دور القضاء في حماية النظام العام الصحي

دور القضاء في حماية النظام العام الصحي
السبت 30 ماي 2020 - 23:25

مقدمة

يعيش العالم اليوم على وقع انتشار وباء قاتل، صنفته منظمة الصحة العالمية كجائحة. ظهر فيروس كورونا في وهان الصينية واستمر بالانتشار في كل أرجاء العالم ليحصد أرواح العديد ويغير “الستاتيكوstatu quo ” بل ويزعزع النظام العام للدول بأكمله ونظامها العام الصحي بالخصوص.

يعتبر النظام العام من المفاهيم القانونية التي يصعب إعطاء تعريف دقيق لها. ويبقى التعريف الذي أفرزه القانون والواقع لهذا المفهوم وأجمع عليه أغلب فقهاء القانون، هو اعتباره “مجموعة من القواعد الإلزامية التي تمس بنظام الوطن والمجتمع، بالاقتصاد، بالآداب، بالصحة، بالأمن، بالسلم العام وبالحقوق والحريات الأساسية لكل فرد داخله”. بمعنى آخر، هو مفهوم لحياة مجتمعية تتميز بالسلم الاجتماعي والنظام والأمن العام والسكينة والآداب.

أما النظام العام الصحي أو الأمن الصحي، كأحد عناصر النظام العام وأحد مكونات الأمن الإنساني الشامل، فهو ذلك النظام الذي تسعى السلطة العمومية إلى حفظه عن طريق وضع سياسة متعلقة بالصحة العمومية، وسن إجراءات وقوانين تهدف إلى منع انتشار الأمراض المعدية والأوبئة عامة.

فالحق في الصحة أو حق الرعاية الصحية يعد من أبرز الحقوق الأساسية المكرسة دستورا وقانونا، سواء على الصعيد الوطني أو الدولي. ويتجسد هذا الحق في جملة من الخدمات، على رأسها: إقامة هياكل صحية، توفير الأدوية ومختلف المنتجات الطبية والصحية، تقديم مساعدات طبية وتمريضية، وحماية الصحة العمومية سواء بشكل قبلي وقائي أو بعدي علاجي. فإذا كانت الصحة العمومية إحدى أبرز خدمات الرعاية الصحية إضافة إلى كونها عنصرا من عناصر الثلاثية التقليدية للنظام العام بمفهومه الإداري (أمن- صحة- سكينة عمومية)، وكذا تقديمها لخدمات باعتبارها حقا كرسه القانون، فإنها تدفع أحيانا إلى عملية الضبط الإداري والحد من ممارسة بعض الحقوق والحريات قصد حفظ النظام العام كما يحدث خلال إعلان حالة الطوارئ الصحية، التي تعيش تحت ظلها جل دول العالم اليوم.

يرتبط إعلان حالة الطوارئ بوجود خطر يهدد أمن الدولة واستقرارها، حيث يمكن للحكومة تحت ظل هذا الإعلان أن توقف بعض الأنشطة أو أن تحد من بعض الحقوق والحريات التي من شأنها المساهمة في تفاقم الخطر ومنه زعزعة الأمن والسلم العامين. أما حالة الطوارئ الصحية، كما أعلنت عليها المملكة المغربية وكما نظمها مرسوم بقانون الصادر 23مارس2020، فتعلن كلما كانت حياة الأشخاص وسلامتهم مهددة من جراء انتشار أمراض معدية أو وبائية واقتضت الضرورة اتخاذ تدابير استعجالية لحمايتهم من هذه الأمراض.

تتدخل السلط التشريعية والتنفيذية والقضائية في حماية الأمن الصحي العام خلال فترة الطوارئ الصحية، كل في مجال اختصاصها. فإذا كانت السلطتين التشريعية والتنفيذية تساهمان من خلال تشريع قوانين واتخاذ تدابير وقائية من شأنها الحد من انتشار الوباء، فكيف يساهم القضاء المغربي خلال هذه الوضعية الاستثنائية؟

التصميم:

المحور الأول: الإطار العام للنظام العام الصحي ودور القضاء في الحفاظ عليه.

الفقرة الأولى: القوانين الوطنية المؤطرة للصحة العمومية

الفقرة الثانية: دور القضاء في الحفاظ على النظام العام الصحي

المحور الثاني: جهود القضاء في الحفاظ على الأمن الصحي في ظل حالة الطوارئ الصحية.

الفقرة الأولى: قراءة في النصوص القانونية بخصوص حالة الطوارئ الصحية.

الفقرة الثانية: دور القضاء وجهوده في حماية الأمن العام الصحي بعد إعلان حالة الطوارئ الصحية.

المحور الأول: الإطار العام للنظام العام الصحي ودور القضاء في الحفاظ عليه.

تنبني الترسانة القانونية للأمن الصحي على أسس عامة وطنية وأخرى دولية. على المستوى الدولي، يجد الأمن الصحي أساسه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية المتعلقة بالصحة المصادق عليها من طرف الدولة المغربية، ولاسيما العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ودستور المنظمة العالمية للصحة التي تكرس الحق في الصحة. أما على المستوى الوطني، فقد كرس دستور 2011 الفصلين 20 و31 كأساس ينبني عليه الأمن الصحي، حيث ينص الفصل 20 المذكور على أن ” الحق في الحياة هو أول الحقوق لكل إنسان. ويحمي القانون هذا الحق”، كما ينص الفصل 31 على أنه ” تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في: العلاج والعناية الصحية…”.

أفرزت هذه المبادئ العامة المؤطرة للأمن الصحي مجموعة من القوانين الخاصة المنظمة لمختلف المجالات ذات العلاقة بالصحة العمومية.

الفقرة الأولى: القوانين الوطنية المؤطرة للصحة العمومية

أولا: القانون إطار رقم 09.34 المتعلق بالمنظومة الصحية وعرض العلاجات.

يؤطر هذا القانون مجموعة من القواعد المنظمة لمجال الصحة العمومية، إذ:

يهدف إلى تحديد المبادئ الأساسية لعمل الدولة في مجال الصحة وإلى تنظيم المنظومة الصحية، وذلك اعتبارا بأن الحق في الحفاظ على الصحة مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع. (المادة الأولى من القانون).

يحدد مسؤولية الدولة في الحفاظ على الصحة العمومية ويعتبر التضامن وإشراك الدولة للساكنة في مسؤولية الوقاية والمحافظة على الصحة والمعافاة من المرض مبداً من المبادئ الأساسية التي تقوم عليها المنظومة الصحية الوطنية الواردة في المادة 2 من القانون الإطار، وقد ورد في المادة 4 من نفس القانون أن الوقاية الصحية ترمي على الخصوص إلى:

رصد ومكافحة الأخطار المهددة للصحة والعوامل التي من شأنها الأضرار بها؛

مكافحة انتشار الأمراض المتنقلة عبر الحدود وذلك طبقا للوائح الصحية الدولية؛

القيام بأعمال احترازية لحفظ الصحة ومكافحة الأمراض؛

تنمية الأعمال المتعلقة بالإعلام والتربية والتواصل في مجال الصحة؛

تنمية أعمال وآليات اليقظة والأمن الصحي.

يضمن حقوق وواجبات المواطن، حيث نصت المادة 7 من القانون الإطار على مجموعة من الحقوق من بينها وجوب اتخاذ الدولة للتدابير الضرورية لتفعيل التزاماتها في مجال الصحة، ولا سيما لتحديد الاستراتيجيات المتعلقة ب:

إعلام الساكنة بالمخاطر المرتبطة بالصحة، والسلوكات والتدابير الاحتياطية التي يتعين نهجها للوقاية منها؛

الحماية الصحية والولوج إلى الخدمات الصحية الملائمة المتوفرة؛

احترام الشخص وسلامة جسده وحفظ كرامته وخصوصيته؛

احترام حق المريض في المعلومة المتعلقة بمرضه؛

…إلخ

كما أوجبت المادة 8 من نفس القانون على كل شخص مراعاة قواعد الحماية العامة للصحة التي سيتم سنها وفقا للمادة 7 أعلاه.

ثانيا: القوانين المتعلقة بحماية الصحة العمومية.

حدد المشرع مجموعة من القوانين المتعلقة بحماية الصحة العمومية، نذكر منها ما يلي:

القانون رقم 28.00 المتعلق بتدبير النفايات والتخلص منها، القانون رقم 25.08 القاضي بإحداث المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية، القانون رقم 13.03 المتعلق بمكافحة تلوث الهواء، القانون رقم 11.03 المتعلق بحماية واستصلاح البيئة، والقانون رقم 10.95 المتعلق بالماء .

فالتشريع المغربي المتعلق بالماء يكتسي شكل مجموعة من النصوص القانونية المبعثرة التي تم تحيينها في مراحل وتواريخ مختلفة، إلا أن القانون 95.10 أتلى جمع كل تلك التشريعات وتعديلها وتتميمها ليصبح لدينا قانون الماء. لقد كان من بين أهداف هذا القانون حماية صحة الإنسان وذلك بواسطة تقنين استغلال وتوزيع وبيع المياه المخصصة للاستعمال الغذائي وتقنين الأنشطة التي من شأنها أن تلوث الموارد المائية.

علاوة على القوانين المذكورة سابقا، نجد الآتي: القانون رقم 30.05 المتعلق بنقل البضائع الخطرة عبر الطرق، القانون رقم 49.99 المتعلق بالوقاية الصحية لتربية الطيور الداجنة وبمراقبة إنتاج وتسويق منتوجاتها، القانون رقم 77.15 المتعلق بالأكياس من مادة البلاستيك-منع الصنع والاستيراد والتصدير والتسويق والاستعمال، القانون رقم 15.91 المتعلق بمنع التدخين والإشهار والدعاية للتبغ في بعض الأماكن، ظهير شريف رقم 1.59.380 في الزجر عن الجرائم لماسة بصحة الأمة، ثم مرسوم ملكي رقم 554.65 بتاريخ 17 ربيع الأول 1387 (26 يونيه 1967) بمثابة قانون يتعلق بوجوب التصريح ببعض الأمراض واتخاذ تدابير وقائية للقضاء على هذه الأمراض. يعتبر هذا الأخير بمثابة النص القانوني الذي كانت تتوفر عليه المملكة المغربية فيما يخص تنظيم إجراءات إعلان الحجر الصحي، حيث يتضمن عقوبات زجرية في حق مخالفي أحكامه، والمتمثلة في غرامة أقصاها 2400 درهم وعقوبة حبسية من ستة أيام إلى شهرين. بيد أن هذا القانون تنحصر مقتضياته في إلزام أصحاب المهن الطبية، بالتصريح بالأمراض المعدية، للسلطة الإدارية المحلية والسلطة الطبية الإقليمية وفق إجراءات التصريح، التي يحددها قرار لوزير الصحة العمومية. كما أوجب على السلطة الطبية للعمالة، العمل على تطهير الأماكن المسكونة والأثاث المستعملة من طرف كل شخص مصاب ببعض الأمراض المعدية أو الوبائية، والموضوعة قائمتها بقرار لوزير الصحة العمومية.

إن هذا المرسوم إذن، يخاطب مهنيي الصحة فقط، ولا يوجد فيه ما ينص على أية عقوبة زجرية في حق المواطنين المخالفين لإجراءات الحجر الصحي.

ثالثا: التشريع المتعلق بالمنتجات الصحية.

يتضمن هذا التشريع مجموعة من القوانين.

أولا، القانون رقم 17.04 بمثابة مدونة الأدوية والصيدلة، والذي:

عرف الدواء والمواد التي تعتبر بمثابة أدوية وأنواع الأدوية والمنتجات الصيدلية، ونظم طريقة عرضها في السوق. كما تطرق إلى مزاولة الصيدلة، شروطها وأماكنها.

نص على مجموعة من المقتضيات الزجرية الرادعة لمخالفة مقتضياته، وتتنوع العقوبات بين الغرامة من 1000 إلى مليون (1000.000) درهم؛ الحبس ابتداء من 3 أشهر وقد يصل إلى عشر سنوات في بعض الحالات (العود)؛ المنع من مزاولة الصيدلة لمدة محددة (لا تزيد عن سنتين) أو بشكل نهائي في بعض الحالات؛

حدد العقوبات التأديبية الإدارية التي قد تصل إلى حد الإغلاق النهائي للصيدلة.

ثانيا، ظهير شريف بتاريخ 12 ربيع الثاني عام 1341 ( 02/01/1923 ) في جعل ضابط لاستجلاب المواد السامة والإتجار بها وإمساكها واستعمالها، والذي:

أورد ثلاثة جداول للمواد التي تعتبر سامة، والمعدة للتجارة أو الصناعة أو الفلاحة، وكذا المواد السامة المعدة للطب البشري أو البيطري، ومن ذلك على سبيل المثال المواد المعدة لقتل الحشرات (كالملح الزرنيخي الممزوج بالرصاص)؛ والمواد الحاوية لزرنيخ الرصاص أو الزئبق لغسل الحبوب وتحنيط الجثث وإتلاف الذباب…إلخ. ونظرا لخطورة تلك المواد على الصحة العمومية، فقد أخضعها القانون لمراقبة صارمة ونظم طريقة تخزينها وبيعها وأوجب الحصول على ترخيص الإدارة البلدية أو الحكومية، وذلك كله تحت طائلة الخضوع للعقوبات الزجرية الواردة فيه.

صحيح أن الظهير الشريف قام بالإحاطة بأهم المواد السامة التي قد تشكل خطرا آنذاك، إلا أن تطور أشكال وأنواع المواد السامة يستوجب اليوم مراجعة هذا القانون وإعادة صياغته وفق متطلبات العصر، وتكييف لغته لما يلائمها.

أخيرا، القانون رقم16.98 المتعلق بالتبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية وأخذها وزرعها، خاصة المواد 13، 14 و15 منه.

الفقرة الثانية: دور القضاء في الحفاظ على النظام العام الصحي

تعتبر دولة القانون، كنوع من أنواع الدولة، الدولة التي تتصرف بموجب القانون فقط كونه سمة من سماتها الجوهرية، ويكون فيها القضاء الضامن الوحيد لتطبيق القانون ومراقبة مدى احترامه. من خلاله، فحماية الصحة العامة كعنصر من عناصر النظام العام يدخل في صميم عمل القاضي بصفته حامي حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، طبقا لمقتضيات الفصل 117 من الدستور المغربي.

في هذا السياق، تصدر عن القضاء المغربي آلاف الأحكام سنويا في الميدان الزجري تطبيقا لمخالفة مقتضيات القوانين المشار إليها في الفقرة السابقة، والتي لن يسعف الوقت في التطرق إليها جميعها.

تطبيق القوانين المذكورة لا يخلو من إشكالات عملية على مستوى إكراهات تطبيق تلك القوانين وتكوين الأجهزة المكلفة بضبط الجرائم.

وعلى مستوى القضاء الإداري لم نتوصل إلى أي حكم قضى بإلغاء قرار إداري صادر عن جهة إدارية ويمس بالصحة العامة وهذا لا يعني عدم وجودها. إلا أنه للمثال فقط، نتطرق إلى نماذج أحكام في نفس الموضوع، سعى من خلالها مجلس الدولة الفرنسي إلى حماية النظام العام الصحي، وذلك بإصداره أحكاما ألغت بعض القرارات الإدارية التي كان من شأنها أن تضر بالصحة العامة للمواطنين.

إن من بين الأحكام العديدة الّتي صدرت من مجلس الدولة الفرنسي فيما يتعلّق بحماية الصحة العامة ما قضى به في الحكم بمشروعية القرار الذي أصدره العمدة وحظر بموجبه ممارسة الاستحمام ، وكذا منع مرور المراكب في إحدى البحيرات، وذلك بسبب تلوث مياهها ، وهو ما كان يشكل خطر على صحة المستحمين ، مما يبرر الحظر، محافظة على الصحة العامة.

كما قضى أيضا في حكم له صادر في 04 فبراير 1981، بمناسبة حدوث تلوث في المياه ” بما أنه يجب على رئيس البلدية المكلّف، بناء على أحكام المادتين: 96 و97 من قانون الإدارة البلدية بشرطة الصحة العامة وتنفيذ قرارات السلطة العليا المتعلّقة بالضبط الريفي، لضمان احترام وتطبيق التنظيم المانع لرمي المياه الوسخة غير المطهرة في المجاري المخصصة لمياه الأمطار على المستوى البلدي.

المحور الثاني: جهود القضاء في الحفاظ على الأمن الصحي في ظل حالة الطوارئ الصحية.

الفقرة الأولى: قراءة في النصوص القانونية بخصوص حالة الطوارئ الصحية.

يعرف المغرب على غرار معظم دول العالم انتشار وباء كورونا المستجد (كوفيد 19)، وفي ظل غياب حلول علاجية طبية من أدوية ولقاح ضد هذا الفيروس، أضحت التدابير الوقائية الوسيلة الأنجع، وهو ما حدا بمعظم الدول إلى سن تدابير تحد من حركة التنقل والتجمع وفرض الالتزام الحجر الصحي.

في هذا السياق، ولمواجهة خطورة انتشار هذا الفيروس والحد منه، عملت الحكومة المغربية على إعلان وفرض حالة الطوارئ الصحية وذلك بموجب المرسوم بقانون رقم 2.20.292 الصادر في 28 رجب 1441 الموافق ل 23 مارس 2020 المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها. حدد هذا المرسوم بقانون مبررات اللجوء إلى إعلان حالة الطوارئ الصحية والإجراءات المتبعة من أجل الإعلان عنها وتمديدها، كما أنه حدد صلاحيات الشرطة الإدارية التي تم تأهيل السلطات العمومية لاتخاذها في سبيل مواجهة تفشي الوباء، فضلا عن تجريمه للمخالفات المتعلقة بحالة الطوارئ وتحديد العقوبات المخصصة لها، وأخيرا تضمن مقتضى بوقف سريان الآجال المنصوص عليها في المقتضيات التشريعية والتنظيمية خلال فترة الطوارئ الصحية، على أساس استئناف احتسابها من اليوم الموالي لرفع حالة الطوارئ الصحية، مع مراعاة أجال الطعن بالاستئناف الخاصة بقضايا الأشخاص المتابعين في حالة اعتقال ومدد الوضع تحت الحراسة النظرية والاعتقال الاحتياطي.

تلت هذا المرسوم بقانون جملة من الآراء والنقاشات القانونية القائلة بالقيمة الدستورية لهذا المرسوم وبمدى شرعيته وصلاحية الحكومة في إصدار هكذا قوانين. تجاوبا مع هذه النقاشات، يجب الإشارة إلى أن الأصل في السلطة التشريعية أنها يمارسها البرلمان في نطاق الفصلين 70 و71 من الدستور، إلا أن الفصل 81 منه جعل الحكومة تتقاسم معه ممارسة تلك السلطة التشريعية، من خلال إصدار مراسيم في مجال القانون سواء بمقتضى الفقرة الثالثة من الفصل 70 أو بموجب الفصل 81. من خلال هذا، فإن المرسوم بقانون المتعلق بسن أحكام حالة الطوارئ وإجراءات الإعلان عنها، قد صدر عن السلطة التنفيذية في إطار الاختصاصات المخولة لها بموجب الفصل المذكور، وفي أحد المجالات الرئيسية الممنوحة للبرلمان، والمتمثلة في تقييد أهم الحقوق والحريات الأساسية للمواطن، وبتحديد جرائم وعقوبات جارية عليها.

علاوة على ذلك، يطرح المرسوم بقانون إشكالية ماهيته وطبيعته، أهو قرار إداري قابل للطعن أمام المحكمة الإدارية؟ أم هو قانون يتم الطعن في دستوريته أمام المحكمة الدستورية؟

في هذا الصدد، اعتبرت المحكمة الدستورية في قرار لها بأن المرسوم بقانون يكتسي صبغته الإدارية إلى أن تتم المصادقة عليه من طرف البرلمان، مما يستشف منه أنه يقبل الطعن بالإلغاء أمام الغرفة الإدارية بمحكمة النقض. والحال أن مرسوم بقانون المنظم لحالة الطوارئ بعد المصادقة عليه من طرف البرلمان قد أصبح اليوم قانونا قائم الذات مما تبخر معه النقاش حول طبيعته وشرعيته.

بيد أنه، وحتى إن صدر القانون وتم تنفيذه، فإن تطبيقه من طرف القضاء هو الذي يزرع فيه روحه الحمائية الردعية، مما يستوجب علينا التطرق إلى دور القضاء وجهوده في حماية الأمن العام الصحي.

الفقرة الثانية: دور القضاء وجهوده في حماية الأمن العام الصحي بعد إعلان حالة الطوارئ الصحية.

لا شك أن دور القضاء وجهوده في حماية الأمن العام الصحي واضح من خلال تجاوبه مع حالة الطوارئ الصحية من جهة، وطريقة تنزيله لمقتضيات قانون الطوارئ الصحية من جهة أخرى.

أولا: كيفية تطبيق القضاء لمقتضيات قانون إعلان حالة الطوارئ الصحية.

بموجب مقتضيات المرسوم بقانون، يُخول للحكومة، أن تتخذ جميع التدابير اللازمة التي تقتضيها الضرورة الاستثنائية، والتي قد تكون مخالفة للأحكام التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل في الظروف العادية، عن طريق مراسيم ومقررات تنظيمية وإدارية، أو بواسطة مناشير وبلاغات. بناء عليه، تم اتخاذ مجموعة من التدابير في هذا الصدد أهمها تقييد تحركات المواطنين والمواطنات إلا في حالة وجود رخصة استثنائية للتنقل من أجل غاية ملحة بعد موافقة العون المراقب وتضمينه لنوع هذه الغاية.

بهدف ضمان تفعيل مقتضيات المرسوم الزجرية وحمايةً للنظام العام والصحة العمومية، تفاعلت رئاسة النيابة العامة، باعتبارها جزءا من السلطة القضائية، من خلال إصدار رئيسها لمجموعة من الدوريات والبلاغات التي تدعو النيابات العامة إلى التعامل الصارم مع خرق قانون حالة الطوارئ، وكذا إلى متابعة كل من يروج أخبار زائفة ذات علاقة بموضوع فيروس كورونا من شأنها إثارة الفزع بين الناس أو المساس بالنظام العام. كما أكدت رئاسة النيابة العامة في أحد بلاغاتها، بأنها لن تتوانى في تطبيق القانون بالصرامة اللازمة في حق المخالفين الذين يعرضون الأمن الصحي للمواطنين للخطر ويستهينون بحياة المواطنين وسلامتهم.

تجدر الإشارة إلى أن قبل إعلان حالة الطوارئ الصحية وصدور المرسوم بقانون، ونظرا للفراغ التشريعي في هذا المجال، لجأت النيابات العامة إلى متابعة خارقي الحجر الصحي بمقتضيات الفصل 609 من القانون الجنائي التي تنص في بندها 11 على معاقبة كل “من خالف مرسوما أو قرارا صدر من السلطة الإدارية بصورة قانونية، إذا كان هذا المرسوم أو القرار لم ينص على عقوبات خاصة لمن يخالف أحكامه”. بهذا، يعتبر قرار الحجر الصحي قرارا صادرا عن السلطة الإدارية، وكل خرق له يدخل في فعل مخالفة مرسوم أو قرار صدر من السلطة الإدارية بصورة قانونية، وذلك ما لم يصاحبه عنف أو إيذاء. إلا أن تطبيق هذا المقتضى، الذي يعتبر مجرد مخالفة معاقب عليها بالغرامة فقط، والتي لا تفي بالغرض الردعي، أصبح غير ممكن بعد صدور المرسوم بقانون المتعلق بحالة الطوارئ والذي نص على عقوبات خاصة لمن يخالف مقتضياته.

كذلك هو الشأن بالنسبة لحالات العصيان المنصوص عليها في الفصول من 300 إلى 308 من ق ج، فقد نص الفصل 300 من القانون الجنائي على أن ” كل هجوم أو مقاومة، بواسطة العنف أو الإيذاء ضد موظفي أو ممثلي السلطة العامة القائمين بتنفيذ الأوامر أو القرارات الصادرة من تلك السلطة أو القائمين بتنفيذ القوانين أو النظم أو أحكام القضاء أو قراراته أو الأوامر القضائية يعتبر عصيانا”. كما يعاقب الفصل 304 على التحريض على العصيان.

كما نص الفصل 308 من نفس القانون على أن ” كل من قاوم تنفيذ أشغال أمرت بها السلطة العامة أو صرحت بها يعاقب بالحبس من شهرين إلى ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن مائتي درهم ولا تتجاوز ربع مبلغ التعويضات…”. إلا أن القرار المتعلق بالحجر الصحي، يصعب تكييفه على أنه بمثابة أشغال أمرت بها السلطة العامة، وهو ما لا يمكن تطبيقه في الحالات الكثيرة التي لا ينجم عن خرق حالة الطوارئ الصحية استعمال عنف أو هجوم ضد الأشخاص المكلفين بإنفاذ القانون.

تجدر الإشارة إلى أن مقتضيات العصيان تتقاطع مع الأفعال المنصوص عليها في المادة 4 من المرسوم بقانون، وهو ما يجعل تلك الأفعال قابلة للتكييف بجريمة العصيان إذا صاحبتها مقاومة أو عنف لممثلي السلطة العامة، وتكون المتابعة وفق المادة 4 من المرسوم ومقتضيات القانون الجنائي والتي تنص على العقوبة الأشد.

في هذا الصدد، صدرت العديد من الأحكام القضائية عن مختلف محاكم المملكة منذ إقرار الحجر الصحي وإعلان حالة الطوارئ، من بينها الحكمين الآتين:

أولا، حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بامنتانوت بتاريخ 23/03/2020 في ملف متعلق بخرق الحجر الصحي، حيث جرت وقائعه قبل دخول المرسوم بقانون المتعلق بحالة الطوارئ حيز التنفيذ، حول خرق شخصين لقرار الحجر الصحي وتعريضهما رجال السلطة العمومية للسب. بناء عليه، تمت متابعة المتهمين من أجل إهانة موظفين عموميين والعصيان ومخالفة قرار صادر السلطة الإدارية. إلا أن المحكمة برأت المتهمين من جنحة العصيان بعلة عدم قيام أي دليل على عصيانهما لقرار الحجر الصحي وأدانتهما من أجل إهانة موظفين عموميين ومخالفة قرار صادر عن السلطة العمومية.

علاوة على ذلك، صدر حكم آخر عن المحكمة الابتدائية بوجدة بتاريخ 30/03/2020 في ملف متعلق بخرق حالة الطوارئ، تمت خلاله مؤاخذة المتهمين من أجل خرق حالة الطوارئ الصحية وفق المادة 4 من المرسوم، وكذا من أجل إهانة موظفين عموميين والعصيان، وقضت في حقهما بأربعة أشهر حبسا نافذا وغرامة نافذة قدرها 3000 درهم، أي بعقوبة أشد من تلك المنصوص عليها في المرسوم بقانون المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية.

ثانيا: بعض مظاهر تفاعل القضاء مع حالة الطوارئ الصحية.

لقد تجاوب العمل القضائي مع خطر انتشار فيروس كورونا وحالة الطوارئ الصحية المعلن عليها بصدده بشكل يضع الأمن الصحي للمجتمع ضمن أولوية الأولويات، واعتبر السلامة الصحية للمواطنين أولى من كل مطالبة ولو بحق مستحق (تنفيذ حكم قضائي بالإفراغ). في هذا الصدد، صدرت عدة أوامر استعجالية وأحكام في الموضوع تعلل قراراتها بمصلحة السلامة الصحية للوطن والمواطن، ومن هذه الأحكام نجد ما يلي:

أصدر رئيس المحكمة الابتدائية بالخميسات أمرا استعجاليا بتاريخ 16 مارس 2020، قضى من خلاله بمنح مدعية أجل شهر كمهلة استرحامية قبل إفراغها من المنزل تنفيذا لحكم قضائي سابق، معتمدا في حيثياته على “الوضعية الاستثنائية التي تمر منها البلاد والمتمثلة في انتشار وباء كورونا المستجد وما يمكن أن ينتج عنه من مساس بالوضعية الصحية للمواطنين”، فضلا عن “قرار الدولة المتمثل في التزام المواطنين بمساكنهم وعدم الاختلاط”، وخلص إلى أن “إفراغ المنفذ عليها هي وأبناؤها الصغار في الوقت الراهن من شأنه الإضرار والمساس بالصحة العامة، مما يكون معه الطلب وجيها ومؤسسا ويتعين الاستجابة إليه بمنح أجل مناسب للطرفين”.

في حكم آخر، أصدر رئيس المحكمة الابتدائية بالرباط أمرا استعجاليا، قضى برفض منح إذن بسفر أطفال محضونين إلى الخارج لقضاء العطلة المدرسية، وذلك توقيا لمخاطر إصابتهم بفيروس كورونا. تعود فصول القضية إلى تقدم أمهم إلى رئيس المحكمة الابتدائية بمقال تعرض فيه بأنها طليقة المدعى عليه، وقد رزقت منه بثلاثة أبناء ما زالوا قاصرين، وأنها اعتادت السفر بهم كل عام خلال العطلة المدرسية إلى فرنسا، إلا أنها تفاجأت بامتناع طليقها خلال العام الجاري من الإذن لها بالسفر رفقة أبنائهما إلى الخارج. عللت المحكمة رفضها بأنه “لئن كان يحق للحاضنة اللجوء إلى رئيس المحكمة بصفته قاضيا للمستعجلات للإذن لها بالسفر العرضي بمحضونها خارج التراب الوطني عند امتناع نائبه الشرعي، إلا أن مناط ذلك هو مراعاة المصلحة الفضلى للمحضون التي أوكل للقضاء مسؤولية حمايتها والحرص على ضمانها”. أضاف القرار أن “لمؤسسة القضاء الاستعجالي التدخل بحكم وظيفتها لاتخاذ أي إجراء يروم حماية الحقوق الأساسية للطفل المكفولة له بموجب الدستور والقوانين والمواثيق الدولية، في حال وجود ضرر محدق قد يؤثر سلبا على حياة المحضون الآنية والمستقبلية”، وأن “الوضع الراهن للعالم الذي يشهد تفشي فيروس “كورونا كوفيد-19″ بالعديد من دول المعمورة (ومن بينها فرنسا)، وباعتبار الحق في الحياة والحق في الصحة من الحقوق الأساسية لكل طفل، وخشية ما قد ينجم عن الإذن بالسماح للمحضون بالسفر في الظروف الحالية مما قد يهدد صحته وحياته وينعكس سلبا على وضعيته وعلى حقه الأصيل في التمتع بكافة حقوقه بشكل عادي وسليم”.

في أمر استعجالي صادر عن رئيس المحكمة الإدارية بالرباط، بمناسبة طلب يروم من خلاله الطالب السماح له بدخول التراب الوطني بعدما ظل عالقا بالمطار بعد إقرار حالة الطوارئ، قضت المحكمة بحقه في الولوج إلى التراب الوطني بعد التأكد من عدم إصابته بالفيروس المستجد وذلك طيلة فترة الحضر الجوي، مع تحديد مكان إقامته بالدار البيضاء، وتسجيل تعهد السيد القنصل العام للقنصلية العامة الليبية بالدار البيضاء بالسهر على إجراءات سفره مباشرة بعد رفع الحظر الجوي مع شموله القرار بالنفاذ المعجل.

في قرار آخر صادر عن مؤسسة الرئيس بالمحكمة الابتدائية بطانطان بصفته قاضيا للمستعجلات، رفض الأمر القضائي طلب المدعي بإفراغ المدعى عليه، ومما جاء في تعليل الأمر الصادر عن السيد رئيس المحكمة: ” وحيث إن طرد الطرف المدعى عليه من السكن الوظيفي يبقى غير مؤسس واقعا وقانونا خاصة بالنظر إلى التدابير الاحترازية التي اتخذتها المملكة للحد من انتشار وباء كرونا المستجد حماية للصحة العامة، وهي تدابير أخذت بالفعل شكلها وصيغتها القانونية بصدور مرسوم بقانون…. بإعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني، وعليه فإن هذه التدابير لا يمكن تعطيل آثارها القانونية أو الخروج على مقتضياتها إلا في الحالات التي يقررها تدبير الحظر نفسه أو قرارات لاحقة متخذة من نفس السلطة وذلك في إطار قاعدة توازي الشكليات. وعليه فإن الاستجابة للطلب في هذه الظرفية يبقى غير ذي أساس ويتعين رفضه”.

على غرار القضاء الاستعجالي، يسير قضاء الموضوع في منحى إرساء قواعد تجسد الدور الحمائي المنوط بالقضاء خلال هذه الفترة التي تعرف انتشار الوباء. هكذا اعتبر حكم قضائي صادر عن المحكمة الابتدائية بالقنيطرة، أن ظرف الطوارئ الذي تمر منه البلاد خلال هذه المرحلة يرقى إلى درجة “كارثة” بحسب الوصف الوارد بمقتضيات المادة 510 من القانون الجنائي المغربي، واعتبرت السرقة التي تمت خلال هذه الفترة جناية، ومما جاء في تعليل الحكم أنه: “… ومن جهة ثانية قد ارتكبت (السرقة) أثناء حالة الطوارئ الصحية المعلن عنها من طرف حكومة المملكة بمقتضى المرسوم عدد… وهو ما يعد في نظر المحكمة كارثة بمفهوم الفصل 510 أعلاه، وذلك بالنظر لما أحدثه انتشار هذا الفيروس في نفوس المواطنين من هلع واضطراب يعجز معهما عليهم حماية ممتلكاتهم، خصوصا أمام إلزامهم قانونا، وفق المادة الثانية من ذات المرسوم التطبيقي بمنع مغادرة محال سكناهم إلا في حالة الضرورة القصوى وبشروط ضيقة ومحصورة تحت طائلة العقاب الجنائي…”، ومنه فإن تعليل القرار من حيث اعتبار الجرم جناية وليس جنحة، استنادا إلى الفصل 510 من القانون الجنائي، لاعتبار ظرف التشديد الذي رافق الجريمة كان فيه حس عالي بالمسؤولية الملقاة على عاتق القضاء و بالظرفية الصحية التي تمر منها البلاد، وحماية لأمن المواطنين، اجتهدت المحكمة للتقرير بكون السرقة خلال فترة الطوارئ الصحية تعتبر ظرفا للتشديد ومن ثمة اعتبارها جناية.

*باحث في القانون

‫تعليقات الزوار

2
  • Namrach
    الأحد 31 ماي 2020 - 12:47

    تحليل موضوعي وشامل لحالة الطوارئ الصحية التي مرت منها بلادنا ولا تزال خصوصا دور القضاء في هده الجائحة شكرا استاذنا على هده المعلومات النيرة

  • Mohamed chinoua
    الأحد 31 ماي 2020 - 16:12

    تحليل قانوني يتميز باحترافية رجل الميدان والاكاديمي المتمرس… كيفا لا وقد استشهد الاستاذ الفاضل برزنامة من الاحاكم القضاءية الوطنية والاجنبية والتي اعطت للتحليل القانوني للموضوع قيمة مضافة جعلت القاريء يلم وبسلاسة بكل جوانبه وهو يستحضر دور القضاء في حماية الامن الصحي للمواطن في هذه الظرفية الاستثناءية

صوت وصورة
الفهم عن الله | التوكل على الله
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | التوكل على الله

صوت وصورة
مهن وكواليس | الرايس سعيد
الإثنين 18 مارس 2024 - 17:30

مهن وكواليس | الرايس سعيد

صوت وصورة
حملة "بن زايد" لإفطار الصائم
الإثنين 18 مارس 2024 - 16:21 2

حملة "بن زايد" لإفطار الصائم

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الاحتياجات النفسية عند الأطفال
الإثنين 18 مارس 2024 - 16:00

صحتك النفسانية | الاحتياجات النفسية عند الأطفال

صوت وصورة
ناجية تروي تفاصيل حادث أزيلال
الإثنين 18 مارس 2024 - 15:25 15

ناجية تروي تفاصيل حادث أزيلال

صوت وصورة
ما لم يحك | تصفية الدليمي
الإثنين 18 مارس 2024 - 15:00 1

ما لم يحك | تصفية الدليمي