توفيق صايغ.. الكبير المنسي والشاعر المنكود

توفيق صايغ.. الكبير المنسي والشاعر المنكود
الجمعة 22 نونبر 2019 - 16:54

كم تحمل قلبه، كم صبر وصابر إلى أن استسلم واستكان كفريسة عزلاء ومن دون حول بين براثن الوحش المطارد الهصور. توقف ـ فجأة ـ عن النبض وهو يرتقي سلالم العمارة إلى عشه البارد والبعيد في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان يدرس في إحدى جامعاتها العريقة. فكأن موته كان إعلانا عن استراحة المحارب المنهوك، وانتهاء المنهوش الذي تناوشته مخالب ونيوب الذئاب وأبناء آوى. ولد منفيا، وترعرع منفيا، ودرس في المنفى، وأصبح أستاذا في أعرق جامعات بريطانيا وأمريكا التي شهدت نهاية آخر نفثة محرورة محزونة في نايه الشجي.

ولربما دَرَى، في أثناء تنقلاته وترحلاته من سوريا إلى فلسطين، ومن فلسطين إلى لبنان، ومن لبنان إلى بريطانيا، ثم إلى لبنان عائدا، ومن هذا الأخير إلى الولايات المتحدة الأمريكية، دَرَى أنه “كركدن” أسطوري، أو نعامة لا يني يطاردها المطاردون بغية قتلهما، وطمس وجودهما. وأدرك، بفراسة الشاعر المتوحد والمتفرد والعميق بما لا يقاس، أن رأسه كما شعره، مطلوبان بإلحاح لأنه انتهك قواعد اللعب الشعرية المكرسة، واجْتَرَأَ على “قدسية ” اللغة العربية التي أتى فيها وبها صورا مدهشة بقدر ما هي “غريبة”، ومجازات غير ملحوقة، وانزياحات مبهرة. إذ أنه استقى من معين ثقافته ومعرفته الواسعة بالتراث العربي أولا، وبالتراث الأنغلوساكسوني ثانيا، وبالعهدين: التوراة، والأناجيل ثالثا. فتشكل من هذه المقومات الثلاث شعره الذي كان شعرا مختلفا ومخالفا لشعر مجايليه ورفاقه في ” مدرسة” شعر تحديدا، تلك المدرسة أو الاتجاه الإبداعي الذي دشن عهدا شعريا جديدا لم تشهده الشعرية العربية من ذي قبل، ولم تألفه الذائقة العربية طُرّاً. إنها الذائقة التي بَوْتَقَها التداول الصحفي والإعلامي، وكرسها المنهاج التعليمي التربوي في كافة الأقطار العربية، المنهاج الذي انتصر، ولا يزال، للتقليد والعمود والاستعارات والمجازات، والتشبيهات المطروقة المعادة والمكرورة بهذا القدر أو ذاك.

وكان الشاعر توفيق صايغ المختلف الحقيقي، قد تنبه إلى جديد صنيعه الإبداعي، وفتحه الشعري، وفتقه أكمام اللغة حيث قال في مدخل كتابه الشعري الأول: (ثلاثون قصيدة)، الذي مهد له بمقطع شعري إنجليزي للشاعر فرانسيس تومسون، عنوانه: (كلب في السماء أو في الجنة)، وهو مقطع ذو دلالة يختزل المعنى البعيد الذي يتحرك داخل الكتاب.

يقول توفيق: (في الأوراق التالية، سيأخذ علي ناقديَّ الكثير. لكن المأخذ الأبرز سيظل عنهم خلف حجاب: أني تصاعدت من بحيرتك غيمةً، هطلتْ على الأودية، وفوقكِ اتشحتْ بالبياض، وأني بين “بلى” كنتِها منذ بطش الضوء بالعتمة الحنون، و”بلى” ستكونينها حين تعيدنا معا عتمة أحنُّ، طوال عهد الضياء الضرير، كنتُ “لا”).

ولا آتي بجديد عند القول بأن توفيق صايغ الشاعر المنكود الذي عاش ممزقا، ضَجِرَاً، مُتَبرِّماً من الحياة والناس الذين أوسعوه سبابا وشتائمَ، بما في ذلك قطاع واسع من النخبة المسيسة والمثقفة في بيروت وسوريا والعراق ومصر، بسببٍ من مجلته الأدبية الغنية والأنيقة: ( حوار )، التي كافح من أجل أن يبنيها ويطلقها في دنيا الثقافة والأدب والشعر، وانتشى فرحا وهو يرى كوكبة مشرقة ومستنيرة ومُحْدثة تكتب فيها، وترصعها بلؤلؤ أسمائها وشهرتها، لكن، سرعان ما انحسر وانكمش انتشارها، وانكسفت شمسها بدعوى أنها ممولة من أحد مراكز المخابرات الأمريكية المتصهينة. ما أُسْقِطَ في يده، وضاعف من حزنه وحسرته، وقلقه الوجودي، وتمزقه الروحي. وكان، من ذي قبلُ، هدفا للعرب العاربة والعرب المستعربة، أولئك الذين رأوا في شعره من خلال (ثلاثون قصيدة)، 1954 و(القصيدة ك)ـ 1960، و(معلقة توفيق صايغ)ـ 1963، تغلغلا مسيحيا نصرانيا ينذر العربية “الممجدة والمقدسة” بالويل والثبور، ويهددها بالمحو والخراب. كأنما نسوا أو تناسوا بأن العرب المسيحيين هم من جَمَّلَ العربية، ورقَّاها، وحررها من أثقال البلاغة والألفاظ الوحشية، والتراكيب المتكلسة التي كانت ترسف فيها. والدليل على ذلك: ثلة شامخة من كتاب ومبدعي نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات وأواسط القرن العشرين، منهم جبران، وميخائيل، وإيليا أبو ماضي، وجملة من المسرحيين والسينمائيين، والتشكيليين، والموسيقيين، والمغنين والمغنيات، الذين عنوا باللغة العربية، وبرَعوا في تقليبها على أكثر من وجه لتزداد إشراقا ونصاعة، وطواعية، وقوة، ونعومة، وهي تحكي وتبدع وتصور وتفكر، وتمثل، وتغني.

وإذا كان حضور يسوع الناصري كَفَادٍ وكمُخلِّص في شعر توفيق صايغ، حضورا ساطعا، ناتئا ومخفيا تَبعا لاشتعال الحال واللحظة الشعريتين، فإنما لاذَ به وهو العاري المنبوذ الضائع الذي فقد وطنه وأمه وحبيبته (كايْ شو) التي أهداها كل أشعاره، بل وسمى واحدا باسمها. ففلسطين سُرِقَتْ، والحبيبة هجرت مخلفة له آلاما مبرحة، وتمزقا رهيبا. ومن ثمَّة، فهو مسيح عصري جديد يجر صليبه، وسيزيف فلسطيني يُدَوِّن رحلة الشقاء الممض في مسعاه المستحيل إلى استرجاع تاريخه وجغرافيته وهويته وكينونته.

زد على ذلك، أن دائرة مجايليه الشعراء تشرذمت واعتصبت حياله، وتصامتت بإزاء خلقه الشعري، وفتحه الإبداعي، و”غريب” صوره، وبديع انزياحاته ومجازه، ما خلا أصدقاؤه الخُلَّص الذين رفعوه إلى الذروة، واعتبروا شعره فتحا بيّنا، وجديدا نوعيا ومختلفا. لكن، ما عتم أن نسوه بعد رحيله، مثل: جبرا إبراهيم جبرا، ويوسف الخال، وخليل حاوي، ونجيب رياض الريس، وأنسي الحاج، وسلمى الخضراء الجيوسي التي عدَّتْ نصه الشعري (من الأعماق صرختُ إليك يا موتُ)، الموجود في ديوانه (القصيدة ك)، أعلى وأرفع نص في شعرنا المعاصر بقولها: (إن قصيدة: “من الأعماق صرخت إليك يا موت) ليست ذروة في شعر توفيق صايغ فحسب، ولكنها ذروة شامخة في شعرنا المعاصر بأجمعه).

إن توفيق صايغ المهمل والمنسي في مناولات النقاد والشعراء، وفي الأنطولوجيات العربية المكرسة للشعر الحديث والمعاصر، أكبر حداثي، في تقديري، وأهم شاعر كتب القصيدة بالنثر، في طول الوطن وعرضه، لأنه وعى التجديد أسرارا وأعماقا وأبعادا ومساحاتٍ. وعاه ثقافة وفكرا وإبداعا وترجمة. فلا ننسى، وما ينبغي، أنه مترجم كبير وحاذق لكبريات النصوص الإنجليزية والأمريكية، وقارئ من طراز عالٍ وخاص لإيليوت (1888 ـ 1965)، ولشعراء التجربة الدينية المرموقين ك: جورج هربرت ( 1593 ـ 1633)، وريتشارد كراشو (1613 ـ 1649)، وجون دون (1572 ـ 1631)، ووليام بلايك (1757 ـ 1827)، وهوبكنز (1844 ـ 1889). وهذان الأخيران هما الممهدان للحركة الرومانسية الإنجليزية في القرن التاسع عشر.

إن إشارتي هذه إنما تبغي التأكيد على طول باعه، وعمق معرفته بالشعريات القوية الكونية التي غذت شعره، وكانت رافدا ثقافيا وإبداعيا صب في تجربته الشعرية، ووسمها بالاختلاف والجدارة، وإحقاق معنى وتسمية القصيدة الجديدة بـ (قصيدة النثر). ومن ثمة، فهو رائد قصيدة النثر. وآية ذلك أنه كتبها قبل أن يكتب أنسي الحاج نصه الانقلابي بمقياس الفن: (لن). إذ أن كتاب توفيق الشعري (ثلاثون قصيدة)، رأى النور في 1954، بينما رأى (لن) النور بعده بست سنوات. وأن باكورة الشاعر الماغوط (حزن في ضوء القمر)، ظهرت بعد باكورة توفيق بخمس سنوات.

أبعد هذا؟. هل نشك في ريادته وإبداعيته، وسبقه، وشموخه، وأصالة حفره ومأتاهُ؟.

ولنتأمل ما قاله السياب في شعره. والسياب كدرويش لهما موقف مناوئ من قصيدة النثر: (لو أن كل الذين كتبوا قصائد نثرية بلغوا مستوى توفيق صايغ، لما اعترضنا عليهم، ولا على الشعر المنثور).

وقول سعيد عقل عن كتابه الشعري (ثلاثون قصيدة)، في المقدمة الرفيعة الباذخة التي وضعها كمدخل للكتاب، والموقعة في زحلة أول أيلول 1954:

(إن كتابه لاَ لِيُقْرَأَ، إنه ليغدو خلجاتٍ فيك، ودماً دافقاً وناراً. إنه مزيجٌ من شبقٍ ولاهوتٍ، من كشف علمي وخطيئة، وبَرَاءة ملائكية أولى. لَكَمْ هو ابنٌ للحياة هذا الذي لم يتعب من قرع باب الحياة).

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 3

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب