معالم حضارية فاسية تمتزج بأساطير وحكايا

معالم حضارية فاسية تمتزج بأساطير وحكايا
الأحد 8 شتنبر 2019 - 18:58

بين المدن

عند اجتيازك لحي النخالين والذي ما زالت بعض فنادقه ماثلة للعيان، إما لتصفير ونقش الأواني النحاسية أو لصناعة (السبّاط) وإن كانت في معظمها تحولت إلى دكاكين لمنتجات ومواد متنوعة. هنا ستتناهى إلى مسامعك أصوات الطرق وستعلم حينها أنك بصدد سوق الحدادين والذي احتفظ عبر قرون بمسحته الصناعية في “تقطيب الحديد” وتشكيل الشبابيك والهياكل والأقفال الحديدية، حانوت مجاورة لأخرى، كلٌّ يشتغل بكير يدوي ضخم، يلهب قطع الحديد قبل تصنيعها بواسطة صناع مهرة يشتغلون “بقوالب” دقيقة، وهم يقتعدون الأرض قرب سندان ضخم لا يبالون بالسخام ولا بشرارات النار وهي تلتهب أمامهم!

بالقرب من الحدادين يوجد زقاق يؤدي إلى باب بين المدن، وهو بمثابة حد فاصل بين دور ومنازل سكان قدموا من القيروان وأخرى قدم أصحابها من الأندلس ؛ كانت تدعى إلى وقت قريب بعدوتي القرويين والأندلس.

والعابر لهذا الزقاق سيندهش لوجود رحى حجرية تشتغل بالتيارات المائية الجارفة والجارية عبر مسارب تحت أرضية مكشوفة أحيانا داخل دكاكين هذه الرحى المختصة في طحن مختلف الحبوب. وكل هذه المسارب المائية تصب في نهر (وادي الجواهر) أو بوخرارب كما أطلق عليه فيما بعد لاختراقه فاس البالي محملا بكل النفايات السائلة والمياه العادمة، وإن كان هذا التلوث يأخذ في التناقص كلما اقترب من نهر سبو على مقربة منه ببضع كلمترات.

بين المدن هجرتها ساكنتها منذ وقت مبكر فتحولت أبنيتها إلى خرائب وجزء منها تم استعماله كدار للدباغة وهي قريبة في الطريق المؤدي إلى باب البليدة، وقد جذبت اهتمام العديد من السياح ومخرجي الأفلام العالميين فاتخذوا منها ساحة لأفلام مشهورة منها James Bond 007 .

المغارة الأعجوبة وعين علون

تنام أبنية فاس وأزقتها ودروبها على أسرار وألغاز عمرانية تاريخية ؛ يختلط فيها الواقع بالخرافة، منها على سبيل المثال وليس الحصر المغارة تحت أرضية الممتدة من برج باب الفتوح إلى برج باب عجيسة بمسافة تقدر بنحو سبع كلمترات من شمالها إلى جنوبها ؛ تذكر بعض الروايات أن المغارة كانت معدة كسرداب عسكري استخدم في النزاع السلطوي الذي نشب بين الأخوين عجيسة وفتوح المنتميين إلى دولة بني مغراوة، وقيل بأنه تم توسعته أيام المرابطين والموحدين لتحصين المدينة والوقوف في وجه حملات الدخلاء والثوار، لكن تم ردمه فيما قيل تجنبا لكل أعمال السطو والتخريب والتلصص.

عين علّون

من المعلوم أن مدينة فاس اشتهرت بعيونها وينابيعها التي كانت تتخلل أحياءها، حتى إن كل دار من الدور الأثرية القديمة كان بها “جب” بئر للاستسقاء الذاتي المحلي وبمياه عذبة يرتفع وينخفض منسوبها تبعا لفصول السنة. وقد حيكت أساطير وحكايا حول تواجد عيون داخل الدور مما كان سببا في ظهور الجان ومشاركتهم الجيران في عيشهم اليومي وبالتالي تقمصهم لصورهم الأمر الذي كان له أكبر وقع في نفوس عديد من العائلات فهجرت ديارها، لكن إلى وقت قريب تم إغلاق هذه الآبار والاستعاضة عنها بمضخات يدوية (اترومْبا). أما عين علّون فتوجد قريبا من قنطرة بوروس في زقاق ضيق متجه إلى باب الجيسة، وهي عين في شكل حوض صغير دائم التدفق وسط كنيف عمومي، تحكي العامة أن سمكة بيضاء ذات خاتم في فمها تظهر في الحوض صباح كل جمعة لساعات قليلة قبل أن تختفي، كما أن بعض الروايات الشفاهية ما زالت تتناقل أن تسمية هذه العين (علّون) جاءت مقترنة بإسم أحد ملوك الجان الذين استوطنوها.

* إحراق كتاب الإحياء للغزالي

هناك مسجد عتيق يعرف بمسجد (فرّان كْويشة) ؛ وهو عبارة عن مسجد محلي قريب من قنطرة بروس. هذا (الفرّان) الفرن تتواتر الأخبار بأنه عرف إحراق كتاب “الإحياء” للإمام الغزالي زمن المرابطين، فقد أقدم هؤلاء على إحراق كتاب “إحياء علوم الدين” لأبي حامد الغزالي (1111 ـ 1058 ) تنفيذا لتوجيهات كثير من علماء البلاط وبإيعاز من الوشاة وأعدائه، منهم أبو عبد الله محمد بن حمدين (1114 ـ 1074 )، عرّاب الإحراق ومكفر صاحبه.

باب الخوخة وباب الحمراء

هي إحدى المعالم التاريخية التي اشتهرت بها مدينة فاس البالي، وهو الأقرب إلى باب الفتوح شرقا، حمل اسم باب الكنيسة على امتداد سور بجهة (جرواوة) الذي هدمه الخليفة الموحدي عبد المؤمن بن علي الكومي، وأعاد بناءه الخليفة الموحدي الناصر بن المنصور ؛ قيل إن المولى إدريس كان قد اتخذ منه منطلقا إلى تلمسان أيام الفتوحات، فضلا عن إقامته التي كانت مجاورة له فيما يعرف بدار القيطون، وبالقرب منه ما زالت هناك بقايا لسور يحيط بفاس بداية من باب الفتوح ومرورا بباب عجيسة ثم باب الزيات وانتهاء بباب الحمراء.

ولعل تعدد الأبواب ؛ كما يشهد به تاريخ هذه المدينة ؛ يدل على حرص السلاطين والملوك على حماية ثغورهم، فأمروا بتخصيص كل حي بباب حتى يتسنى للعسس التعرف إلى الغرباء والآفاقيين كلما جن الليل، حينها تغلق، لكنها مع مرور الزمان أخذت في الاندثار فعمّ التساكن والتجاور سكان المدينة مهما كان محاتدهم (ج.محتد) وأعراقهم.

اجْنانات فاس

من المعلوم ؛ وحتى وقت قريب من ستينيات القرن الماضي ؛ أن كل عائلة فاسية (تستوطن مدينة فاس) لها اجناناتها (بساتين) تابعة لها، وتقع خارج باب الخوخة وممتدة إلى داخل طريق سيدي احرازم، على مساحة تقدر بهكتارات، كل عائلة أرستقراطية لا يكتمل لها عقارها إلا إذا كان مقترنا بامتلاك أرض عارية أو بستان (اجْنان أو أشجار الزيتون) ؛ لذا وجدنا أن تسمياتها ما زالت حتى الآن ضمن طبوغرافية المدينة كاجنان الغريسي واجنان بن الشريف واجنان الفاطمي واجنان الشفشاوني واجنان بوطاعا واجنان اليزمي… وإن ابتلعها اليوم التوسع العمراني ولم تكد تعثر ولو على “جُنينة واحدة”!

* حكاية سيدي بوجيدة

بالكاد لا تحصى أضرحة فاس سيما المندرسة منها، وما زال حتى الآن البعض منها ماثلا للعيان، ويأتي في مقدمتها ضريح المولى إدريس الذي يقع بالقرب من جامع القرويين ؛ تقام له مواسم كلما أقبل الصيف، ثم ضريح أحمد الشفشاوني المجاور لحي ازْربطانة شمال حي العيون، وضريح سيدي أحمد التيجاني، وضريح سيدي علي بن حرزيم خارج سور باب الفتوح وسط المقبرة، وضريح سيدي علي بوغالب… وهناك ضريح مشهور للفقيه العلامة سيدي بوجيدة، يقع خارج سور فاس قرب اجْنان بوطاعا.

كان فقيها ورعا وزاهدا متصوفا، ومن المأثورات التي ما زالت تتناقلها ألسن العامة أن “الزوجة المشاكسة يعود لها صوابها ويعلوها الوداد مع زوجها إذا هي زارت ضريح هذا الشيخ. وقد ثبت في مخطوطات نادرة أن الناس (أهل فاس) ضجوا واعتراهم قلق شديد أيام أن لا حظوا انحباس الأمطار، ففزعوا إلى الفقيه بوجيدة وأعربوا له عن مخاوفهم بهلاك مواشيهم جراء القحط.. فأمر بتابوت خشبي وأوصى بحمله حيا داخله والذهاب به في جنازة إلى المقبرة.. وتستطرد الرواية أنهم ما إن دخلوا مقبرة باب الفتوح حتى رعدت وادلهمت السماء وشرعت الأمطار تتساقط بغزارة.. وعمت السيول الجارفة كل المناطق والآكام، حينها أمر سيدي بوجيدة (الحي الميت) بأن يفك عنه كفنه ويرتدي لباسه وينهض واقفا ؛ ثم تحويل صلاة الجنازة إلى صلاة الشكر… وقد أحاطه رجاله بحراسة مشددة حتى لا تنهال عليه الرؤوس بقصد التبرك والتيمن.

‫تعليقات الزوار

6
  • ملاحظ
    الأحد 8 شتنبر 2019 - 20:15

    استوقفني في هذه الحلقة عن استعراض المآثر الحضارية والعمرانية لمدينة فاس كرامات الأولياء ومنهم سيدي بوجيدة بالنسبة للمرأة المشاكسة التي ستنقاد إليها زوجها ويتعلق بحبها إذا هي زارت ضريحه وثانياً قضية صلاة الاستسقاء والتي كانت مقترنة بالذهاب بسيدي بوجيدة حيا في صندوق الأموات إلى المقبرة، والأمطار التي أعقبت هذه الصلاة، فعلاً الإيمان بدرجة عالية، وشكراً للأستاذ

  • الكرماني
    الأحد 8 شتنبر 2019 - 23:10

    المعالم التاريخية لمدينة فاس أصبحت مهددة رغم أشغال الترميم، والذي يجب ترميمه لصيانة هذا الموروث الحضاري هو الإنسان المقيم في هذه المدينة والذي لا يملك إلا ثقافة التخريب

  • إحراق كتب الغزالي
    الأحد 8 شتنبر 2019 - 23:57

    مما يؤسف له أن العديد من العلماء والفقهاء لقوا حتفهم على أيدي حكام وأمراء لأنهم جهروا بالحقيقة وتجرؤوا بانتقاد الأوضاع، وحتى أن منهم من عمد إلى إحراق كتبهم أو كتاب معين كما في حالة أبي حامد الغزالي وشكراً

  • ذهبوا
    الإثنين 9 شتنبر 2019 - 08:33

    أهل فاس مشاو ومشا معهم حيرهم واش بقى والو..

  • فاس القديم
    الثلاثاء 10 شتنبر 2019 - 13:53

    أصبح من الصعب المرور بأحياء فاس العتيقة لاحتلالها من طرف العصابات والشماكريا، وحتى السياح يمرون بعيدا عنها تحت تعليمات مشددة للسياحة

  • فاسي الأصل و الهوى
    الثلاثاء 10 شتنبر 2019 - 17:20

    فاس و أين هي فاس ؟ بل أين أهل فاس ؟ لم يعد هنالك إلا …….

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات