أحلام فترة الحجر

أحلام فترة الحجر
الإثنين 18 ماي 2020 - 02:25

كان حلمي منذ مدة ليست بالهينة أن أختلي بنفسي ثلاثين أو أربعين يوما في مكان قصي، بعيدا عن روتين الجري اليومي وراء عادات الاستهلاك وبين دوامات الضجيج وأبواق السيارات وزحمة الناس والاختناق في الشوارع بفعل التلوث والاحتباس الحراري وتقلبات الفصول المدهشة والمخيفة في الآن نفسه. كان حلمي أيضا الابتعاد عن إدمان الآلات وسطوة التكنولوجيا واختراقها الهائل لحياتنا المعاصرة.

مضت أيام قليلة من مارس 2020، وفوجئت مثل الملايين من حولي بالإعلان المفاجئ عن حالة الطوارئ احترازا من تفشي الوباء القاتل. في البداية، شعرت بهول الصدمة. يا إلهي كيف لي أن أحتجز في البيت ثلاثين يوما قابلة للتمديد وأنا الرجل الحر الطليق المولع بالحركة والمقاهي والأسفار؟

إنه أمر شديد الصعوبة ولم أجربه في حياتي مرة واحدة، لكن هذه المرة من واجبي أن أنسجم مع أحلامي القديمة وأكون صادقا مع نفسي. لماذا في نظركم؟ دعوني أعترف أن هذه فرصة ثمينة جاد بها القدر للاختلاء بالنفس وإعادة تنظيم الوقت وترتيب الأولويات وتخلية الذهن من التوتر، وتجلية الروح مما علق بها من صراعات وهموم الحياة اليومية.

خلال الأيام الأولى للحجر العالمي، كانت وحشية أخبار موت الآلاف من حاملي الفيروس القاتل في العديد من الدول أشد كثيرا من وحشية الوباء نفسه. هذا الطاعون الجديد أربك جميع الحسابات وأعاد توزيع أوراق الكوتشينة البشرية على هواه… ها هو يطيح باقتصادات أعتى الدول وأقواها ويستعبد الأحرار فارضا عليهم المكوث في البيت، ويعبث بسعر البترول، ويكون سببا مباشرا في تسرب اليأس إلى أرواح الملايين، جراء الجمود وفقدان موارد العيش والخوف من شبح الموت المحدق بنا هنا وهناك.

إن إصرار البعض على اعتبار الطاعون الجديد حدثا عابرا في التاريخ المعاصر أكذوبة القرن، وإصرار البعض الآخر على كسر الحجر المنزلي بالخروج ومخالطة الأغيار تحت مسمى الحرية الفردية… إن ذلك يعادل مهمة من ينتحر بإرغام نفسه على اغتراف الموت من دلو يفيض بالسموم.

ومرت الأسابيع الأربعة الأولى من مسلسل الكابوس المستجد، وقررت السلطات تمديد فترة الحجر الصحي ثلاثين يوما إضافية. وردد أكثر المتحمسين لهذا القرار غير المستغرب في ظل تفشي الجائحة: خيرا إن شاء الله. لم نبرأ وحدنا من آلام الهرولة في الشوارع ليل نهار جريا وراء السراب ومظاهر الاستهلاك الفج والمادية الطاحنة، لكن ثقب الأوزون بنفسه التأمت جروحه وبدأ يتماثل للشفاء، ناهيك عن ملايين الحيوانات البرية التي نعمت بالحرية والراحة، بالتوازي مع احتجاز أكثر من نصف سكان الأرض في المنازل!

أوه! أيها الطاعون الجديد، أيها المارد، أيها الشرير القاتل، الخفي عن الأنظار، العابر للقارات، الفتاك، القاهر لاقتصادات وحكومات أعتى الإمبراطوريات، يا من يحلق فوق فوهة الجحيم… كيف نجحت في إصابة الكوكب الأرضي بالشلل؟ كيف أنهيت المصافحة وتبادل القبلات والعناق الفطري بين بني البشر؟ كيف ألزمتهم بالتباعد وتوخي الحذر، وكيف كممت الأفواه، ورميت بسهمك القاتل الملايين فاتكا بمئات الآلاف من الأرواح؟ ما الذي فعله هذا العالم المسكين حتى يسلط عليه طاعون مدمر مثلك؟

أيها الوباء القاتل، إنك من مسرحيات الرعب وقصتك مضمخة بدماء الحزن، لكنها تثير الإلهام في نفوسنا وتمنحنا جرعة مكثفة من الأمل.. نعم، الأمل في عالم أفضل تعطى فيه الأولوية للصحة والبحث العلمي والتعاون الدولي لمكافحة النوازل والجوائح.

إن قصتك لم تنته بعد، ولكنها البلسم الشافي من الأوهام.. أوهام العظمة والجبروت البشري، فالعظمة فقط للخالق، ملك الملوك ورب الأرباب. إن قصتك طويلة يئن لها الملايين من الألم، لكن الأمل بين ثناياها يتوهج، وهي تجعلنا نقول: “البشرية مثخنة بالجراح، لكن الفرج قريب، لأن اليسر يولد حتما من رحم العسر، فلماذا نركن لليأس؟ أملنا لا حدود له في معجزة ربانية تطهر من الآثام وجه الأرض”.

فرج الله قريب، فلماذا نركن لليأس؟ هذا هو السؤال الحاسم الذي سنطرحه على أنفسنا في هذا الزمن العجيب.. زمن التغريدات العاصفة لملايين الخاملين على فيسبوك وتويتر. هؤلاء الذين لا يتحركون من أماكنهم أشخاص عوضوا الفعل بالكتابة، والكتابة بنشر الصور ومشاركة الشائعات عوض التفكير المتأني قبل التواصل مع الآخرين.

فرج الله قريب، ولا مجال لليأس، فقصة الطاعون الجديد (التي لم تنته فصولها بعد)، هي في الوقت ذاته قصة أكبر كارثة صحية ونكسة اجتماعية واقتصادية يعرفها التاريخ المعاصر. لكن بطولة بني البشر تكمن في تقبل ما يحصل والمحبة الحكيمة لما هو كائن، مع التحلي بالأمل في مستقبل أفضل. إن الفعل البطولي لبني البشر يكون بطوليا بالفعل عندما يجعلنا نرى إمكانية وجود عالم أفضل في غياهب الظلام، وانطلاقا من حالة وجودية يكاد يلوح فيها كل شيء خرابا في خراب..

* خبير التواصل والتنمية الذاتية

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 2

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 1

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 2

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز