مشروع مجتمعي فكري

مشروع مجتمعي فكري
الثلاثاء 14 يناير 2020 - 23:41

في البداية أود أن أوضح للقارئ أن الدافع الذي جعلني أقدم هذه القراءة لكتاب الأستاذ الأكاديمي سعيد البوزيدي بجامعة إبن طفيل بالقنيطرة، المعنون “الأيكيدو، الممارسة الرياضية والتنمية الذاتية”، يتجلى في أهمية حمولته الفكرية في سياق التيه الذي يميز أوضاع الدول الغربية زمن ما بعد الحداثة. لقد عكس هذا الكتاب نموذج بناء مجتمع متميز كونيا، المجتمع الياباني، بالاستعانة القوية بمدارس الأيكيدو، بعد إخراجها من المعابد، وتحويلها إلى مؤسسات تربوية بكل المقاييس.

إن توقيت إصدار هذا الكتاب مهم للغاية، لكونه يصادف مرحلة بحث القوى العالمية على نموذج تنموي حضاري جديد بعدما تم إعلان احتضار الحداثة، التي تغذت لمدة تفوق أربع قرون على جثة تقليدانية القرون الوسطى. فعلا، ففي ظرف خمسين سنة الأخيرة تضاعف سكان العالم ليمر من مليارين إلى سبعة ملايير نسمة، بحيث حققت الحضارة الغربية خلالها ثورة صناعية وتكنولوجية وعلمية وتجارية ومالية مبهرة، لتصل إلى مرحلة الإشباع، الإشباع الذي دفع مصادر القرار غربيا إلى تجاوز المبادئ الأساسية التي بنيت عليها الإيديولوجية النيوليبرالية. لقد تدخلت مجموعة من الدول في اقتصادياتها واقتصاديات دول أخرى، متجاوزة بذلك مبدأ حرية السوق، وشعار “دعه يعمل دعه يسير”. كما تميز هذا الإشباع بتفكك الدولة القومية، واختراق سيادتها، وبروز الدولة القبلية والعشائرية، جراء التشكل السريع للطوائف، والمجموعات غير الرسمية في كل المجتمعات، وطغيان الفردانية وميول الأفراد والجماعات إلى الصوت والصورة والنفور من القراءة والكتاب.

لقد جاء هذا المنتوج العلمي معبرا عن نموذج تنموي متميز عن كل ما آلت إليه تداعيات تقابل وتفاعل المنطقين السياسيين اللذين تطورا على أساس التباين بين منطقي الإمبراطوريتين البزنطية والرومانية. إنه نموذج سلكت من خلاله دولة اليابان أسلوبا سلميا لمواجهة الاستعمار الأمريكي. لقد جرب هذا الشعب العنف من خلال تنظيم العمليات الانتحارية والفدائية، ليكتوي بنكبة الهجومات النووية، لينغمس بوعي شديد في تفكير عميق، توج بإقرار السلم كنهج، والتربية عبر رياضة الأيكيدو كوسيلة، لتنظم دولة اليابان، عن جدارة واستحقاق، إلى مصاف الدول الأسيوية، وعلى رأسها الصين، التي جعلت من فنون القتال فضاءات تربوية بامتياز، ومقوم أساسي لتقوية اللحمة الوطنية. لقد تحولت رياضة الأيكيدو في هذا البلد إلى مدرسة وطنية للتربية والتكوين المجتمعي، وفضاء لتعلم ثقافة الانفتاح عن الآخر (المستعمر أولا، والدول الغربية بعد الاستقلال ثانيا، وعلى رأسها فرنسا، وجعل المغرب بوابة للمرور إلى إفريقيا ثالثا)، مكنها من الحصول على استقلالها بدون عنف في ظرف ست سنوات فقط.

وأمام هذا النجاح الواضح لهذه التجربة الحضارية، يبقى من الأهم الإشارة بإيجاز للعوائق، التي تكاد تتحول إلى عاهة مجتمعية مزمنة، التي نتجت عن الأسلوب الذي انتهجته الدول العربية والمغاربية في حصولها على الاستقلال. لقد كان هذا الأسلوب مؤسسا على منطق العنف، والمواجهة المسلحة، والرفض القطعي للآخر، المصحوب بتهييج الشعور العقائدي الرافض للإهانة والتحكم الممارس من طرف الدول ذات الديانات المختلفة. هذا المنطق لم يكن مساعدا لبناء الدول الوطنية بعد الاستقلال، لكونه كان يحمل بين طياته نزعات ترسيخ ثقافة المعارضة القوية. لقد أضاعت هذه الشعوب عدة عقود وهي تعارض وتقاتل، في سياقات خلافية ونزاعية داخليا وخارجيا، وفارغة من أي انشغال بتربية وتكوين الأجيال للمستقبل. إن هذا الهدر الزمني غلب أسلوب القول على الفعل في الثقافات المجتمعية، وحول نزعة المعارضة إلى ثقافة سائدة، ليشتد الصراع الداخلي العنيف في كل الدول تقريبا، صراع من أجل الوصول السلطة، تخللته عمليات تصفيات متعددة، استنزفت الكيانات المجتمعية من قواها الحية.

فإذا كان المفكر الهرم عبد الله العروي يعد من رموز المفكرين الذين قرروا الغوص في فهم وتحليل وانتقاد الحضارة الغربية بتاريخها الزاخر بالأحداث (انسلخ عن التقليد متجاوزا تحذيرات بعض رواد المقاومة باللاعودة، وعلى رأسهم علال الفاسي راعي الحركة الإسلامية مغربيا)، وتمكن من العودة إلى قضايا بلاده، ومحيطها الإقليمي، برصيد فكري ثمين، وبنظرة دقيقة وثاقبة في معالجة الإشكالات المرتبطة ببناء المشروع المجتمعي الحداثي (العروي نموذج ناجح لشاب مثقف انسلخ عن التقليد، وغاص بكل ما لديه من قوة في دراسة الفكر الغربي، والعيش في كنفه، والعودة بفكر ثري متنور لا يتناقض في شيء مع هويته الأصلية)، فإن النموذج الياباني له خاصية أخرى. فبالرغم من سيطرة المستعمر، تحولت مدارس الأيكيدو إلى فضاءات لترسيخ نموذج جديد في المعاملة والسلوك والأخلاق والانضباط. وسعيا في إثارة اهتمام الشعب برمته، تم التفكير في تقنياتها بشكل عميق لتكون رياضة لكل الأعمار (من المهد إلى اللحد): الأطفال، والشباب، والمراهقون، والشيوخ، وذوي الاحتياجات الخاصة. كما أن ما تفرضه من تركيز قوي في الممارسة، جعلها رياضة لتجسيد مقاربة النوع، بحيث لا يبالي الممارس قط باختلاف جنس مشاركه في اللعبة. ومن أجل ضمان النجاعة في التربية والتكوين، تم التفكير كذلك في عدة ضوابط لترسيخ قيم احترام القدوة في شخص الأستاذ المؤطر (الشيخ) لدى الممارس (المريد)، والافتخار به، والامتثال لروابط الانتماء والولاء والتبعية، تحت شرط حرص المعلم المؤسساتي على تجسيد العدالة والشرف والكرم والإيثار والحكمة.

خلاصة

إن النجاح الذي حققته هذه الرياضة، جعل اليابانيين يفتخرون بجهود بنائهم لنموذج مجتمعهم. إنه النموذج الذي حقق في نفس الوقت المحافظة على الهوية اليابانية داخل الأسرة، وترسيخ ثقافة الانفتاح على الآخر، خصوصا الآخر الغربي، في الاقتصاد والتكنولوجيا والبحث العلمي والتجارة والخدمات والتدبير المالي. إجمالا، لقد نجح اليابانيون في بناء نموذج مجتمع متميز وقابل للتصدير.

أما نحن المغاربة، فلدينا ذخيرة فكرية ثمينة، لا زالت تقبع في رفوف المكتبات ومعارض الكتب، وتنتظر روادا من صفوف المثقفين الوطنيين لتقريبها من الشعب المغربي. فما أحوج بلادنا لغوص الشباب في قراءة وتحليل مشاريع كتابنا الكبار وعلى رأسهم محمد عابد الجابري (إعادة قراءة التراث عقلانيا وغربلته)، وعبد الله العروي أطال الله في عمره (تجاوز التقليد مجتمعيا، والانفتاح على فكر الحضارات الأخرى والعودة بنظرة حداثية لموروث الهوية).

‫تعليقات الزوار

2
  • الحسن العبد بن محمد الحياني
    الأربعاء 15 يناير 2020 - 12:41

    فلسفة هذه العقيدة ترتكز على سياسة:"لا غالب لا مغلوب"،أي لا منتصر ولا منهزم بعد المبارزة؛وقد انبثق هذا النوع من الفنون القتالية -السلمية من سنوات من التعبد وتلقي الدروس في معابد اليابان؛فالخلفية دينية أو البعد ديني محض dimension religieuse؛رياضة الأيكيدو-كما يقول البعض-تركز تركيزا خاصا على البعد النفسي للمقاتل وتقوية معنوياته؛هي نتيجة
    لانفتاح البلاد على العالم الخارجي،بحيث تتبنى أفكارا ليبرالية غربية بما فيها تحويل نظام الحكم من الملكية المطلقة الى الملكية الدستورية،ولكن هذه المساعي اصطدمت بمعارضة قوية من جانب السامورائيين (أهل السيف في اليابان ويشكلون الطبقة المحاربة المحافظة على النظام؛يبقى إذن البعد الروحاني العميق حاضرا بقوة؛فن الأيكيدو إذن معروف عالميا؛ وقد انبثق عن تعاليم وتوصيات وخبرات موريهي أويشيبا الذي قرر العيش منعزلا في إيفاما بالقرب من طوكيو،بعيدا عن أحداث الحرب الدموية الطاحنة؛لا حرب ولا سلم ؛كما يقال عندنا:"ما رابحة ما خاسرة،عاش ما اكسب مات ما خلى"؛و يوجد اليوم معبد 'إيكيدو' إيكي جينجا الذي يخلد اسم وتعاليم موريهي أويشيبا؛إذن اللعبة أو الفن في الشاكوش؛ورد البال يا علال!

  • الحسن العبد بن محمد الحياني
    الخميس 16 يناير 2020 - 11:32

    بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين؛

    -قال عز من قائل:"فَفِرُّوا إلى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ"؛[الذاريات:50].

    -وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:(إن الله يحب العبد التَّقيَّ الغنيَّ الخفيَّ)،[أخرجه مسلم عن عامر بن سعد].

    -وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم،والقائم فيها خير من الماشي،والماشي فيها خير من الساعي،ومن يشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذًا فليعذ به»،(صحيح البخاري[3601]).

    – وقال ابن عبد البر رحمه الله:"وَرُبَّ صَرْمٍ جَمِيلٍ خَيْرٌ مِنْ مُخَالَطَةٍ مُؤْذِيَةٍ ".

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته:"دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"(10)،سورة يونس.

    طريق الكدية….إن شاء الله مع الطريقة المحمدية: واقرأ إن شئت قصيدة من الزجل الشعري بعنوان:" الطريقة المحمدية الحسن العبد بن محمد الحياني منتدى المسجد النبوي".
    شكرا لك هسبريس وجزاكم الله خيرا؛آخر مشاركة لأخيكم بعد الدعاء…

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 2

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 9

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء