قران المال بالسياسة

قران المال بالسياسة
الثلاثاء 12 نونبر 2019 - 04:51

المال والبنون زينة الحياة الدنيا، إلاّ أن زينة الحياة قد تتحوّل إلى مسلك للجشع والطمع كمنهاج للفساد إذا ما قُرن المال بالسياسة؛ هذا من جهة، لكن من جهة أخرى ليس هناك من قانون يمنع الشخص الثري من ممارسة حقه المشروع في ركوب بحر السياسة ومزاولته مهامّ على كرسي صُنع القرار. ولعلّي أستحضر في هذا الباب رجل الدولة والمصرفي الملياردير ديفد روكفلر، الشخصية الأمريكية التي ارتبط اسمها بالمال والسياسة، والتي حوربت سياسيا واقتصاديا بشتى الطرق، خصوصا كلّما تعلّق الأمر بإصدار قرار سياسي يهم اقتصاد الدولة أو التعاملات المالية بصفة عامة؛ لكن ذلك كان في ظاهره صراعا سياسيا ولا يهم أي قضية فساد.

ديفد روكفلر ينحدر من أسرة ورثت ثروة كبيرة عن جدّه جون روكفلر، أول أغنياء العالم في القرن الـ19 ومؤسس صناعة النفط بالولايات المتحدة الأمريكية. الحفيد ديفد روكفلر، السياسي الملياردير، استطاع أن يجعل من اسمه عنوانا للنجاح، ليس فقط لأنه استطاع استثمار ثروته والحفاظ عليها ببناء الشركات وتوسيعها، وإنما لأنه وظّف قناعاته التي اكتسبها من أسرته “البروتستانتية المحافِظة” في تخصيص جزء كبير من دخله لدعم كثير من الأعمال الخيرية؛ كتأسيس وتوسيع الحدائق الوطنية، وبناء الجامعات، وغيرها من المبادرات التي لا تزال إلى اليوم تشكل رموزا مهمة في المشهد الأمريكي؛ رجل دولة ارتبط الحديث عن آخر أيام حياته سنة 2017 بوصيته التي دعا فيها بعد اتفاق مع أسرته إلى عرض جميع ممتلكاته النفيسة في المزاد العلني وتخصيص مداخيلها لأعمال خيرية اجتماعية. هذا وقد يكون ديفد روكفلر يشكل مثلا استثنائيا، لكن ذلك في الوقت نفسه يظل مثالا حيا يُفند فكرة بأن قِران المال بالسياسة تعني تلقائيا الفساد واستغلال النفوذ.

وأنا جالس على جنبات آخر الصفوف داخل قاعة بنواحي مدينة ديسلدورف الألمانية؛ حيث نُظّم مؤتمر للقاء التجمعيين بالجالية المغربية بأوروبا شهر يونيو 2019، كنت أتابع باهتمام كبير مداخلات المشاركين، بمن فيهم أعضاء المكتب السياسي للحزب، وعلى رأسهم رئيسه السيد عزيز أخنوش. مؤتمر طغى فيه، كعادة المؤتمرات التواصلية، خطاب التذكير وعرض النصف المملوء من الكأس، أي ذِكر ما استحسن من حصيلة النشاطات، دون أن يعير المؤتمرون أي ميول إلى جانب النقد الذاتي أو إلى أي تقييم مُعَقلن للتّحديات التي قد تكون واجهت الحزب في تحقيق هذا الهدف أو ذاك.

شخصيا، لم أخرج من هذا المؤتمر خاوي الوفاض؟ وإنما ارتأيت أن أميل بدوري إلى الحديث عن النصف المملوء من الكأس، كما خرجت باختصارِ ما اسنتجتُه في شكل مقال رأي لي كنت قد نشرته جريدة هسبريس حينها؛ لكن الأهمّ من ذلك هو أنني خلال ذاك المؤتمر كنت وجدت نفسي أرسل لمحات بصري تجاه شخصية لا أقول مثيرة للجدل وإنما شخصية فرضت وجودها في السوق الاقتصادية وفي الساحة السياسية المغربيَين، وخلال كلّ لمحة كانت مُخيلتي تستحضر ما أدركته مسامعي من جدال حول نشاطات الرجل؛ وزاد فضولي حين خطفت بضع ثوان من وقته، وأدركت غاية فطنته في تحديد مسار حديثه مع مُحدثه طال هذا الحديث أو قصر؛ حيث كانت ثواني دردشتي معه كافية ليوصل إليّ فكرة أنه “لا مناصّ من استدراك إشراك الكفاءة المهاجرة في تعزيز المشهد السياسي ودعم التنمية الاقتصادية للبلاد”. منذ ذاك الحين ومقاصد اهتمامي تنبش في مغاور ما ظهر وما خفي ممّا قيل وكُتب عن شخص الملياردير ابن أحمد أولحاج، هذا الأخير الذي كان درب غلّف محطة منطلق لمسيرته التجارية ليصبح مالكا لشركة توزيع المحروقات، بشراكة مع صهره السيد الحاج واكريم. الشركة الرائدة التي ساهمت بمخزونها في تعويض خصاص الدولة من المحروقات أثناء أزمة اقتصادية أو أخرى؛ ويذكر كذلك أن أحمد أولحاج ساهم في تزويد متطوعي المسيرة الخضراء بالغاز مجانا؛ نجاح تجاري جعل أخنوش الأب يفكر في تجربة سياسية أواسط السبعينيات في كنف “حزب العمل”، لكنه سرعان ما طلّق السياسة لكون التجربة لم ترقه، حسب شهادة أخنوش الابن.

التجربة السياسية للأب لم تُخف ابن تافراوت وخريج جامعة شيربروك الكندية ورئيس مجموعة “أكوا” صاحبة العلامة التجارية “إفريقيا غاز” من أن تُحوَّل نعمته إلى نقمة حين قرّر دخول البيت السياسي من بابه وليس من الخلف عبر النوافذ؛ حيث بدأ مساره السياسي من القاعدة وعبر صناديق الاقتراع خلال ترشيحه بدوار أكَرض اوضاض، مسقط رأسه، ليلتحق بعد ذلك ببلدية تفراوت وبعده إلى المجلس الإقليمي لتزنيت ليُنتخب رئيسا لمجلس جهة سوس ماسة درعة لمدة ست سنوات.

وحسب تعبيره، فإنه اكتسب خلال تلك المحطات والتجارب خبرة سياسية بجميع مراحلها، انطلاقا من القاعدة بهدف خدمة الوطن والمواطنين. كما كان يرى في دخوله عالم السياسة تحديا ذاتيا وطموحا شخصيا، لا رغبة في تحصين ثروة ما أو توسيع نفوذ.

عزيز أخنوش وجد نفسه أكثر من مرّة مضطرا للإجابة عن سؤال خلفيات قران المال بالسياسة، وكما تساءل هو نفسه أثناء إحدى المقابلات التلفزيونية عمّا إذا ما كان الولوج إلى النشاط السياسي مرتبطا بشرط مسبق لتجربة مهنية دون أخرى، أو هل هناك من مدرسة تكوين سياسي (عدا مدرسة الحياة) تشترط شهادة التخرج منها لأجل ممارسة العمل السياسي، مضيفا أن المقاول له مكانته داخل الحقل السياسي؛ لأن هذا المقاول، حسب تعبير السيد أخنوش، أدرى بمشاكل المواطنين أكثر من غيره بحكم تجربته وقُربه من عماله ودرايته بمشاكلهم المعيشية اليومية، ودرايته بظروف تحديات التشغيل وتحديات الاستثمار وصعوبات الحصول على التمويل من البنوك إضافة إلى علاقاته الجيدة مع النقابات بطريقة تأهله إلى رؤية شمولية تُقربه إلى المواطن العادي أكثر من غيره.

ولهذا، فإن عزيز أخنوش، حسب قوله، يحرص على تشجيع المقاول على ولوج السياسة ويدعوه إلى تجنب التردد في ذلك، مضيفا أنه مهما حصل فلن يعاني هذا المقاول ما عناه من ضربات هو نفسه أي السيد عزيز أخنوش، وفي الوقت نفسه دعا العامة إلى الاهتمام بالعمل السياسي واختيار من يمثلهم لسد الطريق أمام من يلهثون وراء اقتناص الفرص لمصلحتهم الخاصة وإهمال الاهتمام بالتدبير الصحيح لشؤونهم العامة.

ألهذا وجب طبع وصمة عار على جبين عزيز أخنوش، ونزع مصداقية العمل الجاد منه، وتكذيب دعواته إلى عدالة اجتماعية؟ أذاك جدير بحتمية نَعتِه بسياسي التشريف والامتياز عوض وزير التكليف والالتزام؟ قد يرى البعض أشياء حُجبت عن البعض الآخر، وحكم الأشخاص مرتبط بأصحابه؛ لكن صوابه يستوجب بناؤه على معرفة دقيقة، وهذا في حد ذاته إنصاف للطرفين سواء كان ذاك الذي يطلب الشفافية والنزاهة أو الآخر المشتبه في شفافيته ونزاهته؛ حيث يظل البرهان هو الفيصل.

وربما فلسفة دقة المعرفة ويقين البرهان هو ما دفع بالوزير أخنوش إلى الخروج إلى العلن قصد تصحيح بعض المغالطات حسب تعبيره؛ وله أن يكون قد أفلح في ذلك ما دام أتى ببرهان حجّته دون أن يفنّدها أولئك من أزعجهم قران المال بالسياسة في شخص ابن أحمد أولحاج.

وبالرغم من ذلك، فإن الحالة الاجتماعية للمواطن المنزعج والفاقد للثقة والوضع الكارثي لقطاعَي الصحة والتعليم وتحديات التأمين الغذائي تظل كلها معطيات تحدّ من قابلية أي تبرير من أي منتم إلى أي مكون سياسي في البلاد، على عكس البلدان الغربية الديمقراطية؛ حيث ازدهارها ورُقيّ العيش فيها يشفع لأغنيائها من السياسيين ما داموا حريصين على المصلحة العامة وعلى عدم استغلال النفوذ من أجل كسب المزيد من المال.

*أكاديمي خبير مقيم بألمانيا

‫تعليقات الزوار

7
  • النظام الراسمالي ...
    الثلاثاء 12 نونبر 2019 - 06:45

    … يفرض ارتباط المال بالسياسة.
    المستثمر الذي يحرك الاقتصاد ويساهم في توفير فرص الشغل للعاملين المحتاجين الى كسب ارزاقهم يحق له ان يهتم ويشارك في السياسة للحفاظ على مصالحه.
    السياسي يتولى التشريع في البرلمان والتنفيذ في الحكومة و صاحب المال يتاثر بالتشريعات وتنفيذ القوانين من حيث فرض الضرائب او اصدار قوانين قد تؤدي الى افلاس منجزات ارباب المال والاعمال.
    رب المال والاعمال ذو فكر خلاق مبدع بينما المسؤول الحكومي صاحب الكرسي بيروقراطي يميل الى احتكار القرار وكبح المبادرة الحرة.
    هذه العلاقة الوجودية بين المال والاعمال فهمها الحسن الثاني فكان يختار بعض الوزراء من بين الناجحين في الاعمال المساهمين في تحريك الاقتصاد الوطني.
    و لهذا السبب عين كريم العمراني وزيرا اولا لعدة سنوات.

  • السياسة وأهلها
    الثلاثاء 12 نونبر 2019 - 08:16

    من البداهة ارتباط المال بالسياسة وارتباط السياسة بالمال ولكن المشين هو ممارسة السياسة من أجل الإثراء كما هو المعمول به عندنا حيث الوزراء والنواب والمستشارين وأعضاء المجالس البلدية غالبيتهم يدخلون فقراء ويغادرون المناصب أثرياء . هذا إن غادروا وإلا فإن منهم من يدخل المجلس لايخرجه منه إلا عزرائيل.

  • zahidi
    الثلاثاء 12 نونبر 2019 - 11:41

    ويقال في السياسة الأمريكية عادة «المال لبن السياسة»، وتوفر البيئة السياسية الأمريكية بيئة صالحة لتأثير المال، وذلك إشارة لما يلعبه المال في تحريك السياسة على الرغم من ديمقراطية النظام وتقنين الاستخدام السياسى للمال. إلاّ أن النظام السياسي الأمريكي نظام مفتوح، بمعنى كل شيء بالانتخابات، والانتخابات تحتاج لنفقات مالية تتوفر لدى اللوبيات ورجال المال والشركات والأغنياء.

    مقطع من مقال مجلة خليجية.

  • Lalla Salma
    الثلاثاء 12 نونبر 2019 - 13:07

    بغض النظر على ان هناك سياسيين كثر في دول العالم الكبرى يجمعون بين المال و السياسة, بل هذا هو السائد, مثلا عائلة بوش و عائلة ترامب و ال سعود و دول الخليج عموما و روسيا و ابريطانيا او الملكيات عموما, لان المال يعتبر ظروريا لمزاولة السياسة تقليديا, فكيف يمكن تدبير النفقات المتعلقة بالنشاط السياسي و الديبلوماسي?! طبعا لا يمكن فعل شيء دون اموال طائلة امام هؤلاء العمالقة في عالم الاقتصاد و السياسة, الذين يلعبون بالملايير. اما بالنسبة للسيد عزيز اخنوش فانا اقدره لانه انسان وطني و والده و اذا احتجت اليه فانك تجده و اخلاقه عالية و كريم و يفدي وطنه بالغالي و النفيس, و ليس لانه ميلياردير.

  • كاترينا
    الثلاثاء 12 نونبر 2019 - 16:16

    شكرا للكاتب لإثارته هذا الموضوع.
    مادام المال مصدر نفوذ و السياسة غايتها الحكم و صنع القرار، فإن هذا مكمّل لذاك و اكاد أجزم بأن من يحكم العالم هم اصحاب رؤوس الأموال، سواء كانو في الواجهه كسياسيين معروفين أم كانوا آمرين من الخفاء بمعية مُؤتمرين منهم في الساحة السياسية.
    أنصح من يهمه الأمر بأن يقرأ كتاب لمكيافيلل "الأمير"

  • والو
    الأربعاء 13 نونبر 2019 - 11:32

    الكاتب يقارن روكفلر و أخنوش اللذي جيء به إلى حزب رأسمالي متوحش. العيب ماشي في اخنوش، العيب في الحزب اللذي يهيءه المخزن لإتمام المسرحية. واش اسي الكاتب مكتعرفش ان الأحزاب المغربية لا تقرر فالذي يقرر هو الراسمال ، … ، اخنوش، وحكومة الظل ويأتي الكاتب ويقول لنا أن اخنوش المنتمي لحزب التجمع الوطني للاشرار، الراسماليين، لا يعرفون إلا عاش الراسمال….

  • عبد الصمد ألمانيا
    الأربعاء 13 نونبر 2019 - 21:55

    مقال جيد يشرح أنه ليس كل شخص غني يريد الدخول في السياسة وجب إلصاق تهمة الفساد له فهذا يعني أن المنافسين السياسيين ليس لديهم حجج منطقية لمقارعته فهو يأتيهم بحلول عملية للمشاكل الإقتصادية لأنه له خبرة ودراية كبيرة في هذا المجال مع العلم أنه يعرف كيف يخلق فرص شغل كبيرة، فإذا تحسنت الظروف الإقتصادية تحسنت معها الظروف الإجتماعية.
    في نظري المتواضع السياسي الذي ليس له دراية بالإقتصاد لا يمكن أن يخلق فرص شغل…
    وشكرا

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 3

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب