مع المتنبي .. الشقي بطموحه وعروبته

مع المتنبي .. الشقي بطموحه وعروبته
الإثنين 30 دجنبر 2019 - 08:29

ربما يكون المتنبي الشاعر الوحيد الذي لم يسلط نير كبريائه على مجايليه فقط ممن نافسوه ومنعوه السلطة ونفسوا عليه تفوقه عليهم وأوغروا صدره على الأقدار التي راقبها وهي لا تخدم في عصره إلا الجهلة والسفلة والصغار وخامدي الهمة، وإنما جعله أيضا سيفا مشهورا حتى على السابقين واللاحقين من الخلق ممن ستسعى بهم قدم على هذه البسيطة بعده إلى أن يرثها الله…. كبر وخيلاء تورما فيه إلى أن صارا كالهجاء لكل العالم أو أقذع منه:

أي مكان أرتقي….أي عظيم أتقي.

وكل ما قد خلق الله…وما لم يخلق.

محتقر في همتي… كشعرة في مفرقي.

غرور لا يطاوله غرور ينسل من بين جدائل أبيات يستعلى فيها الشاعر الفريد على الخلائق جميعهم، استعلاء لا يمنعهم مع ذلك من الغفران له والهيام حبا بشعره وحكمته التي كانت تنسخ في نفوسهم بسحرها هذا الصلف وهذه النرجسية الشديدة الوطأة مشيدة لحب شنو قسمة ضيزى يصدر من جهة واحدة حتى ليخيل لك أن الشعر العربي ابتدأ بالمتنبي وقضى نحبه عنده.

فهل كان المتنبي حقا شاعرا مغرورا لحد المرض؟ مهووسا بالعظمة؟ يشكو عقدة التفوق ولا يمشي هونا بين الكلمات؟ أم أن ابتغاء الصورة الشعرية الحثيث من لدن قريحة منقدحة فياضة مبدعة في زمن سمته الانحطاط والفرقة والهوان هو من سلك به هذا المذهب في الشعر الذي لم يضاهيه فيه كل فحول الضاد والقصيدة… مذهب الفخر بالنفس وإطراء الذات التي ترتوي مدحا قبل أن تسمح بأن يشرب الآخرون من قريظ مدحها.

يقول المغرمون إن المتنبي جب بشعره ما قبله وما بعده لدرجة أنه قد يغنيك عن كل ما أنشده الآخرون حتى رأى الناس أن غيره أصبح عالة. عليه.

وما الدهر إلا من رواة قصائدي. إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا. فسار به من لا يسير مشمرا. وغنى به من لا يغني مغردا.

فدفع كل صوت غبر صوتي. فإنني أنا الصائح المحكي وغيري الصدى.

ويقول أخصائيو علم (النفس الشعري) أن الشعر قد كشف نفس المتنبي السامقة الشموخ المتطرفة في حبها لذاتها الولوعة بازدراء الآخرين وتحقيرهم. وأنه قد كان قاب قوسين أو أدنى من الجنون .هذا الجنون الذي لو لم يصرفه شعرا لما بقي مرابطا على تخوم العبقرية والتفرد إلى الآن.

لم يكن صاحبنا هذا شاعرا بل كان في الحقيقة ملكا ينطق بلسان شاعر.

وفؤادي من الملوك ..وإن كان لساني يرى من الشعراء

هذا اللسان الذي كان ينم عن نفس أبية تنشد الخلود والرياسة، نفس تتحلى بخصال الرجولة والشهامة والنجدة والوفاء والقدرة على الظلم.

لتعلم مصر ومن بالعراق… ومن بالعواصم أني الفتى

وأني وفيت وأني أبيت ….وأنى عتوت على من عتا

إنه الشاعر الذي ينظر الأعمى لأدبه، وتسمع كلماته الصم وينطق البكم، أي الشاعر المعجزة الذي أخطأته النبوة ولم يضق به الشعر. وهو أيضا الفارس المغوار الذي لا يشق له غبار في الحرب كما في السلم، رجل السيف والقلم الذي تعرفه الخيل والليل والبيداء والرمح والقرطاس والقلم مذلل البلاغة جامع المجد من أطرافه.

ابتلي المتنبي بطموحه الذي أشقاه طول حياته ثم أرداه أخيرا في الصحراء على يد فاتك الأسدي لتكون دماؤه وشعره كفنه.

ولأنه كان يريد من الزمن أن يبلغه ما ليس يبلغه من نفسه هذا الزمن، فقد بحث لنفسه عن سلطة زمنية، عن ملك أو إمارة يتكئ عليها لإحياء حمية العروبة ولو جاءه ذلك بادعاء نبوة مزعومة أو حتى بمدح من هو دونه. كل هذا الطموح الشقي كان لأجل مشروعه القومي…. توحيد العرب وبعث مجدهم الأول. فصار شعره كله حكمة وسياسة وتحبيبا في المغامرة والمخاطرة وطلب الشرف والسؤدد الذي لا يكون إلا على سرج سابح تخاض به الحروب.

وجد المتنبي الأمة ضعيفة. والخلافة العباسية مترنحة ممزقة الأوصال تتربص بها المطامع وتنخرها الشعوبية والعجمة…. مجرد أطلال للعزة يتراقص فوقها الترك، فتسامى بشعره عن هذا الواقع الرث القميء. وأعاد تتويج العربية في شعره ليقدح به زناد العروبة من جديد. ولما لم يجد حاكما يفخر به افتخر بنفسه كتعويض عن هوان الأمة، كأنما حول كل الفخر إليه.

لم يكن المتنبي مغاليا في مدح نفسه. كان فقط بارعا في تصوير تمزقات نفسه القلقة. كان يرى أن من حقه أن ينال بشعره أكثر مما كان يطاله هؤلاء الصغار الذين فتتوا الأمة. كان يمدح ببرغماتية ولا يتكسب بشعره. فهو لا يطلب مالا بل هو يريد أن يجازى بالولاية. يعلن ذلك صراحة لكافور الإخشيدي، ويؤجله لحين مع سيف الدولة حيث شكلا معا ثنائية الشاعر الذي يلهب ويلهم والأمير الذي ينتصر ويصنع المجد العسكري ضد بيزنطة.

وأخيرا لقد احتاجت أوروبا قرونا بعد المتنبي لتلد فيلسوفها ميكيافيلي الذي وضع أحكام السياسة الواقعية التي قد كان أحمد أبو الطيب المتنبي باح بها كحكم نفيسة في شعره الغزير. هذا الشعر الذي نظر للقوة والرئاسة ومجدهما رغم أنهما استعصيا على منشدهما في الرقعة العربية الممزقة لكن هذه الرئاسة ستسلمه قيادها في دنيا القصيدة. وذاك بحث آخر سنعود له.

‫تعليقات الزوار

11
  • نعيمة السي أعراب
    الإثنين 30 دجنبر 2019 - 11:11

    والله أثلجت صدورنا وأشفيت غليلنا بمقالك هذا عن المتنبي، فلم يسبق أن قرأت تحليلا له ولشعره أعمق وأصدق من تحليلك. وبالفعل هو كما وصفته وكما وضحت لنا أن "مشروعه القومي… توحيد العرب وبعث مجدهم الأول" و "لما لم يجد حاكما يفخر به افتخر بنفسه كتعويض عن هوان الأمة، كأنما حول كل الفخر إليه."… تحياتي لك أيها الرائع فتحي خالد، فأنا من عشاق المتنبي وزادني عشقا فيه مقالك الصائب

  • متتبع
    الإثنين 30 دجنبر 2019 - 11:51

    ولما لم يجد حاكما يفخر به افتخر بنفسه كتعويض عن هوان الأمة، كأنما حول كل الفخر إليه.

    قل من انتبه مثلك الى نفسية المتنبي هذه..شكرا

  • المهدي
    الإثنين 30 دجنبر 2019 - 12:02

    يبقى المتنبي فلتة زمانه والأزمنة التي تلته .. الشاعر الوحيد الذي يحبب إليك الغرور وإن كان صفة مذمومة فالمنتبي جسده بروعة لا يسعك إلا أن تقف أمامها مشدوهاً مأخوذاً بجمالية الوصف والارتقاء بالذات الى مراتب الخوارق .. من ذَا الذي يستطيع ان يأتي مثل هذا :
    آصارع خيلاً من فوارسها الدهر
    وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبر
    تمرّست في الآفات حتى تركتها
    تقول أمات الموت أم ذعر الذّعر

  • ROUCHDY
    الإثنين 30 دجنبر 2019 - 13:22

    لما تقرأ هذا التحليل يتصور لك أنه من إنتاج أديب أو ناقد ولكنه من طبيب مزج بين الطب والأدب والسياسة وعلم الاجتماع والدين ليصنع من نفسه شخصية متميزة قلما يتوفر عليها مجتمعنا في العصر الحالي فيا للروعة عندما تكون القراءة متعددة الأبعاد أكيد تكون أكثر عمقا وضبطا وجمالا فتحية فتحية لدكتورنا خالد

  • عين طير
    الإثنين 30 دجنبر 2019 - 13:43

    لست معجبا بالمتنبي؛ لأنه لا يثير وجداني. ولا يثيره لأن معظم شعره يدور في فلك السلطة. ولا يثيره، وهذا هو الأهم، لأن كلامه الشعري مجرد من المعنى البعيد، والذي تستدعيه شاعرية الكلمة. فأنا لست شاعرا؛ إلا أن شاعرية الكلمة تمسكني من ناصية وجداني، وتميل بي إلى الشعر الجاهلي، وهو شعر المعنى الضارب في عمق الأوابد، لا يقدر عليها إلا من كان يجد نفسه في الأماكن المقفرة، والموحشة، على غرار امرؤ القيس يغتدي والطير في وكناتها، قيد الأوابد هيكلي، ولا يقدر عليها ناقد في الأدب العربي، وإن كان عميدا مشهورا. ومن ينظر إلى المتنبي من زاوية الناقد الأدبي فقط، فلقد هرف بما لا يعرف، وادعى؛ فالسلطة في ذاك الزمن لم تكن بيد الخليفة العربي من آل البيت، والذي كان المتنبي يناصره، كونه من آل البيت أيضا من جهة جدته، لم تسلم من لسانه بدورها، بل كانت بيد وزراء وقادة الجيش من المسلمين لم يكونوا عربا. وكان لكل وزير أو قائد ديوانا يختلي فيه بشعراء ديوانه، وهوؤلاء هم الذين كانوا يستفزون المتنبي، فيفاخر عليهم بعروبته ونسبه وحسبه. ولقد قال فيهم:

    • سادات كل أناس من نفوسهم .. وسادات المسلمين الأعبد القزم

    آيــــــي..آي!

  • رياحي
    الإثنين 30 دجنبر 2019 - 15:28

    عالم المتنبي عالم سحري ولا تدري أي قصيدة تختار وإن اخترت قصيدة فمؤقتا مثلا
    آصارع خيلاً من فوارسها الدهر
    أو
    كلما أنبت الزمان قناة /
    ركب المرء للقناة سنان
    وقصيدة ولاية الإخونج هي
    لا شيء أقبح من فحل له ذكر ***** تقوده أمة ليست لها رحم
    أغاية الدين أن تحفوا شواربكم ***** يا أمة ضحكت من جهلها
    لا نتجاهل المتنبي الفيلسوف الحكيم
    شكرا للأستاذ المتنور

  • قارئ
    الإثنين 30 دجنبر 2019 - 15:43

    "وجد المتنبي الأمة ضعيفة. والخلافة العباسية مترنحة ممزقة الأوصال تتربص بها المطامع وتنخرها الشعوبية والعجمة…. مجرد أطلال للعزة يتراقص فوقها الترك، فتسامى بشعره عن هذا الواقع الرث القميء. وأعاد تتويج العربية في شعره ليقدح به زناد العروبة من جديد."

    هذا الكلام ومثله يلقيه من يرى فيهم بعض الشباب قدوة في التفكير هو المسؤول على جعل هؤلاء يتشبعون بثقافة احتقار كل من لا ينتسب الى العروبة بصلة؛ ولا يكتفون بذلك، بل يرون في مواطنيهم من غير العرب خطرا عليهم وعلى الاوطان! مع أن هذه لهم قبل غيرهم!

  • Топ
    الإثنين 30 دجنبر 2019 - 17:23

    حول المتنبي أقيمت دراسات عديدة عن شخصيته وشعره اللذين عاشا الصراع النفسي بين الحلم والواقع ومنه أيضاً الصراع الاجتماعي بين الأنا والآخر.وقبل كل هذايظل الصراع الفني الشعري عنده يعيش بين المزدوج الموروث والمبتكر بمثابة النتاج الذي أفرزه التزاوج بين اللغة البدوية واللغة الحضرية وهذا ما يسمى بالتناص.ففي عصرالنهضة العربية الحذيثة تلقف دعاة القومية العربية بعض أشعاره لا تزيد في عددها على عدد أصابع اليد الواحدة حين مدحه لسيف الدولة أمير مدينة فحولوه إلى داعي للعروبة لكن خطة مدحه ظلت فاشلة.ففي زمنه لم تكن العروبة متواجدة ولااللغة العربية إن لم نقل على مستوى النخبة العاشقة للشعر فقط وذلك بوصفه لشعب بوان:ولكن الفتى العربي فيها*غريب الوجه واليد واللسان
    هذا دليل على لونه الداكن بين قوم شقرلسانهم مختلف كذلك فهوعربي بين عجم لا يعرف ما يقولون ولا هم يعرفون له.وهذا ما جعل غريزة الأنا تطفو عنده بالشعوربالعظمة والعلوعلى الأخر فهوكان مصابا بنوع أخر بمرض الفص الصدغي الذي به يصبح الشخص نبيا وعبقريا مجنونا
    أنا في أمّة تداركها الله * غريب كصالح في ثمود
    ما مقامي بأرْض نخلة إلاّ* كمقامِ المسيح بين اليهود

  • محمد الغفاري
    الإثنين 30 دجنبر 2019 - 17:48

    من المستحيل أن تحب شخصا و تنفر من قناعاته و آرائه، إلا مع المتنبي.
    كأنه ساحر يغير معدن الأشياء
    معه يصير للغرور و التكبر و الوصولية معنى آخر. و لو أن وعيك الإرادي ينفر من هذه الصفات فإن عمق لاوعيك يدرك مراد الشاعر و يلمس مقاصده. و بذلك يسيطر كليا على مشاعرك
    إننا مع حالة استثنائية لم نرَ لها شريك في الوزن و لو بعد أكثر من ألف سنة على وفاته.
    ما لم يصله من مجد بادعائه النبوة، وصله بنبوغه في نحت الحِكم
    ما يحز في نفسي هو عندما نشبه نحن العرب السابق بااللاحق فنقول كأنه مكيافيلي أو نيتشه

  • لوسيور الامازيغي
    الإثنين 30 دجنبر 2019 - 20:36

    قال المتنبي

    لا تشتر العبد إلا والعصا معه***ان العبيد لانجاس مناكيد

    المتنبي فيه نخوة اعرابية ويستجدي كافور الاخشيدي القن الا سود فيسميه ابا المسك
    وَبَحرٌ أَبو المِسكِ الخِضَمُّ الَّذي لَهُ***عَلى كُلِّ بَحرٍ زَخرَةٌ وَعُبابُ
    تَجاوَزَ قَدرَ المَدحِ حَتّى كَأَنَّهُ***بِأَحسَنِ ما يُثنى عَلَيهِ يُعابُ
    وعندما يستمهله كافور الاخشيدي في جعله واليا على احدى ولايات مصر يقلب النتنبي له ظهر المجن ..فمن مسك يصبح كافور نجسا وسببا في النكد بل انه يهجو كل السود بدون استثناء ..ومن الطريف ان المتنبي فر لما ايقن ان رسل كافور لا شك عازمون على قتله ..وقد قتل بعدما لحقوا به.
    ومن نافلة القول ان بيت المتنبي سيخلد وهو يؤرخ لعقلية ولمجتمع عربي يحتقر العبيد ويلط حقوقهم ويحط من قدرهم الى درجة البهم

  • السويدان
    الأربعاء 1 يناير 2020 - 01:21

    شكرا على استنساخ حلقة طارق السويدان حول المتنبي في برنامج قصة وفكرة في انتظار مقال قادم حول ميكيافيلي وتقريب القراء من ذلك

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32

احتجاج أرباب محلات لافاج

صوت وصورة
"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 15:07

"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء

صوت وصورة
“أش كاين” تغني للأولمبيين
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:52

“أش كاين” تغني للأولمبيين