حول عُقْمِ الكتابة أو عُمْقِها

حول عُقْمِ الكتابة أو عُمْقِها
الخميس 16 يناير 2020 - 18:28

الشعراء والمبدعون عامة، في كل زمان ومكان، فريقان: فريق يتدافع ويتناكب ويتنافس، ويتباغض، ويستقطب الأضواء والمريدين، و” البَرَّاحة”، لغاية تَصَدُّرِ المشهد الثقافي، وتَبَنُّكِ المكانة الأدبية المشتهاة، والمجد التاريخي الموهوم.

وفريق يتراجع إلى الوراء، مؤثرا النأي بنفسه عن الغبار والنقع المثار، وعن الهرج والمرج، والبهرجة، والضوضاء الإعلامية، واللهاث وراء الجاه والمال، والكتابة عند الطلب، تاركين الكلمة الأولى والأخيرة، والحسم النهائي للمتلقي الخاص، والمتلقي العام العريض. وأعني بالمتلقي الخاص: المفكرين والشعراء الناقدين، والنقاد المتمرسين، وعلماء الاجتماع، والنفس أحيانا. أما المتلقي العام، فهو مجموع التلقيات المتواصلة والمتواترة عبر الأمكنة والأزمنة المختلفة التي تجدد أنساغ الإبداع شعرا أو سردا، أو فكرا فلسفيا، وتحيي دورته الدموية بضخ الهواء والماء والأشربة والأغذية في عموم مورفولوجيته، وبنائه، وجوهره الكامن الذي يؤذن بالسطوع والإشراق كلما لا مسته عين، او اعتكف عليه معتكف، وأوغل في مساربه وأطوائه، موغل آدمي. فإذا الإبداع مرفرف ومحلق ومخترق، وناجع، وفاعل، ونافع، وماتع.

لذاك، نجد أن زمرة من الشعراء والمبدعين والمفكرين المتمكنين، الحاذقين والاستثنائيين، ليسوا على قائمة المقروئية المكثفة والشيوع والذيوع. ولا يحظون بالضوء الاصطناعي البراق، أو البروباغندا، ولا يلجون البرامج والمناهج الديداكتيكية كالعادين البادين. بل هم مبعدون من التداول، لا سبيل لقراءتهم، والاطلاع على إضافاتهم، وجديدهم، وما به سمقوا، وتسنموا ذروة الفن والجمال، والتقطوا، في لحظة انخطاف وإلهام، أسرار البحث والغوص في أعماق وأقاصي الأشياء والمكونات، والكائنات، والوجود. ربما لأن ما يكتبونه يستعصي ويتمنع ـ في المنطلق ـ على الفهم والسبر والمراودة، والتحليل، والتأويل. أو لأن كتاباتهم الإبداعية والفكرية، تمتح وتنهل من الماورائيات، والمجريات الدقيقة العميقة، وخوابي المستقبل المغلقة. فإذا مشى الزمان، وتحولت الأيام، وانزاحت الرؤى عما كلَّسها وأبقاها رهينة الماضي، غائبة مغيبة في دهاليز بعض التراثات الرثة، آنئذ يتقدم الإبداع المنسي، والفكر المضطهد في سياق زمني متعين في كليته وتفصيلاته، حيّياً، ثاقبا، رائيا، موفور الشباب، مفعما بالحياة، وملتفا بنداوة بهية متجددة، تنفخ في أطرافه وأوصاله شموسا صغيرة، ومظلات عشق وانتباه واقتيات.

إن التاريخ ـ فيما يقول النابهون ـ كفيلٌ بالغربلة، كفيلٌ بإعلاء كاتب، وإنساء كاتب. كفيلٌ بتقديم الجيد والجميل والماتع والنافع، وباطّراح المنفوخ المُزْرَقِّ، المبتذل، الضحل والسطحي، والمقلد والمنقول، والمحاكي. وقد كشفت الأيام في أصقاع كثيرة من العالم، أن بَعْضَهُم مَنْ كان في الأوج مرفوعا على أجنحة الزغاريد، والدفوف والرفوف، سقط سقوطا مدويا أيْ مُحِيَ من التلقي والاستقبال، وأُبْعِدَ ” بنعومة ورحمة” من التداول والمقاربة والنقد، لأن ما أعلاه في سياق تاريخي معين اتسم بالغفلة والاستغفال، والتسرع، والمباركة الحزبية والإيديولوجية، لم يعد قائما. فلا السياق تأَبَّدَ، ولا الحزبية الطليعية بقيت، ولا الإيديولوجية القومية والشوفينية استمرت حية تُبَوِّقُ وتُزَغْلِلُ.

وإذاً، فالجوهر هو ما يبقى. والروح السارية المتغلغلة السائلة في بواطن وحنايا وخلايا الكتابة، هي ما يرهن التاريخ بها، أيْ ما يجدل خيوطا من نور وإشراق لامرئيين في ثناياها ( أي ثنايا الكتابة ). فما الجوهر، وما الروح التي نعني هنا؟. إنها زبدة الخبرة الحياتية للكاتب التي يضعها بعد مَخْض وفَحْص ومَحْص في ما يكتب ويُحبِّرُ، ويسقي. وهي نبض قلبه، ودمه، وسهره، ومئات التشطيبات، وعدد لا يحصى من عمليات التشذيب والتهذيب، والمحو. وآلاف الساعات في الليالي الباردات، وهول العزلة وبياضها التي يقطرها تقطيراً في وعاء أوراقه الخرافي، ودورق سهاده، وعطاياه.

ثمة ما يجعل الكاتب ـ في أحايين كثيرة ـ ممسوسا، به لطخةٌ من تَأْتأَةٍ لسانية، ولوثةٍ دماغية عابرة، وحُبْسةٍ شرسة زائرة، وحُمّى باردة وثقيلة أبدع في وصفها أبونا الكبير: أبو الطيب المتنبي. وثمة ما يُسَرّي عنه، ويرفع اليد عن مَغَصِ الكتابة، وصداع التفكير النصفي أو الكامل، وشلل الأصابع حين يحرن القلم، وتضحك في وجهها بومة الغسق المحلقة. فحين تضحك البومة الغسقية، بومة الفيلسوف هيجل، المحملة بالحكمة والتحرير من القيد والغيظ، ينبثق النور فجأة بين يديه، فيضيء عقله وبصره وبصيرته، وقلبه، وقلمه. إذَّاك تنثال الكتابة انثيالا، ويَرِقُّ الحرف رِقَّةً، وتستدعي الصور صورا، والواقع الماثل واقعا آخر مخفيا ومتواريا، والعالم الحالك عالما لازَوَرْدياً منشودا. وإذَّاكَ، فقط، يعود المبدع والمفكر المُبْتلى بالتأمل والسؤال، إلى حالتهما الأولى، الحالة الخام، حال الآدمية البشرية حيث يستوي بالأقران، ويختلط بالأنداد، وينغمر في دنيا السوق والناس.

أليس هذا أو بعضا منه، ما كان يحدث للأنبياء والرسل، والمتصوفة، والأولياء، والقديسين، والمجانين طُرّاً.؟.

أليس كل كاتب، فيلسوفا كان، أو شاعرا، أو مبدعا، أو فنانا تشكيليا، او موسيقيا، هو، بمعنى من المعاني، ووفقا لما سطرناه، نبيا” أرضيا”، وَضْعياً، لاَوَتْسياً، وشخصا ميتافيزيقيا بكل المقاييس؟. وتبعا لذلك، فكل كتابة: أي لباس لبست، ورداء ارتدت، وملحفة التحفت، وقالبا اتخذت، ووشاحا به اتشحت وتزينت، هي كتابة ميتافيزيقية، ما دامت تروم وتتغيا التخطي، والتحليق، والاختراق، والكونية، واستدراج خطى وماهيات وغيبيات المستقبل، أي تتغيا الديمومةَ والأبديةَ.

‫تعليقات الزوار

1
  • حميد
    الخميس 23 يناير 2020 - 18:56

    تحية للسي بودويك. ليس الطريق لمن سبق ولكن الطريق لمن صدق!!!

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 3

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب