عقد اجتماعي جديد في العالم ما بعد كوفيد-19

عقد اجتماعي جديد في العالم ما بعد كوفيد-19
الخميس 9 أبريل 2020 - 18:05

مما لا شك فيه أن التداعيات الصحية والاقتصادية لفيروس كورونا على الاقتصادات المحلية والعالمية “خطيرة”، بل وتنذر، في رأي المتواضع، بكساد عالمي وشيك إذا لم تتغلب البشرية في حربها على الفيروس خلال شهرين على الأكثر من الآن. ليس هذا فقط لكن أيضاُ على الجانب الاجتماعي فالفيروس أوضح مدى هشاشة العقد الاجتماعي في كثير من مجتمعاتنا الحديثة، وأن هناك حاجة لإصلاحات جذرية لتشكيل مجتمع يعمل لصالح الجميع.

لكن الخبر السعيد أن محنة الفيروس منحتنا إيجابيات كثيرة يمكن اختصارها، في أنه قفز بنا إلى المستقبل! نعم للمستقبل الصحي والذكي، والمستدام حيث يكون الفرد متصلاً، وإنسانيًا، ويعيش حياة أبسط، وأقل تلويثاً.

فعلى الجانب البيئي المزايا عديدة والفوائد عظيمة فالحد من السفر، وإغلاق المصانع كلياً وجزئياً، منح استراحة للبيئة والسماء والهواء…الخ. هل تصدق أن تشهد أجزاء من الصين سماءً زرقاءً للمرة الأولى منذ أمد مع إغلاق المصانع هناك! كما لحقت إيطاليا وإسبانيا بالصين حيث كشفت صور الأقمار الصناعية عن أن تلوث الهواء في انخفاض بشكل حاد، بعد أن أجبر الفيروس السلطات على إغلاق المصانع، وحظر السفر، بالإضافة إلى العمل عن بعد بدلاً من التواجد داخل أماكن العمل، وتحولت المدن المكتظة بالسيارات، والانبعاثات الكربونية إلى مدن أشباح. فالوباء البشري صحح من أوضاع المناخ المتأزمة منذ عقود (بصورة مؤقتة)، ولكنه أثبت للجميع أن الاقتصاد منخفض الكربون أمر سهل ممكن تحقيقه على أرض الواقع.

وعلي الجانب الاجتماعي منحنا الفيروس فرصة لإعادة التواصل بالعائلة، حيث أصبحنا نقضي وقت أطول في المنزل، خاصة مع اجازات المدارس والأمهات، بالإضافة الي العمل من المنزل لكثير من المهن. إنها فرصة للتأمل العميق وتهدئة الذات وتدعيم أهمية الإحساس بالتكافل والتضامن (الأسرة، الحي …معا) في المجتمعات، فرأينا كيف يدعم اللبنانيون والايطاليون مثلاً بعضهم البعض بالغناء والموسيقي من شرفات منازلهم. فالسؤال الهام هنا هو ما إذا كانت المشاعر الحالية تجاه هدف مشترك ستشكل المجتمع في ما بعد الأزمة؟

الإجابة باختصار أنه بلا شك أن كثيرا من التغيرات الاجتماعية ستستمر بعد انتهاء الأزمة، خاصة مع ثبوت العديد من مزاياها الاقتصادية والبيئة للأفراد والشركات والدول بل والعالم أجمع. فمثلاً سيشهد العالم اتجاها متزايداً للسماح للموظفين في مختلف القطاعات بالعمل من المنزل. فلماذا يتحمل صاحب العمل تكاليف استثمارية وتشغيلية لمساحة عمل مكتبية تقدر بحوالي 7000 دولار في المتوسط سنويا (من توفير مكتب وحاسب الي وتكاليف انتقالات وكهرباء…إلخ)، في الوقت الذي يمكن فيه إنجاز العديد من مهام العمل اليومية العمل من المنزل، وسيتم الحكم على أداء الموظف بناءً على الإنتاجية، وليس ساعات العمل التي يقضيها العامل. لكننا بالطبع بحاجة إلى مجتمع وشركات مجهزة بالبرامج التكنولوجية وأدوات الفيديو كونفرانس اللازمة وغيرهم لضمان فاعلية أداء الأعمال والاجتماعات. أضف إلى ذلك أن ظاهرة “التعلم عن بعد” التي صاحبت انتشار الفيروس متخطية حواجز المكان والزمان بطريقة جذابة وتفاعلية مصحوبة بمؤثرات بصرية وسمعية ستحل محل غالبية العملية التعليمية “الجامدة”.

يخطئ من يظن أن ضحايا كوفيد-19 هم من كبار السن فقط. بل الرجال والشباب ممن يمثلوا قوة العمل الأساسية بالمجتمعات من أكبر ضحايا عمليات الإغلاق، الذين يُطلب منهم تعليق تعليمهم ووظائفهم وأعمالهم خاصة أن الكثير منهم في أمس الحاجة لهذا الدخل اليومي أو الشهري. لكن بلا غرور أن التضحيات أمر لا مفر منه، فالنضال من أجل احتواء الوباء كشف عن عدم استعداد الأنظمة الصحية، وكذلك هشاشة اقتصادات غالبية البلدان، حيث تتدافع الحكومات لدرء حالات الإفلاس الجماعي، والتعامل مع البطالة الجماعية. لكنه يجب على كل مجتمع أن يثبت كيف سيقدم التعويض لمن يتحملون العبء الأكبر للجهود الوطنية، ووضع سياسات مستقبلية لضمان عقد اجتماعي قوي، سليم، متوازن وعادل.

بكل ثقة نستطيع القول أنه ستكون هناك إصلاحات جذرية مختلفة تماماً عما كان سائد بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، ومن أهم ملامحها:

– سيتعين على الحكومات قبول دور أكثر نشاطاً في الاقتصاد عكس الاتجاه العام في العقد الأخير خاصة، حيث بات يتحتم عليهم أن ينظروا إلى الخدمات العامة على أنها استثمارات بدلاً من كونها التزامات. ومن أهم الخدمات أو السلع العامة (البيئة بمفرداتها وخدماتها) فهي سلعة عمومية لا يقلل استهلاكها أو استخدامها من قبل فرد الكمية المتاحة للتخزين، وبالتالي فإن السلع العامة ليست مستبعدة وغير متنافسة.

– سيتعين على الحكومات أن تبحث عن طرق لجعل أسواق العمل أكثر أمناً. كما ستكون إعادة التوزيع للدخل والثروة (عن طريق الضرائب مثلاً) على أعلي جدول الأعمال.

– سيصبح العمل والتعلم من المنزل واقع ولو بصورة جزئية، وسيتحتم دعم المجتمعات بالتكنولوجيات اللازمة، خاصة أن العديد منها متاح حالياً.

– ستصبح قضايا البيئة وتغير المناخ على سلم الأولويات ليس فقط نتيجة لما شهد العالم من أزمات نتيجة الفيروس ومن قبله حرائق غابات الأمازون وأستراليا وفقدان التنوع البيولوجي… إلخ، بل لأن حماية الموارد البيئة هي حماية لأصول الأمم وثرواتها، والأزمة أوضحت بجلاء أنه في الإمكان في ظل التكنولوجيات المتاحة حالياً تحقيق الاقتصاد الخالي من الكربون، بإجراءات وسياسات سهلة التطبيق.

يقول الحق سبحانه وتعالي في كتابه الكريم في سورة البقرة “وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ”، فطبقاً لإحصاءات منظمة الصحة العالمية فإن تلوث الهواء يتسبب في 7 ملايين حالة وفاة سنوياً حول العالم. أي أضعاف مضاعفة لوفيات الفيروس الحالية، والمتوقعة فلربما أراد الفيروس تنبيهنا بأهمية تحسين جودة الهواء والبيئة بصفة عامة، كي نحيا نحن وأطفالنا وأحفادنا حياة أفضل.

*خبير اقتصاديات الطاقة والبيئة وعضو شبكة العمل المناخي- العالم العربي

‫تعليقات الزوار

3
  • BAT MAN
    الخميس 9 أبريل 2020 - 19:35

    كلام جميل وبالفعل ستتغير أشياء كثيرة من أولويات كانت مهملة ومقاربات كانت خاطئة ورؤيا كانت قصيرة
    لكن ستتغير عند المجتمع الغربي ولن تتغير في مجتمعاتنا العربية والدليل هو استمرار القصف في اليمن و ليبيا وفي عز الجائحة هذا دليل على همجيتنا و تخلفنا يحلم من يعتقد أن الجائحة ستغير عقلية الحاكم العربي فالغرب داوم على التغيير والتجديد لهذا لن يصعب عليه تغيير العيوب التي كشفتها الجائحة أما نحن فسأختم بكلام رب العالمين كما فعل الكاتب المحترم لن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم صدق الله العظيم

  • رأي1
    الجمعة 10 أبريل 2020 - 02:58

    المهم هو ام يغير البشر وخاصة اولئك الذين يتحككون في مصير البشرية ويجهونها طرق تفكيرهم وسلوكهم ومواقفهم من الانسان ومحيطه.فاذا ظلت نفس العقلية المغرضة والانانية سائدة فانه بمجرد زوال هذا الكرب ستعود الامور الى طبيعتها ولن يتغير اي شيء بل قد تزداد سوءا.وما نشهده اليوم من انغلاق البشر على ذواتهم افرادا وجماعات وامما على الرغم مما يبدو ظاهريا من تضامن ناتج عن الخوف لدليل على مسار العلاقات البشرية مستقبلا.فكل دولة لا تفكر اليوم الا في مصالح شعبها.ولربما ستتجه الامور في المستقبل نحو تكريس مزيد من سيطرة البعض على البعض الاخر.وما لم تجتهد الامم المتخلفة من اجل الخروج من اوضاعها المزرية فانها ستلتهم او تمسح من على وجه الارض.فليس ضروريا ام تكون العاقبة خيرا وكل شيء ممكن.

  • sadek fathy sadek
    الجمعة 10 أبريل 2020 - 09:01

    من سيتخلف من الدول الصغرى ستجبره الدول الكبرى على التغيير بوسائل كثيرة ومتعدده لان الكون للعالم اجمع ممكن حدوث خطا او اهمال من اى دوله صغيره ولكن يتاثر العالم اجمع نتيجه لهذا لاحدث
    ممكن الرجوع الى كتاب رؤى مستقبليه
    الكتاب لمؤلف حاصل على الدكتوراه فى الفيزيا وجائزة نوبل
    واحداث الكتاب هو حوارات مع تقريبا 30 عالم فى كافة فروع العلم
    ويتحدث عن ما يفكر فيه العلماء وليس دجل او شعوذه بل كتاب علمى
    وعموما شكرا جزيلا للكاتب والخبير صادق فتحى عضو هيئة تدريس بالجامعة

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب