الأبعاد التنموية للتدين

الأبعاد التنموية للتدين
الأربعاء 20 ماي 2020 - 15:47

ارتبط التدين بالإنسان منذ وجوده، فلا تخلو حضارة بشرية، من أشكال تدينية وممارسات تعبدية. كما أن تاريخ الإنسان هو تاريخ تنموي، تنمية مادية تتمثل في العمران والوسائل المسخرة لمعيشه. وتنمية معنوية تهم الارتقاء الفكري والتدبير الاجتماعي، لحياة الفرد والجماعة. وهي عملية لا تتم إلا بمجهود فكري وبدني، وبشكل تضامني وتعاوني، تساهم في إنضاجه وإذكاء جذوته، المحركات الإيمانية والقيمية، قيم طالما مجدت وثمنت الجد والاجتهاد، وذمت الخمول والتواكل، قيم تحث على النظر في سنن الكون ونواميسه، المحددة لقوانين العمران وأخلاقيات الاستخلاف.

مكانة الدين والتدين في المنظومة التنموية:

إن الفرق بين الدين والتدين، هو عينه الفرق بين النظرية والتطبيق. “الدين الذي هو التعاليم الإلهية التي خوطب بها الإنسان على وجه التكليف. والتدين هو الكسب الإنساني في الاستجابة لتلك التعاليم، وتكييف الحياة بحسبها في التصور والسلوك” (عبد المجيد النجار). فالهدي الرباني المبثوث في كتابه وسنة نبيه، لا تكتسب قيمته ويتحقق المقصد من تنزيله، إلا بتجسيده في سلوكيات الناس، بعد أن شكلت تصوراتهم للكون والحياة، وبينت الأصل والمصير. فإذا لم يكن للتعاليم الدينية حضور في بناء الأفكار وتشييد التصورات، وموجهة للسلوكيات، وتحكيمها في شؤون الحياة، فإنها تتحول إلى برنامج مؤجل التنفيذ، أُعد للاستهلاك اللفظي في المناظرات الفقهية والسجالات الكلامية. فليس من التدين في شيء “مضغ كلمات فارغة، أو مجادلات فقهية، أو خصومات تاريخية” (محمد الغزالي).

فدور الدين يتمثل في تزكية النفوس، وتنمية العقول، وذلك عندما تحقق العبادة هدفها، كحصول التقوى من الصيام، والانتهاء عن الفحشاء والمنكر بعد الصلاة… في ميادين الحياة وساحات الاجتماع، عند مخالطة الناس وأداء الخدمات والواجبات الاجتماعية. فالانزواء في الصوامع والنأي عن العمل، والإضراب عن خوض غمار الإبداع في إسعاد الخلق، هو انحراف في مسار التدين، وابتعاد عن مراد الشرع، الذي ثمن اجتهاد المجتهد المصيب والمخطئ. وهذا كاف لدفع المؤمنين للتشمير عن سواعد الجد، واستنهاض الفكر، لخلق الثروة، وتعبئة الجماهير لذلك، لنيل حظهم منها بالعدل المقرر دينا وعقلا.

التنمية الفكرية مدخل التدين الفاعل:

رسخ الأنبياء والرسل رصيدا ثمينا من حياتهم الدعوية لتأسيس عقيدة سليمة، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل، فلقد أنفق ثلاثة عشر سنة من عمر الدعوة يرسخ العقيدة، ويبني التصورات ويشيد الأفكار، ويحث المسلمين على التأمل في الكون والحياة لاكتشاف القوانين التي تحكمه، لإنتاج سلوك سليم، وبناء عقلية علمية تستثمر القوانين المودعة في الكون، التي أرشدت إليها الكثير من الآيات، للدفع بالقطار التنموي على هدي من الوحي والعقل، فـ”الطبيعة هي واقع الإنسان، العقل هو وعاء فكره، والوحي الذي هو مصدر حقيقتها” (عبد الإله بن مصباح).

فقد جعل الإسلام تنمية العقل مطلبا شرعيا يرتقي إلى الواجب. فلا نفع يرجى من تلاوة القرآن، إن يصاحبه تدبر آياته المكتوبة، وما يوجه إليه من آيات منظورة. والاقتباس من مشكاة القصص القرآنية التي روت بأمانة، تساؤلات الأنبياء، ومغامرات بعضهم الفكرية، التي لا تركن إلى حقيقة حتى تنقضها، إلى أن يثبتها الوحي. وقد أثمر هذا الاستنهاض الفكري في الجيل الأول، القريب من عهد النبوة، الذين لم يكن التدين عائقا يحول بينهم وبين ارتياد الآفاق المعرفية في النفس والحياة، والسماح للعقل المسلح بالوحي بالانطلاق إلى أبعد مدى، فكانت النتائج التي يعلمها الجميع ويتحدث عنها بفخر واعتزاز. وإن لاقى بعضهم في سبيلها، محنا وابتلاءات مرحلية، سرعان ما أعاد الزمن لهم الاعتبار الذي يستحقونه، وجميعهم كانوا أعلاما في العلوم الدينية، كما في العلوم العقلية.

و”إن العقل الإسلامي، لو التزم الخط القرآني المشغول بالملاحظة والتجارب، المهتم بالتنقيب والحقائق، الجواب في آفاق الأرض والسماء، لكان له شأن آخر. ولقدم نجدات صادقة مثمرة للمنهج العلمي، الكوني الباحث في المادة لافي ما وراءها» (محمد الغزالي). فليس المطلوب التفنن في البلاغة والخطابة، ولي النصوص للتفوق على الخصوم في مسامرات ومناظرات كلامية، تذكر بتلك التي ابتدعها السفسطائيون في ساحات أثينا. بل المطلوب إعمال العقل بشكل خلاق لإجاد حل لمشاكل الناس الدنيوية، والتدبير الأمثل لمعاشهم اليومي، بما يرضي الخالق ويسعد المخلوق. فـ “الفكر والحياة صنوان” (طه جابر علواني).

التدين استثمار في الدنيا والآخرة:

الأمر بالسير في الأرض واستثمار مواردها، لتحقيق الكفاف والعفاف، ملمح بارز في النسق القرآني. فالنزوع إلى مدح العمل وذم الكسل، من العلامات البارزة في التدين الإسلامي، الذي تخرج من مدرسته، رجال “فرسان بالنهار، رهبان بالليل”. فهم تلامذة أستاذهم، الذي يعطي المثل من نفسه في كسب قوته، ومساعدة أهله في إعداده. وكان يقدم الدروس العملية في دفع الناس إلى العمل والتكسب، والسعي إلى تحصيل الثروة. حصل هذا عندما أمر أحدهم بالذهاب إلى الغابة للاحتطاب، مستثمرا ما باع له من أثاث منزله المتواضع، تذكير أصحابه برعيه الغنم على قراريط أهل مكة، الثناء على اليد العليا وذم السفلى، مدح ترك العيال أغنياء… وقد سار على نهجه صحابته من بعده، فهذا عمر بن الخطاب، يثني على عبادة الأخ العامل على الملازم للمسجد…. فتحقيق مقصد العبودية، لا يتناقض مع السعي في الأرض، فالعبادة لا تنحصر في أعمال وفضاءات محدودة، فمجالها أوسع من أن ينحصر في زمن ومكان، بل مجالها الحياة بامتداداتها. فالعديد من الديانات كما لاحظ ماكس فيبر، تدفع أتباعها إلى حب العمل، وجمع الثروة وتحقيق النجاح الفردي. فالغرض الذي من أجله أنزل القرآن، كما يرى ابن رشد: “ليس تعليم الناس، ولكن تحسين أحوالهم، فليس المطلوب الطاعة والاستقامة واتباع الطريق السوي، وهذه غاية الشارع الذي يعلم أن سعادة الإنسان، لا تتم إلا بالمعيشة الاجتماعية”.

والمسلم وهو يسعى إلى تحسين وضعه الاجتماعي، والنجاح الفردي، مطالب باستحضار مسؤوليته اتجاه ما استرعي، وتجاه شركائه في الإنسانية، ومحيطه البيئي وما يزخر به من ثروات حيوانية ونباتية. فالسعادة الفردية لا تبرر الدوس على مقومات البيئة وتعطيل استدامتها. فنحن مأمورون بالأخذ منها ما يسد حاجتنا بمواردها الأكثر توفرا، وتعويض أقلها تواجدا، تحقيقا للإصلاح، وتجنبا للإفساد، وتفعيلا لمبدأ: “غرسوا فأكلنا، ونغرس فيأكلون”، ولو كانت الساعة على وشك القيام.

‫تعليقات الزوار

3
  • الجهل الإسلامي
    الأربعاء 20 ماي 2020 - 17:38

    آدن المتدين فاعل تنموي،و المسجد مقاولة ،يجب على الوزارة القيمة أن تعطيه شهادة العمل لكل من يواظب على الصلاة من الفجر إلى الوتر ، و أن ينخرط المتدين في إحدى التعاضضيات المهنية،بالأمس سمعنا عن خزعبلات الاسلاميات ،متل فقه السفر و فقه الاكل،فقه الحوارات ،فقه السياسة ،، أي أسلمة الوجود الإنساني، وهي مقاربة اكتر من دوغمائية.انها مذهبية مغلقة و مرض نفساني، إنها مغالاة و إغراق في التطرف، نزوع داعشي ،نجده متلا في ممارسات الإسلاميين ألميكيافيلية بتمارة ،الفضيلة و الفطرة ليستا في حاجة إلى دين ،أنهما سلوكيات و ثقافة قبليتان، أي سابقتين على اي دين ،قد نتفهم وجود خوارج في المغرب، و لكن تغيير الإسلام بمساجده إلى شركات مجهولة الاسم، هده بركات النيوليبرالية ، لا ينقصكم الا الإدماج في البورصة،المعروف عن الإسلاميين ثقافة الريع القروسطية، متلا تعويضات و تقاعد و سيارات الدولة لاهلهم. ادهب الى غزوات عفوا استثمارات جهة الجنوب الشرقي !!!! فكيف ومتى ترقى المسجد من اقطاغ و هدية و هبة سلطانية إلى شركة عامة و خاصة ؟

  • دوستويفسكي
    الأربعاء 20 ماي 2020 - 22:44

    البعض اصبح يحتفظ برأيه لنفسه خوفاً من فقدان من يحبهم، بسبب عقليتهم المتحجرة المقصية للرأي الآخر.

  • المرسي
    الخميس 21 ماي 2020 - 08:32

    فدور الدين يتمثل في تزكية النفوس، وتنمية العقول، وذلك عندما تحقق العبادة "هدفها، كحصول التقوى من الصيام، والانتهاء عن الفحشاء والمنكر بعد الصلاة… في ميادين الحياة وساحات الاجتماع، عند مخالطة الناس وأداء الخدمات والواجبات الاجتماعية…"
    بارك الله فيكم
    فالإلتزام بالقيم الفاضلة التي يؤكد عليها دين الله ترفع من كفاءة الإنسان وترتب أولوياته بما يحقق له سعادة الدارين

    إنها مدخل جيد للتنمية البشرية والمستدامة التي تحتاجها دولنا

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات