في مقاربة النموذج التنموي الجديد

في مقاربة النموذج التنموي الجديد
الثلاثاء 27 غشت 2019 - 14:02

مداخل بسيطة لكنها قد تكون ناجعة

من الواضح، حسب ما جاء في خطاب العرش لهذه السنة، أن المغرب قد أصبح في حاجة إلى نموذج تنموي جديد يعطي دفعة لعجلة الاقتصاد الوطني بعد حالة الركود المستمرة التي يراوح مكانه فيها؛ وفي حاجة ماسة كذلك إلى رجالات أو كفاءات، سواء على المستوى السياسي أو الإداري، حتى يكون بالإمكان الاضطلاع بطبيعة المهام التي يتطلبها تنزيل المقتضيات المرتبطة بهذا النموذج.

وبعيدا عن “المقاربة التقنية التكنوقراطية” لمباشرة هذا الموضوع، يبدو أن المغرب وقبل أي وقت مضى قد أصبح في حاجة ماسة إلى إطار سياسي عام يمكن من حسن توجيه البوصلة ويعانق مجمل الإرث السياسي الحديث “من منظور مغربي صرف” يعلي من قيمة المفاهيم التي يكون لها نتائج عملية سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي كمفاهيم الدمقرطة، وحقوق الإنسان، الحكامة وحسن إدارة المؤسسات، ويقطع مع مخلفات الريع واستغلال النفوذ. باعتبار “الإطار السياسي العام” يشكل قاطرة ومحفزا لمجموع المبادرات التي تعتمل داخل الدولة والمجتمع، وقد يكون المغرب محظوظا نوعا ما في الظرفية الحالية التي نعيشها باعتبار وجود الملكية والإجماع المحقق حولها ومع حضور نعمة الاستقرار في البلد، وانتفاء لغة التقاطبات الحادة، إذ يبدو وكأن الشرط السياسي قد أصبح الآن متوفرا لتدارك ما فات ولتسريع وتيرة الانكباب على القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تؤرق البلد، لا سيما أن حجم الانتظارات والإكراهات جد كبير.

في الجانب السياسي دائما، علينا الإقرار بأن الأحزاب السياسية قد أصبحت مؤخرا في عنق الزجاجة وأصبح موضوعا على طاولتها هي الأخرى ألف سؤال مرتبط بالأدوار التي باتت تضطلع بها في الوقت الحالي وبسؤال الدمقرطة والحريات وتشبيب الكفاءات من داخلها وبمفهوم “العضو أو المنخرط” من داخلها، وهل تمتلك الأدوات والآليات اللازمة سواء لإبداع التخريجات فيما يخص الإسهام في إنضاج المفاهيم وتقديم بعض عناصر الإجابات للملفات المطروحة كالمشروع التنموي الجديد الذي نحن بصدد معالجته، أو للمساهمة بالكفاءات والأطقم البشرية التي بإمكانها تنزيل المفهوم والاضطلاع بالمهام.

ربما قد تغير الزمن، وأن زمن الأحزاب التي كان البعض منها يقوم بدور ضابط الإيقاعات والتوازنات، وتلعب بعض أدوار المعاكسة (من العكس) لحقيقة الاختيارات المجتمعية القائمة، ويتلاعب بالقوانين الانتخابية وفبركة النتائج من أجلها بمنطق ريعي كل ذلك كان يتم على حساب نبل العمل السياسي وعلى حساب مبررات وجود الأحزاب السياسية والمرتبطة بالتنشئة السياسية وتدوير الاختلاف وإعمال آليات الدمقرطة من داخلها سعيا وراء الإسهام في خلق وإبراز الكفاءات التي بإمكانها أن تضطلع بمهام التسيير سواء على المستوى الحزبي أو تسيير شؤون الدولة إذا اقتضى الأمر ذلك.

من جهة أخرى، تبدو الحاجة جد ماسة إلى البدء ببعض المبادرات “الواقعية والوقعية” يكون لها وقع سريع على نفسية المواطن اتجاه التغيير الذي ننشده، إذ الواضح أن المواطن البسيط والعادي دائما ما يظهر له بأن هناك أموالا تهدر على الطبقة السياسية من خلال عدد الوزراء، الترضيات الحزبية. كما أن هناك إحساسا بنوع من التردد في تفعيل آليات المحاسبة ونوع من استغلال النفوذ والمناصب والاغتناء الفاحش والسريع، فكم من مواطن يشغل مهام جد بسيطة وتجده في ظرف سنوات معدودة وقد “دار لاباس”، مما يؤشر إلى أن هناك اختلالات وجب معالجتها على وجه السرعة والاستعجال، ولا يعني هذا أنه لا يتم تقدير المجهودات المبذولة على مستوى تخليق الحياة العامة، تصفية القوانين المرتبطة بطريقة إدارة الصفقات العمومية، القوانين المرتبطة بالتباري حول تولي المناصب الإدارية…، إلا أنه ومع ذلك يلزم، ونحن بصدد الحديث عن التأسيس للنموذج التنموي الجديد، أن يتم الحزم في التعامل مع هكذا اختلالات؛ لأنها تضرب في العمق سؤال الثقة في المؤسسات، كما تضعف من متانة الخيط الذي يتعين أن يبقي المواطن مرتبطا بأمثال هذه المبادرات.

عطفا على ما سبق، وجب التأكيد على أنه حين نتحدث عن التخليق وعن الثقة وربط المواطن بالمؤسسات، فلا يعني هذا أننا “بصدد تصريف خطاب أخلاقي أو وعضي إرشادي” بقدر ما أن الأمر يتعلق بمبادرات لها فوائد اقتصادية جد كبيرة على مستوى مؤشرات النمو.

فحسب العديد من الباحثين، فالاقتصاد الوطني يضيع سنويا حوالي نقطتين من نموه (حوالي 5 في المائة بدل 3 في المائة المسجلة في الوقت الحالي) جراء وجود آفات كالرشوة والفساد ووضع العراقيل أمام المستثمرين. المؤسف أن الوعي بهذا الشكل من المعضلات بدأ يتنامى في السنوات الأخيرة، كما أن هناك “خطابا ماكرو” بدأ ينتبه إلى أهمية الموضوع في شكل حرص الحكومات المتعاقبة على تحسين المؤشرات المرتبطة بالشفافية وبمناخ الاستثمار؛ إلا أنه وعلى ما يبدو، وهذه بعض من مشكلات المغرب الحديث، أن الخطابات الكبرى في الغالب ما تكون منمقة “في واد يعني” وواقع الحال أي الواقع اليومي المحسوس والملموس من طرف المواطن المغربي في واد آخر، مطلوب تقريب هذه الهوة وتغيير القاموس المتداول والمستعمل بالشكل الذي تسمى الأمور بمسمياتها حتى يساهم الجميع في بناء مغرب المستقبل.

في نفس السياق، ونقطة أخرى من الجميل الانتباه إليها، فحين يتم الحديث عن الإنصاف وتكافؤ الفرص ووجوب الحد من التفاوتات الاجتماعية، فلأنه بالموازاة مع منطق توسيع وعاء الطبقة الوسطى الضامنة بقوتها وحجمها لنوع من استقرار البلد؛ لكن، وهذا هو الأهم، لأن ترك الطبقة الفقيرة والمحرومة لحالها ترفع من قيمة المؤشرات السلبية للبلد ويتم تصريف حرمانها في شكل ممارسات عنيفة على أكثر من منحى يؤكده الواقع المعيش وما بدأنا نشاهده عبر المقاطع التي تبثها المواقع الإلكترونية في شكل التعنيف الممارس سواء على الأشخاص أو الممتلكات أو على الحافلات أو في الملاعب الرياضية، وهو ما ينعكس في شكل عدم الأمان والاستقرار النفسي المعيش داخل المجتمع الذي يحد من المبادرات ويدفع إلى إغلاق الأبواب بدل فتحها.

ملك البلاد تحدث، في خطاب العرش، عن وجوب خلق الثروة، وتحدث كذلك عن توزيع الخيرات لكي يستفيد الجميع من ثمار هاته الثروة. يبدو لنا من الأهمية بمكان وبالإضافة إلى تنويع المبادرات المرتبطة بالتنمية البشرية (تيسير، راميد..) جميل جدا ربح نوع من الشعور بالأمان ونوع من الانفراج والتخلص مما يسميه المغاربة بـ”دواير الزمان” الذي تجعل المغربي يعيش طول حياته خائفا على نفسه وأبنائه داخل البلد..

جميل جدا أن يشعر المغربي بأن له “أما” اسمها المغرب وهي رحيمة به وحنونة عليه ستتكفل به وبأبنائه سواء في الجوانب المرتبطة بالتعليم والصحة..

من المؤكد أن أمثال هذه المبادرات “ومع وعينا الكامل بكلفتها” إلا أنه سيكون لها انعكاس كبير من ناحية إطلاق العنان والمبادرات والتخلص من الهواجس المعيقة للنمو والاستثمار.

أمثال مثل هذه الأوراش والمبادرات، في تقديرنا، تشكل خلفية أساسية ومنصة ستمكن من تشييد معالم البناء المستقبلي على أسس صلبة، وستمكن من إعطاء الفرص ومن حسن الإنصات إلى ما تتفوه به الكفاءات المغربية، سواء في الداخل أو الخارج، من إبداعات وأفكار أملا في تطوير المغرب الحديث، هذا المغرب الذي لا يمكن المجادلة بأنه ولله الحمد قد تمكن من تحقيق العديد من الإنجازات؛ إلا أن الغيرة على البلد والحسرة عليه قد تدفع إلى البحث عن كل المنافذ التي بإمكانها أن تدفع بعجلة النمو إلى الأمام.

فمن الواضح أن بنية الاقتصاد المغربي تدور حول الفلاحة المرتبطة بدورها بالأقدار والتساقطات.. هذا المكون أصبح في حاجة إلى التكامل مع مجموعة من المكونات الأخرى، خصوصا ذات القيمة المضافة العالية والمنتجة للثروة كمسار التصنيع الذي يبدو أن المغرب قد بدأ يتلمس طريقه فيه كصناعة السيارات والطياران، أو إلى الانتباه إلى المكون أو “الاقتصاد الرقمي” الذي بدأ يعطي دينامية لمجموع هذه المكونات سواء عبر خاصية الذكاء الاصطناعي أو عبر مناحي المكننة والتسريع وتقديم الخدمات عن بعد..

مطلوب من الدولة أن تنتبه إلى الأدوار التي يمكن أن يلعبها القطاع الخاص، سواء كمكون مستقل أو عبر نسج علاقات شراكة معه انطلاقا من معطى بسيط كون الدولة لوحدها لا يمكنها أن تقوم بجميع الأدوار، وعليها أن تهيء الأجواء العامة والسليمة للعمل والاشتغال فقط، مطلوب أيضا حسن التحكم في الواردات، لتخفيف كلفتها من جهة ولإفساح المجال للمقاولة المغربية والمنتوج المغربي أن ينتعش وينمو..

وقبل هذا وذاك، مطلوب إيلاء أهمية قصوى لعنصر التربية والثقافة أو ما يسمى في القاموس الحديث بتأهيل الرأسمال البشري، الرأسمال البشري الكفؤ وفي الوقت نفسه الغيور على وطنه والذي بإمكانه أن يضحي بالغالي والنفيس لكي يرى علم بلده دوما خفاقا عاليا في سماء الدول المتقدمة.

‫تعليقات الزوار

1
  • المعطاوي
    الثلاثاء 27 غشت 2019 - 15:58

    طمس الهوية، و البحث عن حداثة بديلة اشبه ما تكون بقلع اسنان مشوهة، و تعويضها باخرى مكلفة الثمن، فرغم جمالية البديل الا ان الحنين الى الاصلي يبقى فراغا مؤلما.
    لخذا وجب اعادة النظر في الهوية لدعم الحداثة.

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة