النموذج التنموي أو الاستقلال الثاني

النموذج التنموي أو الاستقلال الثاني
الأحد 22 دجنبر 2019 - 15:27

يقتضي المنطق العلمي والتاريخي وكذا السياسي، أن تتوفر كل بلاد مستقلة على نموذجها التنموي الخاص، الذي تتكلف نخبتها الثقافية والسياسية عادة بإعداده، كما يتولى الجهاز التشريعي فيها شأن تعهده وتتبع مسارات تنفيذه، بما يضمن استفادة كل المواطنين من عائداته المادية والمعنوية، بدرجات معقولة ومتوازنة.

يسهل أن نلاحظ أنه منذ حصول بلدنا على الاستقلال الجغرافي في حدوده التي نراها الآن، والتي كانت نتيجة ملابسات تاريخية معينة، وهي تراوح مكانها في ما يتعلق بسؤال التنمية، فلا زلنا نردد، بلا وعي حقيقي ولا أثر واضح، العبارة الأثيرة: (رجعنا من الجهاد الأصغر، إلى الجهاد الأكبر)، التي فهم منها الجميع آنذاك، أن الأمر يتعلق بالتنمية الشاملة للبلد، فأين هو الجواب الواقعي والحي، بعد ستين سنة؟ إن البحث عن نموذج تنموي والإلحاح على ذلك، يعني أن هناك إحساسا حقيقيا بوجود نقص، ليس باليسير، وأن قضايا البلد الأساسية لم تعد تحتمل التأجيل ولا المساومة، بالنظر إلى التراكمات الكثيرة والأسئلة التي ظلت عالقة، فقضية النموذج التنموي تعني بشكل مباشر صورة البلد وسيادتها، وأيضا مستقبلها القريب والبعيد ومستوى هذا النموذج التنموي وآثاره، هو ما يحدد بشكل كبير قيمة بلادنا ومستقبلها سواء على المستوى الداخلي بالنسبة إلى عموم المواطنين، أو على المستوى الخارجي الذي يعني صورتنا في العالم بناء على مؤشرات التنمية المعتمدة دوليا.

وبلا مقدمات كثير فصورة الوطن وقيمته بالمعنى التنموي للكلمة يستمدها من عاملين أساسيين اثنين: الأول نظري فكري ويعني مدى امتلاك البلد لأطروحة نظرية قوية ومتماسكة ومنفتحة، وهنا تحضر كل الأسئلة المرتبطة بالهوية ومتعلقاتها ( اللغة، الدين، التاريخ، منظومة القيم، حقوق الإنسان، قضايا المرأة، وغيرها)، والمؤكد أننا نعاني إشكالات كثيرة بعضها حقيقية وأخرى متوهمة في مجمل هذه القضايا، والمطلوب تدشين نقاش علمي ووطني وصريح ومسؤول، يفضي بنا إلى إنجاز تقدم حقيقي على هذا المستوى، بما يخرجنا من شرنقة الجدالات العقيمة والتي ترجع بنا دائما إلى النقطة نفسها، فالنموذج التنموي يعني في بعده الثقافي امتلاك هوية واضحة تستوعب الجميع ومن أجل الجميع، وهذه مهمة أساسية تنتظر اللجنة المكلفة بإعداد نموذجنا التنموي في شقه اللامادي، فالإشكال الثقافي عندنا يحتاج إلى مفاتيح جديدة وإلى تقدم واضح، بما يذلل الصعاب ويرسم الطريق أمام العناصر الموالية، ذات الطابع المادي الصرف، فالمؤكد أن لدينا أسئلة ثقافية عديدة تنتظر جوابا، ويأتي على رأسها السؤال الوجودي والتقليدي، من نحن؟ وماذا نريد الآن؟ والملاحظ أننا بكل أسف لم نستفد كثيرا من مفكرينا الكبار الذين ما فتئوا يؤكدون على عطبنا الثقافي وأسئلته المؤجلة.

العامل الأساسي الثاني، ويعني الجانب الاقتصادي، بالمعنى المادي التدبيري للكلمة، ويكفي هنا أن الجميع اليوم يردد لازمة واحدة هي، الفساد، الشيء الذي تأتي المؤسسات الدستورية المعنية بالمراقبة والافتحاص، لتؤكد وجوده وتغوله وبشكل مخيف، ما يعني أن الشق المادي من نموذجنا التنموي فاسد وبدرجات متقدمة، وكل المحاولات التي تم الإعلان عنها، منذ الاستقلال وإلى اليوم لم تحقق الغاية المرجوة، سواء على مستوى إعداد مشاريع جديدة أو على مستوى مراقبة وتتبع الأوراش والأعمال قيد الإنجاز، وبالطبع الأسباب كثيرة ومتداخلة بعضها معلوم وآخر مجهول، يمكن أن نميز منها، غياب الإرادة الحقيقية، أو ضعفها، ضبابية الرؤية الإصلاحية والرقابية معا، ما يعني أن اللجنة المكلفة بإعداد نموذجنا التنموي مدعوة إلى تقديم تدابير عملية تتوخى مواجهة الإشكالات الأساسية ومعالجتها بالجدية المطلوبة، من طرف الحكومة والأجهزة التنفيذية وعدم الاكتفاء بجرد المطبات ووصف الحالة، فحياتنا على المستوى الاقتصادي تعج بألوان من الريع والثراء غير المشروع، والصفقات المشبوهة، والقدرة العجيبة على التخلص السريع وبضمانات كاملة من المتابعة القانونية، ما يعني في النهاية أن هناك خللا كبيرا على مستوى توزيع الثروة، وأن هناك من يغتني ويستفيد على حساب قطاعات واسعة من المواطنين، وهذا هو المعنى الواقعي والحي والمباشر للفساد في شقه المادي، وبهذا نستطيع أن نفهم ونفسر الكثير من الاحتجاجات، وأنواع القلق المتزايدة في صفوف الطبقات التي توصف بالشعبية، من المواطنات والمواطنين.

إن التوفر على نموذج تنموي حقيقي وناجع، يعني أمرين اثنين، الأول هو امتلاك هوية ثقافية واضحة وجامعة تجيب على أسئلة المرحلة، بالعمق المطلوب، وبمشاركة كل الأطراف الجادة، والثاني يتمثل في تنزيل تطبيقات اقتصادية شفافة وناجعة، تمكن الجميع من حقه، في الاستفادة من خيرات وخدمات بلاده، وعلى قدم المساواة.

‫تعليقات الزوار

1
  • amaghrabi
    الأحد 22 دجنبر 2019 - 16:11

    نعم استاذي إبراهيم حفظك الله,اليوم مغربنا الحبيب وصل الى مرحلة مفترق الطرق,وفي هذه المرحلة يجب إعادة الحسابات وإلتركيز على نقطة الضعف التي تجعل المغرب يدور في حلقة حلزونية مفرغة,وبالتالي فاما ان نشمر على سواعدنا ونقف سدا منيعا لثقافة الريع ومحاربة المفسدين وتطبيق القانون على كل من اخترقه واستغل منصبه لتحقيق مصالحه وفرط في مسؤولياته ووواو ان السكتة القلبية اتية لا مفر منها.الاحزاب السياسية فشلت في اعتقادي فشلا ذريعا واكاد اجزم انها تتحمل المسؤولية الكبرى في هذا الفساد الخطير الذي تعيشه اليوم بلادنا لانهم وزعوا صكوك الغفران ووزعو وعودا كاذبة واعتقدوا ان النضال هو الوصول الى قبة البرلمان وطرح الأسئلة على الوزراء والحكومة ووووانتهت مهمتهم,ولا يعلمون انهم شاركوا في تخدير الشعب بوعودهم الكاذبة حتى اصبح الشعب لا يثق بالسياسة والسياسيين واعتقد ليس هناك ما هو اخطر حينما ترى الشعب في ناحية والحكام في عالم اخر لا صلة له بمصالح شعوبهم

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة