومشرقا-، هي تلك الروايات التي تستدخل في بنائها اللغوي، ونسيجها الاستعاري، ضوء اللُّمَع، وطلاوة اللغة، وحذق الإنشاء.. الإنشاء بالمعنى الشكلاني، وماء الشعر، وثبج الاخضلال، وذوب الروح ، ونبض الفكر. وأن أروع الشعر وأعذبه، وأشفه على النفس، وأرهفه على الوجدان والإحساس، هو الشعر الذي تأتَّى له بلور وزُغْرُب الماء، ووردة النار وجمرة الإشراق والومض، وريش اللغة الزاهي الألوان. ولا يهم أن يكون قد تَبَنَّك شكلا تفعيليا أو اتَّشَح نثيرةً.
الصدارة –إذًا– للكتابة من حيث كونها شهادة راهنة على واقع متشظ، وَمَاحِق السوء والقتامة، قصدت: واقع العرب. ومن حيث كونها استشرافا وتشوفا، واختراقا للزمان والمكان بالمعنى “الكَانْطي”، ونقدا وسؤالا معرفيا وانطلوجيا بالمعنى “الهابرماسي”.
الكتابة أولا .. الكتابة أخيرا، للتجوهر اللغوي فيها، وكيفيات صَوْغه وبنْيَنَته، وللشعرية التي تَتَقَوّم بها، وتقوم عليها، الشعرية بالمعنى الذي ذهب إليه الشكلانيون الروس في أطروحاتهم الجمالية الفَذَّة.
ثم عن أية رواية ينبغي أن نتحدث؟، هل عن الروايات التي تقبع في الخزانات والمكتبات، منتظرة قارئا مفترضا؟، أم عن تلك التي تحولت إلى أفلام سينمائية ومنحت لأصحابها الشيوع والذيوع؟، أم عن الروايات التي برمجت ضمن البرامج والمناهج الديداكتيكية، والمنهاج التربوي العام؟. وكيف يتحدث البعض، في مصر وغير مصر، بمطلقية عن طليعية الرواية، وتصدرها المشهد الثقافي العام في غياب دراسة سوسيولوجية للقراءة، واستمزاج ميداني للرأي العام؟، وفي واقع عربي- كما أشرت- مطبوع بالأمية والنمطية، والمصادرة على أحلام الناس، وحقهم في التعليم والثقافة، كحقين كرستهما الأديان السماوية والوضعية، والثقافات الإنسانية، والمواثيق والمعاهدات الدولية؟.
كيف نقول كل ذلك، ونحن نشكو- في لقاءاتنا وندواتنا- من تَرَدٍّ مريع في متابعة واقتناء ما يصدر؟، ومن ضآلة عدد القراء، وتوزعهم- على قلتهم- بين قراءة الإبداع شعرا أو قصة قصيرة أو رواية أو مسرحا، وقراءة الكتب النقدية والفكرية؟. ولماذا لا يتم الحديث بنفس الحماس، والاندفاع، والتوثب، عن القصة القصيرة، بما هي جنس تعبيري راق ووازن في المشهد الثقافي المغربي؟، علما أنها جنس كتابي مكثف ووجيز، وينضح بكثير من الشعر. وبمُكْنَة القاصين أن يتواصلوا مع الجمهور في القاعات مثلما الشعراء. وهذا ما تقصر عنه الرواية تماما لحجمها وطولها، واستحالة قراءتها في جلسة. أما الشعر، في قوالبه، وأشكاله التعبيرية الآن، فيقع في المابين، يقع بين مأزق المنبرية والإنشاد، ومأزق القراءة البصرية التأملية التي تستوجب ثقافة وإطلاعا عميقين، وتقتضي انعزالا بالضرورة. مأزق: كيف تقرأ قصيدة / كتابة خلوا من الوزن الخليلي الصائت، لأن الإيقاع أوسع من الوزن، وهو حاضر في النص، في الكتابة إن لم يكن بالفعل، فبالقوة على أقل تعديل.
خلاصة القول: إن في كل كتابة عظيمة: (الكتابة التي تعصف بالحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية)، شعرا عظيما، وماء نميرا وسلسبيلا، ساريا كالشعاع الهفهاف في الخلايا والمسام والعروق، ووتين الحياة، ومركوزا، خفاقا بالنشوة والسحر، كراية من حرير لازَوَرْديٍّ على فَرْوة ربوة زمردية باذخة !
نحن شعب لايقرأ ، وإذا قرأ لايفهم . حتى المصلون الذين يذرفون الدموع في المساجد ، لايفهمون معاني القرآن ، ولاتبكيهم إلى كلمات من قبل النار ، والحجيم ، والسلاسل ، وإذا قالت النار هل من مزيد .