عزاء وأمل

عزاء وأمل
الأربعاء 8 أبريل 2020 - 07:14

بسم الله الرحمان الرحيم

قد يكون ما نحن فيه اليوم أمر لا سابق له في التاريخ من حيث اتساع المدى، واشتباك المصائر، ومَلْحَمِية التبعات التي نراها تغمُر بالمُباشر قِلاع الأمان الزائف في كل مكان لتُسقط أوراق التوت عن الجميع، وتُجبر عمالقة الشمال على تحسس كِعَابهم. وهو بالقطع لحظة فارقة تأذن بتَقْوِيم جديد يختلف فيه ما سيلي عن كل ما سبق، وتلك عند المؤرخين وأهل السير من “حسنات” النوائب، وبها تتحددُ الحُقب وتتمايز معالمها، لتبرز بتراكمها حركة التاريخ المستترة عن أنظارنا نحن اللاَهونَ عنها بأوهام الثَبَاتِ والسكون.

استثنائية اللحظة ليست في اعتبارها حدثا نادرا، بل لكونها مأساة ومصيبة شمولية لم تستثن من الدول واحدة ولم تكترث لتقسيمات الثروة والقيم والجغرافية والسياسة. تهديدٌ لا حَصانة فيه ومنه لأحد مهما اعتقد في نفسه علو شأنٍ ومِنْعة.

وهي لحظة كاشفة لوهنٍ وهشاشةٍ فادحتين، ولمكامن خلل متأصل في مجتمعاتنا المعاصرة التي استعبدها الجشع فاختلطت عليها الأولويات وكبلتنا جميعا.

ولعل استثنائيتها الأهم في كونها أول تجربة عملية لمخاطر انضغاط العالم وتحوله إلى تلك القرية الكونية الصغيرة: أرض الميعاد، حيث الرخاء والسعادة. وقد تنبأ عالم الأنثروبولوجيا جورج ماركوس بما نحن فيه اليوم خائضون عام 1992 حين قال: “إن انكماش العالم لا يعني بالضرورة تناغمه، بل من شأنه على الأغلب زيادة الاحتكاك بين مظاهر كانت تنتمي إلى عوالم تبعد آلاف الأميال عن بعضها البعض”.

لذا يرى كثيرون أن هذه المحنة، على فداحتها وسوئها، لا تعدو قرصة أذن أو تنبيها إذا ما قورنت بما ينتظر العالم إذا مضى في استهتاره وأمعن في الجشع وغيه وتعسفه على الطبيعة وعلى بعضه البعض. وهي في المقابل، في اعتقادي، فرصة قلما تتكرر لإعادة ترتيب الأوراق في هذا الجزء من العالم، ولصحوة نحن أهلٌ لها.

فالآن أكثر من أي زمن مضى لم تعد الدول “الصغيرة” صغيرة أبدا. هي قادرة فعليا على قلب الموازين، شرط أن تَعِي قُدرتها على ذلك أولا، وأن تُطور رؤية مستقبلية قابلة للتطبيق وخاصة بها ثانيا، وأن تمتلك إرادة الرّيادة قبل هذا وذاك.

والشروط الثلاثة قلما تحققت كُلّها في دولة من دول الجنوب، لأن الإحساس بالعجز متأصل في أغلبها. هذا العجز في بعضه موضوعي جدا، لا خلاف على ذلك، فرضته معطيات الداخل والخارج خلال القرنين الأخيرين، التي قسّمت الأدوار وحَجّمتها، فأفرزت نظاما عالميا يقوم على الطّبَقية المقيتة وإن سُميت باسم آخر. ولكن أغلبه ـ أي العجز ـ مصدره داخلي وذاتي متمثل في انْتِفَاءِ الثقة والرؤية وقبلهما الرغبة في الخروج من الخانة الضيقة التي سطّرت حدودها لعبة سِياسةٍ بدأت شُروطها تتغير.

إن هذه المحنة التي تساوى فيها النقيض بنقيضه، وتألفت حولها الأضداد، ليست من علامات النهاية التي لا ينفك “يُبشر” بها المؤمنون من كل النِحل كلما اهتز سراب ثابتٍ أو ساكنٍ هنا أوهناك. فالحياة دَيْدَنُها القفز على الحواجز منذ الأزل. وهي عصية على الفناء أو تكاد، تُقاوم حتى إذا استعصت المقاومة، ارتضت التأقلم وركنت إليه، فكان لها منفذا ونجاة ليُخرج الله حَيَهَا من مِيِتِها ويمنحها حياة جديدة.

ذاك هو سر بشريتنا العظيم ولولاه لما قامت لجماعتنا قائمة حين مُنِينَا على امتداد التاريخ بجوائح الغفلة، وجنون الحرب ومذابحها، وقهر الموت. بعد الانقشاع، لُملت الجراح، وتلاشى الخوف تدريجيا من النفوس حتى صار كأنه يوما ما كان، وانبرى الوِجدان للتأريخ والتخليد عبر الفن والأدب، وتناقل الناجون سير الأبطال وتضحياتهم، ورووا لأحفادهم بعد سنين عن تلك المرحلة العجيبة وما تم فيها من اتفاق سيبدو حينها ضربا من ضروب الخيال، ثم عاد الجميع إلى الالتهاء بأوهام الثباتِ والسكون.. إلى حين.

ولنا في ذلك عزاء.. وأمل.

‫تعليقات الزوار

6
  • عبدالفتاح
    الأربعاء 8 أبريل 2020 - 10:40

    هناك درس واضح يجب على المغرب و المغاربة الاستفادة منه بعد هذه الأزمة و هو حسب رأيي المتواضع بُطلان التبعية للخارج و خصوصا الاتحاد الأوروبي مرؤوسا بماما فرنسا. المطارات و الموانئ مقفلة و كل بلد ينادي نفسي يا نفسي فرأينا كم بدأت تظهر علامات التلاحم و التضامن ما بين المغاربة و كيف بدأت تظهر بوادر طيبة على الشباب من ابتكار و جهد و تفكير في المستقبل…بالإضافة إلى ذلك رأينا تلاحم و توافق عجيب بين الحكومة و الجيش و الشعب لم يحصل من قبل. صدقوني أن عدم توازن و دمار المجتمع المغربي تسببه بالخصوص التبعية الاستعمارية الأوروبية التي لم تنجه في تطوير أي بلد في 50 سنة الماضية بعد الاستقلال النسبي، لذلك فقد حان وقت الاستقلال الكلي يكون فيروس كورونا سببا له.
    شكرا

  • زينون الرواقي
    الأربعاء 8 أبريل 2020 - 10:41

    هناك شعوب مستأنسة بالموت والمخاطر تتربصها في كل وقت وحين .. شعوب على امتداد جيل أو ربما أكثر تعيش على وقع الفوضى والقمع والتدخلات الخارجية والعدوان والقصف والأشلاء والجنائز فالمجاعات والندرة .. بالمقابل هناك شعوب أخرى لا ترى المصائب والنكبات والكوارث سوى في بُطُون كتب التاريخ أو في تلك الوثائقيات والروبورطاجات التي تنقل مظاهر الرعب الذي يجري بعيداً عنها في أماكن قصية من هذا العالم ضحاياه كائنات بشرية نتسلى بمتابعة مآسيها دون ان يتعدى تعاطفنا معها حدود الأثير .. الشعوب الأولى اليوم لا ترى في الوباء رعباً ينغص حياتها أكثر مما تنغصها المجاعة أو القصف أو التقتيل فالمصائب أكسبتها مناعة لا تتوفر لدى الشعوب المرعوبة التي ظلت لفترة طويلة مطمئنة الى ان الشرور والمخاطر لا تقع سوى للآخرين .. لا اعتقد ان منسوب الخوف من الفيروس هو نفسه لدى شعب الروهينغا والشعب السويسري مثلا أو هو نفسه لدى من تدكّ الصواريخ بيته فوق رأسه ورأس أطفاله وذلك الذي يزعجه جو ماطر يحرمه من تناول فطوره في حديقة بيته الغنٌاء .. الرعب يعرف أين يوجد زبناءه …

  • MAROCAIN
    الأربعاء 8 أبريل 2020 - 11:06

    مقال جميل و عميق بلغة سلسة اتمنئ قراءة المزيد

  • KITAB
    الأربعاء 8 أبريل 2020 - 12:50

    الرواقي تحية، نعم طرحت في تعليقك قضية نسبية المفاهيم والمشاعر تبعا للثقافات ومستويات عيش الشعوب والأجناس ، فما يعتبره المفلس سعادة وهو يهم بالتقاط مبلغ 1000 يورو يبدو برأي الغني مجرد ورقة نقدية يحتاجها لتمضية ساعة في إحدى الإقامات الفاخرة وما يحس به الفلّاس وسط نهر جار قد يثير غثيان شخص يتناول قهوته من على برج إيفل… نسبية تتخطى حتى وسائل الفتك والدمار بين فتى ترعرع وسط أصوات غارات الطيران فوق رأسه فلا يأبه لقصف مدفعي وبين آخر عاش وسط الجنينات وشقشقات العصافير فإذا سمع دويا من قربه ضرط وخاله قنبلة تترصده، سبحان الله، وقد أفادني طبيب ونحن نحاول فك شيفرة الفايروس كورونا أن هناك ذوات بشرية تعيش قريبة من الوحل والمستنقعات فاكتسبت مناعة صلبة ضد عديد من الأمراض الفتاكة، بينما آخرون يعيشون في إقامات مخملية فمجرد لسعة ذبابة لجلد أحدهم تتركه يدعك جلده يومين إن لم يعرض نفسه على طبيب مختص أو يستشعر بدنو أجله ، سلمات

  • حسناء
    الأربعاء 8 أبريل 2020 - 13:08

    أعتقد ان العالم سيشهد تغير جذريا بعد هذه الأزمة على صعيد التمايز بين الدول على أساس القوميات والوطنية الى انشاء عالم ذو قطب واحد وهذا يأتي ضمن التطور الطبيعي للجنس البشري ، قبل مئات السنين كانو الناس يمتازون طبقيا هذا ماتم تجاوزه في القرن العشرين و الواحد والعشرين لننتقل لتمايز جديد بين دول متقدمة و دول متخلفة.
    الا ان هذه الازمة العالمية وحدتهم جميعاً فأصبح لهم هدف موحد هنا أصبح لزاما تطوير فكر جديد يقوم على أساس إنساني،بحيث قد تساعد هذه الفترة على المدى الطويل في تطوير وعي عالمي مشترك، وكلما عانى الناس في جميع أنحاء العالم من الصدمات نفسها، كانوا على اتصال أعمق مع بعضهم بعضا، وأصبحوا ضمن مجتمع عالمي مشترك.

  • nadori
    الأربعاء 8 أبريل 2020 - 14:26

    اعتقد ان الحروب مسؤولية بشرية ووالفقر ربما قسط كبير منه مسؤولية بشرية كذلك,ولكن الحيرة كل الحيرة في الأوبئة التي تظهر من زمان الى زمان ,فهل هي كذلك مسؤولية بشرية ام قوانين طبيعية ام كما يقول كثير من المؤمنين هنا وهناك عقوبة الاهية؟فلقد قرات مقالات كثيرة في جريدة هسبريس بحيث اليوم هسبريس تنشر في كل دقيقة تقريبا مقالا عن الكرونا وكل المواضيع المنشورة في هذه الأيام في هسبريس هي عن وباء الكرونا.اخيارا واراء وتحليلات وتخطيطات وامل ووو ومع ذلك لم يشفى غليلي واجزم ان الأوبئة هي مسؤولية بشرية او الاهية او سنن كونية طبيعية تظهر من حين الى حين.كثرت المقالات ووووو والحيرة وبين قوصين الجهل بسبب الكارثة يبقى غامضا ويدخل في مجال الغيبيات

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 3

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب