في المحددات الاجتماعية للصحة

في المحددات الاجتماعية للصحة
الجمعة 3 يناير 2020 - 20:10

إذا كانت الصحة، حسب التعريف المعتمد بدستور المنظمة العالمية للصحة، “حالة كاملة من السلامة الجسمية والعقلية والاجتماعية، لا مجرد الخلو من الضعف والمرض”، فإن تأثير المحددات الاجتماعية للصحة على وضعيتَي الصحة والمرض أكدته كافة الدراسات العلمية والأكاديمية.

يعرّف الفيلسوف الكندي دانييل وينسطوك (Daniel Weinstock) المحددات الاجتماعية للصحة بوصفها أبعادا للوجود الاجتماعي للأشخاص لها تأثير على حياتهم وعلى الفوارق الاجتماعية المتعلقة بالصحة بينهم، وتتميز بإمكانية تعديلها بالسياسات العمومية. ومن أهم المحددات الاجتماعية للصحة، نذكر: التعليم، السكن، النقل، توزيع الدخل إلى غيرها من مناحي البيئة الاجتماعية التي تؤثر على المجموعات الاجتماعية الهشة، خاصة في ميدان الصحة.

لا يمكننا الحديث عن المحددات الاجتماعية للصحة دون التطرق إلى إشكالية العدالة الاجتماعية؛ فالمحددات الاجتماعية للصحة ترتبط ارتباطا وثيقا بمسألتي العدالة الاجتماعية والعدالة الصحية وتطرح هذه العلاقة تساؤلات نظرية ومنهجية عديدة لن نتناولها في هذا المقال.

تطرق نورمان دانييل (Norman Daniel)، أحد طلاب الفيلسوف الأمريكي جون راولس John Rawls)) صاحب نظرية العدالة المعروف، لهذه العلاقة في مؤلفه حول “الصحة العادلة” just health) وشكل هذا المؤلف تراجعا عن إصداره السابق في الثمانينيات “الرعاية الصحية العادلة” (just health care) لأنه تأثر بتطور البحث العلمي حول المحددات الاجتماعية للصحة، ملخصا ذلك في مقولته: “علينا أن نؤثر على المحددات الاجتماعية في أفق تحقيق العدالة الاجتماعية للحد من الفوارق الاجتماعية للصحة”.

لماذا الحديث عن المحددات الاجتماعية للصحة؟

إن حجم الاستثمار في ميدان المحددات الاجتماعية للصحة هو أقل بكثير من الاستثمار في التقنيات الطبية الحديثة واقتناء المعدات البيوطبية المتطورة وصرف مبالغ طائلة على الرعاية الطبية. كما أن نجاح أي منظومة صحية رهين بمستويين اثنين؛ مقدار الوعي المجتمعي بقضايا الصحة والوقاية من الأمراض، وكذلك حكامة جيدة للموارد البشرية والمادية المرصودة لهذا القطاع.

ولن يتحقق ذلك ما لم يتم الاشتغال على المحددات الاجتماعية للصحة. وإذا لم يتم دمج البعد الصحي في السياسات العمومية الأخرى غير السياسة الصحية، عبر نهج مقاربة أفقية شمولية تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية والثقافية والبيئية.

ولأنه مهما قامت الدول بتحسين أنظمتها الصحية فلا يمكن أن تحقق الغايات المرجوة منها والفعالية المنشودة إذا قامت بتجاهل العوامل والمحددات الاجتماعية للصحة. في حين تتمتع الدول التي اختارت العمل على المحددات الاجتماعية للصحة بمراتب الصدارة عالميا، وتحتل مراكز جد متقدمة في ميدان الرعاية الصحية وفي تصنيف مؤشرات التنمية الاجتماعية الدولية.

كما أن وعي المنتظم الدولي بأهمية العمل على المحددات الاجتماعية للصحة جاء متأخرا نوعا ما. ونلمس هذا الوعي في التطرق لهذه المحددات ببعض المحطات القليلة الأساسية: جاكارطا (إندونيسيا)، أديلايد (أستراليا)، ريودي جانيرو (البرازيل) التي صدرت عنها بيانات توجيهية للسياسات الوطنية، اختلفت الدول بشأن احترام مقتضياتها.

كما أن هذا الوعي تكرس عمليا بإجراء مؤسساتي بالمنظمة العالمية للصحة وهو إحداث لجنة المحددات الاجتماعية للصحة التي يرأسها الباحث البريطاني مايكل مارموت (Michael Marmot) الذي يُعد هو وزملاؤه من أول الباحثين الذين انكبوا على دراسة المحددات الاجتماعية للصحة وتأثيرها على صحة وسلامة الأفراد.

تعتبر الأبحاث الأكاديمية المتعلقة بالمحددات الاجتماعية للصحة وعلاقتها بصحة الأفراد على قِلتها حديثة نسبيا. وتُعد الـwhitehall study )الدراسة التي سميت على اسم منطقة وايت هول بلندن)، والتي قادها في الأصل الباحث مايكل مارموت، من أول وأهم الدراسات التي تطرقت لمسألة المحددات الاجتماعية للصحة وتحديدا معدلات انتشار أمراض القلب والأوعية الدموية ومعدلات الوفيات بين موظفي الخدمة المدنية البريطانيين من 1967-1977 كمرحلة أولى وبين 1985 إلى 1988 في مرحلة ثانية.

لقد خلصت هاتان الدراستان إلى وجود ارتباط قوي بين المستويات الوظيفية لموظف الخدمة المدنية ومعدلات الوفيات، من بين مجموعة من الأسباب؛ فكلما انخفض المستوى الوظيفي، ارتفع معدل الوفيات. وكلما كان الرجال في أدنى درجة (رجال الخدمة، البوابين، وما إلى ذلك) كلما كان معدل الوفيات أعلى ثلاث مرات من الرجال في أعلى درجة (الإداريين…).

أهم المحطات الدولية:

في سنة 1997 ركز إعلان جاكارطا على أن المحددات الاجتماعية للصحة التي تعتبر شروطا أساسية لتحقيق الصحة، وساق الاعلان أمثلة عن هذه المحددات: مثل السلام والسكن والتعليم والضمان الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية والغذاء والدخل وتمكين المرأة ونظام بيئي مستقر والاستخدام المستدام للموارد والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان والعدالة. الفقر والاتجاهات الديمغرافية مثل التحضر، وزيادة عدد كبار السن وانتشار الأمراض المزمنة، والخمول البدني، ومقاومة المضادات الحيوية …

سنة 2010 أكد بيان أديلايد على ضرورة دمج الصحة في جميع السياسات.

سنة 2011 انعقاد المؤتمر العالمي حول المحددات الاجتماعية للصحة بريو دي جانيرو، حيث تم اعتماد إعلان ريو السياسي بشأن المحددات الاجتماعية للصحة.

وقد شكل هذا المؤتمر طفرة نوعية في ترسيخ المقتضيات التي تنص على ضرورة تأكيد الدول على المحددات الاجتماعية للصحة ودمجها في مختلف سياساتها.

ولأول مرة يقدم المؤتمر تقريرا عن الخطوات العملية التي قامت بها المنظمة العالمية للصحة بشراكة مع منظمات دولية أخرى تابعة للأمم المتحدة في سبيل دمج البعد الصحي بكافة السياسات.

كما أكد التقرير ذاته على:

تعزيز القدرات داخل المنظمة لإعطاء الأولوية للعمل بشأن المحددات الاجتماعية للصحة.

تقديم الدعم للدول الأعضاء في تنفيذ نهج الصحة في جميع السياسات.

المحددات الاجتماعية للصحة بالمغرب

إن مسألة المحددات الاجتماعية للصحة بالمغرب أصبحت تطرح بشدة أكثر من أي وقت مضى خاصة مع تنامي الطلب على العلاج وظهور إشكالات صحية معقدة ومتعددة الأبعاد، تقترن بالهشاشة والفقر وانتشار الأمية وظروف السكن ومحدودية الوصول إلى العلاج وذلك رغم الجهود المبذولة في ميدان تعميم التغطية الصحية الشاملة.

وإذا كانت المناظرة الوطنية الأولى للصحة المنعقدة سنة 1959 قد حاولت وضع اللبنات الأساسية للمنظومة الصحية الوطنية وفق متطلبات وأولويات المرحلة، فإن الأوراش المفتوحة من أجل تطويرها، على أهميتها، لم تتمكن من مسايرة الحاجيات المتزايدة على قطاع الصحة؛ غير أن التنصيص الدستوري -الفصل 31 من دستور 2011- على الحق في العلاج ووضع مسؤولية ضمانه على عاتق الدولة والجماعات الترابية شكل معطى جديدا فرض على الدولة ترجمته على أرض الواقع عبر اتخاذ إجراءات عملية بإشراك كافة العاملين بقطاع الصحة.

في هذا الصدد، شكل انعقاد المناظرة الوطنية الثانية حول الصحة سنة 2013 منعطفا مُهما في التعاطي مع المسألة الصحية بالمغرب، ولأول مرة يتم التأكيد على ضرورة الاشتغال على المحددات الاجتماعية للصحة من أجل إصلاح قطاع الصحة واعتماد إستراتيجيات فعالة في إطار تشاركي.

كما أن ورش الجهوية، الذي أصبح واقعا بعد إصدار القوانين التنظيمية المتعلقة بالجهات، من شأنه أن يشكل إطارا مؤسساتيا مناسبا لإدماج البعد الصحي في كافة السياسات الاجتماعية ويضمن الاشتغال على المحددات الاجتماعية للصحة في إطار برامج جهوية محددة هادفة – كالمخطط الجهوي للتنمية – وموجهة لحل إشكالات اجتماعية مرتبطة بالمسألة الصحية.

‫تعليقات الزوار

7
  • MED Chafik
    الجمعة 3 يناير 2020 - 21:04

    Excellent article.
    La question que je me pause est comment certains pays défavorisés arrivent a bâtir un système de santé solide et viable…par exemple Cuba ou le vietnam ?

  • Khadija
    الجمعة 3 يناير 2020 - 22:03

    المعروف ان الوقاية احسن من العلاج و ايضا هناك البعد النفسي و الروحي, الذي يؤدي الى اخذ اكبر قدر من الادوية و الاحساس بانك تحتاج الى طبيب في اي الم بسيط تتعرض له و هناك ايضا اسلوب العيش و الوعي بالنظافة و الوقاية باساليب بسيطة جدا. مثلا انا شخصيا لا ازور الطبيب الا قليلا جدا و لا احب كثرة الادوية. مثال بسيط و هو ان الناس لا ياكلون و يشربون و ينامون بوعي و تنظيم و لا يتمون بالنظافة و البيئة و الرياضة و التهوية و غسل و تشميس الانسجة بشكل منظم… و يستغربون انهم يمرضون بكثرة و يتوهمون ان تناول الادوية مباشرة من عند الصيدلي هو شيء جد مهم. بالاضافة الى انتشار الشعوذة و الاوساخ المرتبطة بها, و هذا شيء خطير جدا.

  • Khadija
    الجمعة 3 يناير 2020 - 22:23

    الاحساس انك محتاج لتناول دواء ما, منتشر في العالم كله, لدرجة ان الصيادلة و الاطباء اخترعوا ادوية وهمية لهذا لنوع من المرضى المتوهمون. فيسال الطبيب المريض هل الدواء لذي اعطيتك كان له مفعول جيد, لان هذا الدواء "دقة ببطلة" بالنسبة للمرض الذي تعاني منه, فيجيب المريض فعلا ان ذلك الدواء لوهمي كان له اثرا جد ايجابي و نام مرتاحا و و و

    و هناك ابحاث كثيرة في هذا الموضوع, مثلا زيارة الطبيب وحدها يكون لها مفعول ايجابي, لان "المريض" يحس بان هناك من يهتم به و فحصه مختص و و او تم احضار الطبيب للبيت من اجله…

    هذا مثلا تلاحظه الامهات, بان الاهتمام بالطفل بحنان, يكون له مفعول جد ايجابي, عندما يشعر الطفل بالالم, اما اذا اهملته, فهو يمرض اكثر و تتدهور حالته. اما اذا كنت تعيش مثلا مع زوجة تعطيك سما معينا بسبب لجوءها الى الشعوذة, مثلا "مخ الضبع" او شيء هذا القبيل او الخيانة الزوجية مثلا, فانت لن تحس بالامان الصحي ابدا.

  • Nawal mouhoute
    الجمعة 3 يناير 2020 - 23:03

    Merci mr chafik pour votre commentaire. La reponse est implicite dans mon article .Cuba est considéré parmi les rares pays au monde dont le système de santé est intimement lié à la recherche et le développement . Et en plus la relation entre niveau du développement général et développement du système de santé n'est pas toujours proportionnelle

  • جمال بن محمد
    السبت 4 يناير 2020 - 17:14

    شكرا للاستاذة نوال على المقال القيم واتساءل بدوري ان كانت تجربتك الميدانية بالمستشفى الجامعي تؤكد ما هو متداول من اقكار في مجال السياسة الصحية ام انه شتان بين الواقع والنظريات.

  • لمياء
    الأحد 5 يناير 2020 - 17:10

    مقال اكثر من رائع يلخص تجربتك الغنية في الميدان الصحي والسوسيولوجيا.وحقيقة قلة من اشتغلو (او بالاحرى اثقنو )البحث في سوسيولوجيا الصحة وخاصة انك ابنة الميدان واهل مكة ادرى بشعابها…بالتوفيق دكتورة نوال.

  • zguiouar
    الإثنين 6 يناير 2020 - 06:54

    ان المحددات الاجتماعية هي فقط عوامل قبلية للمرض وعندما يستقر المرض او العجز يصبح نظام العلاج فقط محدد بعدي.prepathologique.

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 3

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 1

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 2

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز