الأَنسية في سياق اجتياح ثقافة الميديا الشعبية

الأَنسية في سياق اجتياح ثقافة الميديا الشعبية
الأربعاء 8 يناير 2020 - 22:49

راهنية الميديا الشعبية

الميديا الشعبية أو التواصل الاجتماعي Social Media؛ وبفعل ارتفاع مبيعات وسائطها الذكية إلى مستويات قياسية؛ أصبحت بالكاد المهيمنة على كل وسائل الاتصال والتواصل بين شرائح كبيرة من أفراد المجتمعات؛ زاد من رقعة اجتياحها للوسائل التقليدية الأخرى، كالمنشورات الورقية خاصة، تركيزها على قوة الإغراء والإثارة؛ عبر صورها وسهولة اقتحامها لكل ما كان عزيز المنال أو محظورا بالمرة.. علاوة على تدفق معطياتها Data الضخمة بسرعة خارقة؛ تفوق أحيانا المليارات من المعلومات في زمن الثانية الواحدة أو جزء منها…

بيد أن هذه المعطيات؛ على وفرتها؛ تختلف لغتها ومضامينها من شعب إلى آخر؛ فالشعوب المتخلفة أو بالأحرى التي ما زالت ترزح تحت نير الأمية الأبجدية ولها قدم راسخة في الجهالة، وتأتمر بالخرافة، عادة ما تنضح بها خطاباتها والمضامين التي تروج لها؛ عبر هذه الوسائل؛ وهي لا تخرج عن ثقافة شعبوية تستمد مادتها؛ في الغالب الأعم؛ من الشارع والشائعة وأحاديث المقاهي، وزج أوقات الفراغ.

الأنسية في سياق ثقافة الميديا الشعبية

الأنسية؛ Humanizm في مفهومها السوسيولوجي العام؛ تعني “تصوير أو منح خصوصيات وصفات بشرية قابلة لتجعل من حاملها إنسانا متحضرا وقابلا للتعايش ضمن مدينة”، أو بشكل عام هي “نزعة فلسفية أخلاقية، تركز على قيمة الإنسان وكفاءته، وتنتهج التفكير العقلاني والمنهج التجريبي، وهي؛ في الأخير؛ مذهب يهدف إلى خير الإنسان..” ويتميز هذا المفهوم بأضداده “كالوحشية” والروبوتيكية Robotised والبربرية أو العفوية القريبة من الفعل الغريزي Automatism.

وللأنسية خصوصيات؛ تستمدها من مرجعيات، توافق عليها المجتمع، تتضمن قيما وقواعد وضوابط وقوانين للتساكن والتجاور والبناء والتنمية البشرية.. وكلما كانت هذه المرجعيات راسخة في مجتمع ما، كلما أمكن للعناصر الحضارية والعمرانية أن تزدهر وتنفتح على ثقافة الآخرين، وكلما انحطت وسفلت عناصر الأنسية منه أو انعدمت بالكاد، كلما تحول مجتمعها إلى البربرية والهمجية، وصعب آنئذ وجود روابط التواصل مع عناصره، إذا لم تتشرب ثقافتها الاستهلاكية المهيمنة.

هبوط مستوى الأنسية وصعود مستوى الأنانية

في مجتمع مغربي ـ مثلا ـ والذي تشهد الإحصائيات الدولية والأبحاث الميدانية أنه مصنف ضمن الشعوب التي لم تنعتق بعد من نير الأمية الأبجدية، أو التي لا تقرأ سوى 6 دق/سنويا، مع انحسار أدوار المؤسسات المربية ( الأسرة؛ المدرسة؛ المجتمع؛ الميديا..)؛ أصبح في الآونة الأخيرة مجتمعا استهلاكيا بالدرجة الأولى وأكثر طموحا ـ مهما كانت العقبات ـ، ينساق مع الإشاعة ويرتكز في مواقفه على “العادة”، أو بالأحرى على ما هو شائع ودارج، لا يهاب صرامة القانون وضوابطه، بل يسعى جاهدا للتحايل عليه والمرور من ثغراته أو في حلات كثيرة يحرص على مساومته والاستهتار بالقيم الإنسانية. في ما يلي جرد لأهم المواقف التي تجلد فيها الأنسية ويغيب لها أثرها:

ــ السياقة داخل المدن، وفي نقط تقاطع الممرات، أصبح من العسير العبور بسلامة؛

ــ تنفجر الأنانية، وبصور بشعة أمام مواقف وقضايا تافهة؛

ــ التحلي بالصبر والاصطبار أصبحت عملة نادرة بين معظم أفراد المجتمع من الجيل الحالي؛

ــ التحري والتحقيق والبحث والتروي.. كلها مزايا نكاد نفقدها عند معظم أجيال التسعينيات ومواليد العشرية الأخيرة من القرن

الماضي؛

ــ خصوصيات هذه الأَنسية المنحطة، تلقي بظلالها على الخدمات العامة، في قطاعات حيوية عديدة.

ــ هناك هامش للرفع من منسوب هذه الأنسية المنحطة واستصلاحها، فقط في حالة احتكاك هذا المواطن بثقافات بلدان غربية، فاندماجه حينها يحتم عليه التوافق والانسجام والالتزام بالقواعد الحضارية العامة السائدة.

‫تعليقات الزوار

8
  • سلامي
    الخميس 9 يناير 2020 - 09:05

    إنسان اليوم يختلف كثيراً عن إنسان الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي لكن المشكل الأعظم الذي أخذ من إنسيته هو هذه الوسائل للتواصل الاجتماعي، قزمت دور الثقافة وحولت الإنسان إلى حيوان استهلاكي قريب من الغريزي… ولنا عودة

  • kabilla
    الخميس 9 يناير 2020 - 18:09

    موضوع مهم، يشير بالواضح إلى أن الانسان المغربي بدأ يفقد أنسيته بفعل وسائل التواصل الاجتماعي التي تتغذى على الثقافة الضحلة والشائعات..

  • KITAB
    الخميس 9 يناير 2020 - 21:00

    يبدو أن هناك علاقة قوية بين مستوى الإنسان المعرفي وتعاطيه لوسائل التواصل الاجتماعي، فكلما كان هذا الإنسان أعلى امية كلما تحولت به هذه الوسائل إلى الحضيض، وهو ما أصبحنا نراه بين أظهرنا في المقاهي والسيارات والأماكن العمومية، وداخل المنازل الناس باتوا منشغلين بتبادل مواد هذه الوسائل، وهي تعكس في نهاية المطاف ما عليه الشعب والاتجاهات التي ينساق لها، والأخطر في الأمر أنها تحجب عن الإنسان حقائق الأشياء المبنية على المنطق والعقلانية، فيها مواد تستمد مرجعيتها من الدجل والخرافة أحياناً. وتحياتي

  • سلامي ..
    الجمعة 10 يناير 2020 - 09:36

    وسائل التواصل الاجتماعي، يمكن القول بموضوعية أنها روجت لثقافة ببغائية ساقطة موادها مستمدة من الشائعات وأحاديث المقاهي والأسواق، لا تستشف منها المعقول والمنطقي إلا بنسب ضئيلة جداً

  • صوت الريف
    الجمعة 10 يناير 2020 - 12:27

    جمعة طيبة مقال في الصميم أستاذي مجدوب الأومة المعرفية والأخلاقية تنهش ما تبقى من القيم الإنسية، ولا تفضي الى الأنانية فقط بل أصبحنا نعيش المرحلة الهمجية.
    وأتفق مع السيد KITAB مع انتشار الأمية تصبح وسائل الاتصال الرقمي قنبلة موقوتة لصناعة التفاهة وتزييف الوعي واستفحال الدجل والجريمة.
    وتحياتي

  • نورالدين برحيلة
    السبت 11 يناير 2020 - 11:07

    السلام عليكم، أستاذي الغالي عبد اللطيف، كما عهدتك كاتبا متألقا غيورا، تناقش بموضوعية وهدوء، القضايا المصيرية، وأهمها مسألة القيم.
    نعيش اليوم عصرناالذهبي في الرداءة، الرداءة الشاملة، أصبحنا نعيش لنأكل، أصبحت البيتزا أغلى من دواوين المتنبي، نأكل أرحامنا، نأكل أصدقاءنا، نأكل في الجنس أزواجنا، نأكل مقابل المال قيمنا، نأكل مقابل السلطة شعوبنا.. تحولنا إلى أجهزة هضمية تأكل كل شئ، وعندما ينتهي كل شئ سنلتهم أنفسنا.. لقد انتصر القبح على الجمال، وانتصر الحيوان فينا على القيم الإنسية.
    أدعو لك دائما بالصحة والسعادة.

  • إ.برحيلة
    السبت 11 يناير 2020 - 15:24

    أخي الكريم السيد نور الدين برحيلة، تحية خاصة، كنت وما زلت أقتفي مواضيعك النيرة ، وأكاد أجزم أنك أصبحت لك حاسة خاصة تجاه الفساد في البلاد فجندت كل طاقاتك الأدبية لمواجهة هذا الفيروس والذي يتمظهر في صور شتى، زاد من تفاقمه وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت تروج لكل رداءة وغث، وتنشر سمومها تباعاً ليتلقفها الأمي والمتعلم على حد سواء، حتى أننا صرنا في الآونة الأخيرة لا نميز الأمي من المتعلم، والأدهى أن الأمي أصبح له كرسي الإفتاء والمشورة في كل شيء، ولا شيء، وأنا على العهد من دعوتني لنضع يدا في يد لمواجهة هذا الطاغوت، مع تقديري; ع. م

  • نادية المريني
    السبت 11 يناير 2020 - 17:05

    المقال يليق محاضرة امام نزيف القيم الانسية, اشكرالكاتب مجدوب و اشكر اخي و صديقي نورالدين الذي تصحني بمتابعة مقالاتك المفيدة,

    فعلا ما قيمة القيم الروحية في مجتمع تهيمن فيه التفاهة,
    و ما قيمة الفكر الملتزم حين يصبح التافهون يمارسون الدعارة الاكاديمية

صوت وصورة
اعتصام ممرضين في سلا
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 19:08

اعتصام ممرضين في سلا

صوت وصورة
وزير الفلاحة وعيد الأضحى
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 17:34

وزير الفلاحة وعيد الأضحى

صوت وصورة
تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:12

تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين

صوت وصورة
احتجاج بوزارة التشغيل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:02

احتجاج بوزارة التشغيل

صوت وصورة
تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 15:15

تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات