التعليم استثمار في المادي واللامادي

التعليم استثمار في المادي واللامادي
الجمعة 3 يناير 2020 - 13:13

عشنا حينا من الدهر على مقولة وكانت حقيقة بالنسبة إلى الكثير آنذاك: «التعليم قطاع غير منتج». الإنتاج المادي المدر للدخل، بل اعتبر من القطاعات المستنزفة للموارد المالية، ومشكلة اقتصادية وتنموية. إلى أن استفقنا على نمور وتنانين بشرية كانت إلى عهد قريب تقبع خلفنا وبجانبنا في سلم التنمية، فإذا بها في مصاف الدول العظمى، والمنافسة لها اقتصاديا وعلميا، وتعيش في أمن اجتماعي افتقد في الكثير من بقاع الأرض. وغدت مدارس ملهمة بيداغوجيا، ونماذج تدرس لمن أراد تحقيق النماء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي. تعاظم الاهتمام بما تنطوي عليه ثقافتها من تراث وتسويقه عالميا، جلبا للاستثمارات الاقتصادية، وتنشيطا للحياة السياحية، بعد دوره التربوي المتمثل في ربط الأجيال المتعاقبة بمكونات هويتها.

التعليم بوابة الرقي الاجتماعي والاقتصادي:

لم يعد الاستثمار في التعليم إنفاقا استهلاكيا، «سيكون خطأ جسيما أن نشبه الإنفاق على التعليم بالاستهلاك الجاري أي الإنفاق الاجتماعي» (شولتز). ذلك أن تكلفة الاستثمار في التعليم يمكن حسابها كما، لكنه استثمار منتج، لما يحقق من عائد اقتصادي واجتماعي. حيث التعليم المكون الرئيسي للرأسمال البشري المعول عليه، والعماد الذي تنهض عليه وبه المشاريع الاقتصادية. فالعائد الاقتصادي للاستثمارات المدرسية في فرنسا بلغ 11%، كما أن 38% من الاختلاف في الأجور أمكن إرجاعها إلى هذه الاستثمارات.

ليس فقط على مستوى تكوين المهارات والكفاءات، بل لإحداث التغيير الإيجابي في السلوكيات، التي انحرفت كثيرا عن المحمود من الأخلاق، والمستحب من القيم. بتثمين العمل المنتج، وكنس ما ترسب في العقل والوجدان من قيم التواكل والتكاسل، وتحرير قيم التكافل والتضامن ما علق بها من آداب، روجت متونه لكثير من أمجاد ثراء طرق باب الفرد وهو متكئ داخل كوخه على حين غرة، وآخر ربط قلب القريب إلى ما في يد قريبه، بدعوى التراحم والتماسك الاجتماعي، مستسلما لحياة الدعة والاسترخاء، بلا جهد يبذل للانعتاق من جحيم البؤس وبراثن التخلف بكل معانيه، الاقتصادية والاجتماعية. بتوظيف الطاقات وتطوير الإمكانيات وتكثير الخيارات، وهو ما تسعى إليه برامج التنمية البشرية، حين لم يؤدي التعليم والتكوين أدوارهما في تحسين المستوى المعيشي، والعفاف الأخلاقي. فالتقدم الاقتصادي والأمن الاجتماعي، هما ثمرة من ثمرات الفضول العقلي الميال إلى الإبداع والابتكار، المسدد بقيم الاجتهاد، والسير في مناكب الأرض المذللة لكل من يدب عليها، وعلى امتداد جغرافية الوطن المحتضنة للمواطن مهما كان انتماؤه الثقافي.

الإغناء الثقافي سبيل للغنى الاقتصادي والأمن الاجتماعي:

إن تغيير السلوكيات رهين بتطور النظام الاجتماعي، الذي يتحقق بتفاعل التعليم والثقافة والتربية. فالمتغيرات الفكرية والاجتماعية لا يمكن الفصل بينها. إذ أن الجانب الروحي والفكري يبرز بشكل جلي في علاقات الأفراد وتماسك المجتمع، باحترام القيم المشتركة والقانون. فقد أصبحت التنمية في مدلولها الأممي، مرتبطة أكثر بالعناصر غير المادية، خاصة في الدول النامية، فالحد من الهدر المدرسي وترسيخ قيم المواطنة وإكساب الفكر النقدي، كلها عوامل تساهم في خفض معدلات الجريمة وتأسيس حياة منظمة خالية من الجهل والشعوذة. «إن إحدى أكثر الواجبات قداسة للوالدين بعد إحضار كائن بشري إلى هذا العالم، هو منح هذا الكائن قدرا من التعليم يمكنه من القيام بدوره في الحياة على أكمل وجه تجاه الآخرين وتجاه نفسه» (ستيوارت ميل). فكل ما يقوله ويخطط له ويفعله الشخص، هوما يمنح الذات تقدير الآخر، ما دام ضمن النسق الاجتماعي، ويحمل سمات الهوية الثقافية، التي تتوارثها الأجيال، والتي هي «طريقة كاملة للحياة» (رايموند وليامز). ولا يعني هذا الكلام بأي حال من الأحوال التجمد في قوالب الماضي ومنتجاته الثقافية التي هي كسائر المنتجات الصناعية الأخرى، يطالها التجديد والابتكار. فالقدرة على الخلق والابتكار هو ما يجعل الثقافة تتواصل عبر الزمن، كما يشجع على إنتاج الأفكار، ويسمح لمن يسمون «المستثمرون الجدد»، بالإبداع وإظهار مهاراتهم، وتوظيف خيالهم في إغناء التراث الجمالي منه والأنثروبولوجي، وكذا ميراث العلوم التي أنتجها الرواد. «في هذا السياق الديناميكي فقط، يمكن أن يكون للتراث والتقاليد أهمية حقيقية» (شاليني فنتوريللي). إن المنتج الثقافي قد يصبح مطلوبا للاستهلاك، شأنه في ذلك شأن كل المنتجات الاستهلاكية الأخرى، إذا واكبه العرض المستوفي لعناصر التسويق العصري المبني على الأسس العلوم الاقتصادية النفسية، التي أصبحت موضوع تدريس وتخصصات. ويتفوق المنتوج الثقافي على غيره من المنتوجات، بكونه يستخدم أكثر من مرة من طرف أكثر من شخص، مما يزيده قيمة، ويزداد الإقبال على استهلاكه. فالتقاليد الشعبية، والتعابير الشفهية والمعارف والصناعة التقليدية، وما يرتبط بها من أماكن وقطع ومتاحف، «ثروة مكتسبة خاضعة لشروط تاريخية واقتصادية وسياسية، بل هي الدعامة الأساسية لرأسمال المجتمع المادي واللامادي».

الإبداع عامل إحياء ثقافي:

إن الإبداع يجب تنميته في كل الناس، مادام يمثل خاصية من خاصيات الإنسان، فالتعلم والخلق وحب الارتماء في أحضان عوالم غير مطروقة، ليس حكرا على فئة من الناس (العلماء والفنانون) دون غيرهم. فالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي نعيشها، ويتربى فيها أطفالنا، ليست مؤبدة بالضرورة، إذا تغيرت أولويات التعليم، وتغيير النظرة إلى الثروة على أنها ليست مادية فقط، فالرصيد الثقافي والتاريخي والاجتماعي والمؤسساتي والبيئي، عناصر ثروة لرفاهية اقتصادية، واستقرار اجتماعي، وعامل بقاء الكيان مستقل بين الأمم. فلأهمية هذه الأدوار وحيويتها، التي أصبحت تلعبها الثقافة، أصبح الحديث عن مفهوم الصناعة الثقافية الذي صاغه كل من «تيودور أدورنو» و «ماكس هور كهايمر»، وأضاف آخرون الصناعة الإبداعية، حديث المهتمين بالبيداغوجيا، ومحاور تطرح للدراسة والبحث في المنتديات التربوية. لأن «المهم ليس الميراث الثقافي، وإنما القدرة على إبداع وابتكار أشكال جديدة من الثقافة».

‫تعليقات الزوار

1
  • WARZAZAT
    الجمعة 3 يناير 2020 - 16:41

    التعليم في المغرب أداة للتكليخ و تكريس التخلف و الهمجية.

    بغض النظر عن السيبة و الفساد والاستلاب الذي ينخر التعليم فتنظيمه أتى عليه الزمن، لم يتغير منذ تعميمه في أروبا القرن 18 عندما كانت تسرح المدارس كل صيف لشن الحروب و المساعدة في موسم الحصاد. مع عصر الأنترنت انقرضت الكتب و الطباشير…إن لم تنقرض معهم الأقسام و الأساتذة كذلك!!

    لماذا لا ينظم التعليم المتوسط والعالي في فترات يتداول فيها التلاميذ الدراسة و العمل!؟: أشهر دراسة في المدرسة تتبعها 3 أشهر عمل/تكوين /خدمة إجتماعية في معمل، ضيعة أو مستشفى. و تكون فترات التكوين براتب أو منحة شهرية و مزدوجة بالدراسة و المتابعة عبر الأنترنت. هكذا دواليك و بالتناوب المنسق طوال السنة بعطلة من اسبوعين بين الفصول…ديك الساعة قرا وخدم تا تموت…لا رزبة على صلاح.

    هذا ما صار إليه التعليم و التكوين في الدول المتحضرة حيث ترى معاهد تختلط فيها الأنشطة المختلفة و تكون مفتوحة أمام الجميع 24\7….و لكن المغرب له موهبة خارقة في تشويه كل ما هو نافع و جميل و تسخيره لتخريب البلاد و مسخ العباد.

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 3

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 5

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال