مسألة الميراث....إشراقة تطبيق

مسألة الميراث....إشراقة تطبيق
الجمعة 3 فبراير 2012 - 02:10

كان محمد يتألم ويتحسر مما يحدث في مجتمعه من هضم كثير من الناس لحقوق بعضهم بعضا، ومن ضياع جانب من الدين في أسر المسلمين، ويتساءل باستمرار:لماذا لا يجتهد الناس في إقامة الدين في أنفسهم وفي أسرهم قبل أن يطالبوا حكامهم وأنظمتهم في إقامته في دولهم وأنظمتهم؟

فقرر باعتباره بكر أبيه أن يباشر ذلك في أسرته منذ اللحظات الأخيرة من حياة والده، فكان يحرص في كل زيارة في اللحظات الحرجة من وضع والده الصحي، على التذكير بالصبر ومواجهة الأمر برباطة الجأش والتسليم بقدر الله وعدم إتيان شيء من أعمال الجاهلية مثل النياحة وشق الجيوب وغير ذلك، كما ويلمح بالاجتهاد للتخلص من بعض العادات التي لا أصل لها في الشرع مثل القصد إلى الاجتماع في اليوم الثالث من موت الميت أو الذكرى الأربعينية وكذا بناء القبر ونحو ذلك.

وما إن نزل أمر الله وقدره، حتى وزع محمد المهام بين إخوانه، فتكلف بعضهم بإجراءات تجهيز الميت من غسل وتكفين، وتكلف آخر بمباشرة تهييء القبر، وتكلف ثالث بالاستعداد لاستقبال المعزين وما يلزم من طعام للأباعد ولمن يدخل الدار، وحرص في ذلك أن لا يمس مال الأيتام، فتقاسم الإخوة القادرون مصاريف الإطعام كل حسب وسعه وجوده، فيسر الله في كامل الإجراءات ولم يأت وقت الظهر الموالي لليلة وفاة والدهم إلا وجثمانه في مسجد الحي للصلاة عليه، ثم التوجه به إلى المقبرة ومواراته التراب، وقد رتب المومنون المحبون للأسرة أمر موعظة المقبرة لتزيد الجو سكينة وعبرة.

وفي الليلة الرابعة بعد أن خفت وتيرة المعزين، عقد محمد لقاء تذكيريا حضره جل أفراد الأسرة، تناول فيه ما يتعلق بالحداد وأنه لا يجوز أن يستمر أكثر من ثلاثة أيام إلا ما كان من الزوجات، فيستمر حدادهن أربعة أشهر وعشرا، يتجنبن فيه مظاهر الزينة، ولا يخرجن إلا لحاجة معتبرة ويحرصن على المبيت في بيت الزوجية، ويلتزمن عادة بلادنا في تطبيق تجنب لباس الزينة بارتداء الأبيض من الثياب بخلاف عادة المشرقيات اللواتي يرتدين السواد، وكانت مناسبة للرد على الكثير من تساؤلات الأسرة في هذا المجال والقطع مع العادات التي لا أصل لها في الشرع، وكانت والدة محمد تهيئ الأوراق وتعد نفسها للسفر إلى أحد أبنائها خارج الوطن، فاقتنعت بتأجيل كل ذلك إلى ما بعد الانتهاء من العدة.

وبدأ محمد يفكر في كيفية مفاتحة العائلة في أمر تركة والدهم وكيفية تدبير الأمر مع وجود الصغار ووجود أفراد داخل الأسرة وآخرين استقلوا بأنفسهم من زمان غير يسير، وكان همه القطع مع عادات راسخة تعتبر من العيب مطالبة البنت المتزوجة بحقها، حيث يترك الأمر للإخوة فإما يحرموها بالمرة أو يلقوا إليها ببعض الفتاة، بحجة أن مال الأسرة لا ينبغي أن ينتقل إلى الأسر الأخرى الغريبة، وكل مطالبة تواجه بفتور في العلاقات وربما بقطع الرحم.

وبعد أن قام بحصر ممتلكات والده إلى ليلة وفاته، اغتنم ليلة من ليالي اجتماع العائلة التي تلت الوفاة بقليل، فذكرهم بالترحم على والدهم وبأنه قد انقطع عمله إلا من ثلاث منها ولد صالح يدعو له، ثم تلا قول الله تعالى:” لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (7)النساء، وركز على قوله تعالى “مما قل منه أو كثر” وقوله سبحانه “نصيبا مفروضا” وبين خطورة قطع ميراث الناس، وأنه من كبائر الذنوب فقد عد ابن القيم رحمه الله في كتابه “إعلام الموقعين” فعل ذلك من كبائر الذنوب، حيث قال ما نصه: ومن الكبائر ترك الصلاة، ثم ذكر أمورا بعدها إلى أن قال: “وقطيعة الرحم والجور في الوصية، وحرمان الوارث حقه من الميراث.”

وأن الحرمان من الميراث من أكل أموال الناس بالباطل، وأن التركات مما تولى الله سبحانه وتعالى قسمتها بنفسه ولم يكلها إلى نبي مرسل ولا ملك مقرب وختمها بقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ {النساء: 13-14} ونبه إلى الرضا المعتبر في ذلك وهو تمكين الناس من حقوقهم ليكونوا بعد ذلك أحرارا في التصرف أو التنازل أو التصدق، والحذر مما ينزع من الناس بسيف الحياء.

ثم استغل محمد الموقف ليطلع العائلة على ما يخصها من أحكام الإرث في نازلتها، وبين أن التركة يبدأ فيها بإخراج مؤونة التجهيز وليس منها ما يكون من إطعام الناس أيام العزاء، ثم إخراج الديون والوصايا فتم الحسم في إخراج ديون والدهم، ثم بين في حالهم تقسيم الباقي على ثلاث زوجات وعشرة أبناء وخمس بنات، فكان الثمن نصيب الزوجات يقتسمنه والباقي للذكر مثل حظ الانثيين.

ومادام في الورثة صغار وأيتام اقترح عليهم ترك العقار الذي هو في نفس الآن سكناهم، إلى أن يكبروا ويبلغوا سن الرشد حماية لهم من التشرد والضياع، ثم اتفقوا على تدبير المنافع وبعض الموارد المستمرة كالكراء، حيث حدد نصيب كل واحد ليعرف البنات المتزوجات حقهن، واتفق على ترك الأثاث في ملك الجميع، وتمت كتابة عقد عائلي وقعه كل من يصلح للتوقيع حتى يكون مرجعا عند النسيان أو الاختلاف، وأما أغراض الميت الشخصية فوزعت بحسب القسمة الشرعية وتم الاجتهاد في التعديل والتقريب بين قيمة الأغراض، واعتمدت القرعة بكتابة أسماء جميع الورثة صغارا وكبارا، ثم وضعت كل ورقة مخفية الإسم على كل كومة من الأغراض، وأخذ كل نصيبه، فتنازل بعضهم لبعض وتبادل من يريد التبادل، وكان فرح الصغار أشد قبل الكبار بإشراكهم في الأمر وبحيازتهم لأمور رمزية تذكرهم بوالدهم.

فعم الجميع ارتياح كبير، وأحسوا بنعمة الشرع وإقامة الدين في هذا الأمر النازل، وكيف يدفع كثيرا من الشرور والآفات عن التجمع العائلي، ويحصن من التدابر وقطع الرحم، فالمال مال الله قل أو كثر، وموزعه الله، لا يغضب أحد من قسمته، ولو أفسح الناس لشرع الله في مختلف أحوالهم وإداراتهم ومؤسساتهم ومحاكمهم للمسوا رحمات تتنزل عليهم، ولحلت كثير من مشكلاتهم، ولتذوقوا قول ربهم ” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ”.

‫تعليقات الزوار

12
  • Abdelhay Nej
    الجمعة 3 فبراير 2012 - 11:52

    يجب أن تقع ثورة في العائلات التي فيها الظالمون الذين قد نجدهم يبكون إن فاتتهم صلاة الصبح في المسجد ولكنهم لا يترددون في أكل حقوق إخوانهم أو أخواتهم بكل وقاحة. والذي يجب أن يعلمه المظلومون في الإرث وخصوصا الإناث منهم أنهم سيواجهون حصارا اجتماعيا خطيرا قد يؤدي للإصابة بأمراض نفسية أقلها الاكتئاب.

  • ali
    الجمعة 3 فبراير 2012 - 12:15

    جزاك الله خيرا
    فعلا أغلب المشاكل التي تتخبط فيها معظم العائلات سببها عدم الإحتكام الى شرع الله في الإرث

  • أبو فاطمة
    الجمعة 3 فبراير 2012 - 12:54

    لسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

    قـال النبي صلى الله عليه وسلم:

    (( إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة)) الحديث[رواه أبو داود]. .

    من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال : (( فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها ))

  • مغربي
    الجمعة 3 فبراير 2012 - 16:35

    بارك الله في الأستاذ الذي تطرق لهذا الموضوع الشائك, و الذي يترك مشاكل عديدة قد تصل الى قطع الأرحام و الى العداوة بين الإخوة الأشقاء.
    و شخصيا أعتقد أن "الطمع" الذي يصيب بعض الورثة خصوصا الذكور, يرجع الى الجهل بكتاب الله تعالى الذي جعل للنساء و للوالدين بل و حتى للأطفال الصغار نصيبا مفروضا مما تركه مورثهم, فكيف يخالف هؤلاء شريعة الله و قسمته العادلة التي قسمها لعباده.

  • hamdan
    الجمعة 3 فبراير 2012 - 22:32

    سلام الله
    إن هذا الموضوع يعد من أشوك المسائل التي لم تكد أن تخل منها عائلة٠ هل نحن فعلا نطبق ما وصانا به سبحانه في الميراث؟
    بكل تأكيد لا
    هل مفهوم العدة كما هو متعامل به، وكما جاء الكلام فيه داخل هذا المقال٠ أقول لا ، إنما العدة هي تلك المدّة التي يمكن أن يظهر فيها الحمل، والغاية و القصد منها هو إباحة التزوج من بعد عدة يعتدونها٠ أما عدم التزين و عدم الخروج فهذه بدعة ابتدعوها آبائنا الأولون ما أنزل الله بها من سلطان٠
    أما عن القسمة، أهملنا الوصية التي هي فريضة من الله، تم حصرنا القسمة في المعادلة للذكر مثل حظ الأنثيين، ثم أعطيناه مفهوما ذكوريا باتريياركيا، فصددنا عن سبيل الله٠ فأتبعنا الفقه الذي لم يحسن حتى الفرق بين فوقَ و أكثرَ، والذي رادف كطبعه بينهما٠
    اللهم أرجعنا إلى دينك يارب٠

  • cherif mohamed
    السبت 4 فبراير 2012 - 10:37

    وما العيب إذا ما تم تعديل قانون الميراث لكي تتساوى البنت مع أخوها ، أليس التساوي عدلا ؟ إن البنت في حاجة ماسة إلى قسمة متساوية لكي نقلل من تشرد النساء بعد وفاة الأب ، أما أن يدعي البعض أن نفقتها على أخوها فذلك كذب وواقعنا يشهد على ذلك ؛ ما دمنا حرمنا الرق وقطع يد السارق والجلد ووو ، ما علينا إلا إنصاف المرأة وإعطائها مثل أخيها إن كنا نؤمن بأن القناعة زاد لايفنى .ا لدوام لله وإنصاف المرأة أو لنقل نتنازل لها عن حقنا ونتساوى معها في الميراث بقانون حكومي أو استفتاء شعبي لأنها في كل الأحوال أمنا وأختنا وابنتنا والله الموفق

  • mjid
    السبت 4 فبراير 2012 - 13:11

    يجب أن تحدت تورة في مجال الارت ،الحياة تبدلت عما كان في عهد نزول الاسلام ،يجب أن تكون القسمه في الارت عادلة بين الرجال والنساء ،ومتساوية لان تمن الأشياء هو نفسه بالنسبة للرجال والنساء .

  • مولاي عمر بن حماد
    الأحد 5 فبراير 2012 - 01:35

    في البداية رحم الله والد اخينا الدكتور محمد بولوز وبارك الله في والدته وكل العائلة الكريمة، فمحمد المتحدث عنه في المقال هو محمد بولوز كاتب المقال إنه حدثنا عن تجربته مع فراق الوالد وتدبير امر التركة وعسى أن يقتدي به كل ذي بصيرة ابتلي بما ابتلي به أخونا محمد ، وما تزال امتنا بخير ما التزمت أحكام الشرع في أمورها الخاصة والعامة وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"

  • أبو زيد السروجي
    الأحد 5 فبراير 2012 - 02:25

    بارك الله في الدكتور محمد و نسأل الله أن يهدينا إلى اتباع سبيله الذي ارتضاه لنا منجاةً من كل ضنك.
    وردت في هذا المقال عبارة "فإما يحرموها بالمرة أو يلقوا إليها ببعض الفتاة"، فيَفهم من قرأ الجملة بمعزل عن السياق أنه قد سبق الحديث عن فتاة ما وأنهم يمزقونها و يلقون ببعضها إلى شريكة لهم. بينما يدل السياق أن الكاتب يقصد أنهم يلقون إليها بجزء هزيل و يهضمون حقها. وعليه يكون الصواب أن يقول "أو يلقوا إليها ببعض الفتات" بضم الفاء و بسط التاء. و الفتات هو ما تكسر و تناثر من الأشياء ففقد بذلك قيمته، و هو مصير الشيء إذا تفتت. و الفتات جمع تكسير مفرده فتاتة. و لا تقلب التاء عند السكون فلا نقول فتاه بضم الفاء.
    و أغلب الظن أنه خطأ عند الرقن فلا يُتهم الكاتب في لغته ولكن وجب التقويم.
    و السلام

  • حسن المغربي
    الأحد 5 فبراير 2012 - 04:36

    الان وجد بولوز مكانه الحقيقي سرد القصص القصيرة هذا مجال يليق بك اما تتحدث عن جماعة في حجم العدل و الاحسان و عن رسالتها الى اخوانك في العدالة و التنمية و الاصلاح فهذا شان اخر تابع جزاك الله خيرا واخيرا وجدت تخصصك البعيد عن النقد انشري يا هيسبريس

  • صادق
    الأحد 5 فبراير 2012 - 19:13

    أسي بولوز الناس على دين حكوماتهم خاصة اذا كان هؤلاء الناس يعانون من الجهل والتهميش والفقر.

  • محمد بولوز
    الإثنين 6 فبراير 2012 - 10:26

    بداية أشكر كل من تفضل بقراءة المقال، وزيادة شكر لمن تفضل بالتعليق عليه، وأشكر أخي وصديقي الدكتور مولاي عمر بنحماد على كلماته اللطيفة وتعليقه المفيد وعواطفه النبيلة، وأشكر الأخ الذي نبه إلى تقويم "فتات" وأما الإخوة الذين يرون تسوية الميراث بين البنين والبنات، فأقول بأن الله عز وجل هو رب الجميع وهو سبحانه حكيم عليم وما قاله هو الخير والعدل وعين الصواب أدركنا حكمة ذلك أو غابت عنا، وليس تخلينا عن أحكام الله في السرقة والزنا وغيرهما مبررا لمزيد من الانسلاخ عن أحكام شريعتنا،بل يمكن أن يكون منطلقا لإقامة الدين في المساحات التي لم يقم فيها بعد، فالآية واضحة "للذكر مثل حظ الانثيين"، والناس مأمورون بالإنفاق على بناتهم وأخواتهم الفقيرات غير المتزوجات وليس عدم الإنفاق مبررا لتغيير حكم الله، وأما قول حسن الغربي فيفهم منه استصغار شأن الميراث الذي نتحدث عنه والحال أنه ليس في الشريعة خفيف فكل ما يستطيع العبد إقامته فهو مأمور به من السواك إلى الخلافة والجهاد، والانحراف ينبغي أن يواجه سواء كان في وضوء أو أسرة أو جماعة أو دولة، والله الموفق للصواب والهادي إلى سواء السبيل.

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12

الأمطار تنعش الفلاحة