سُبل تعزيز جاذبية المؤسسات الجامعية البحثية

سُبل تعزيز جاذبية المؤسسات الجامعية البحثية
الجمعة 19 يونيو 2020 - 07:57

نسعى من خلال هذه الورقة إلى وضع الأصبع على واقع البحث العلمي بالمغرب، وذلك من منطلق المشيرات والغايات التي تؤطرها المؤسسات الراعية للبحث العلمي وطنيا وعالميا.

ولهذه الغاية، سنتناول أهم المعوقات التي تحُول دون تطوير البحث العلمي بالبلد، على أن نقترح بعدئذٍ بعضَ المخارج والحلول العمَلية الكفيلة بالرفع من المؤشرات الخاصة بهذا الحقل الأساسي في مسلسل التنمية المنشودة.

وسنكتفي، اعتباراً للطابع الاختزالي والتركيبي لهذه الورقة، بمحاولة تشخيص مشاكل البحث ومعوقاته على مستوى الدراسات العليا فقط (ماستر، دكتوراه)، وذلك في سياق سعينا إلى تقييم نتائج الإصلاح الجامعي، الذي انخرط فيه المغرب (المنظَّم بموجب القانون 01:00 الصادر سنة 2000)، والذي كان شعاره تجويد العرض التكويني بشكل عام، وكذلك تعزيز سياسة التعاقد بين الجامعات والدولة والشركاء الاجتماعيين. فهل – يا تُرى – تحققت الغايات التي حدّدها الإصلاح؟ من الواضح أن كثيراً من بنود الإصلاح لم تجد طريقها إلى حيز النفاذ بعد؛ بسبب الصعاب الكثيرة التي ما تزال مُحْدقة بوحدات البحث العلمي وبنياته وموارده المالية والبشرية، وكذا استمرار كثير من ملامح التعثر والارتباك في تنزيل بنود القانون المنظم للإصلاح، واستمرار معدلات الهدر الجامعي بسلك الدكتوراه. أما أسباب أزمة البحث العلمي، فتتجاوز الخلفيات الاستراتيجية التي تؤطر القانون المذكور إلى عمق السياسات التعليمية والتكوينية التي تُعتمَد بالبلد، سواء باعتبارها توجهات حكومية يقودها الفعل والمبادرة، أو باعتبارها تدابير علاجية لمشاكل بنيوية وأخرى طارئة، تأتي في هيئة ردود أفعال تسعى إلى تجاوز الأعطاب والاختلالات، وهو ما يستدعي سياسة تدبيرية يراد بها تصريف الأزمات، وعدم الالتفات إلى الغايات التي تم إعلانُها بموجب المقررات التنظيمية والتشريعية المختلفة.

وإيجازاً يمكن القول إن ملامح الأزمة، التي تَسِم القطاع، تكمن في:

– غياب برنامج وطني واقعي يحدد أهداف مُخْرَجات الجهد البحثي ورُؤاه، وغياب سياسات واستراتيجيات واضحة وخطط مستقبلية للبحث العلمي تحدد الغايات والأولويات.

– افتقار الكثير من المشاريع البحثية إلى المحتوى التطبيقي، وانفصال الغايات المؤطّرة للبحوث عن واقع المجتمع ومشاكله وأعطابه المختلفة.

– ضعف الإمكانات البحثية، وتقادم العتاد البيداغوجي (بكليات العلوم خاصة).

– غياب الهيئات الاستشارية الموكول إليها القيامُ بمهامّ توظيف نتائج البحث، وتمويلها؛ في أفُق تحويلها إلى مشاريع إنتاجية واقتصادية ذات مردودية.

– غياب قواعد بيانات واضحة تعكس الإمكانيات البحثية البشرية والمادية، وترصد المنجَز من الأعمال والدراسات؛ حرصا على ملامسة القضايا والموضوعات بشكل منسجم ومتوازن.

– ضعف صيغ التعاون والشراكة بين المؤسسات والمعاهد البحثية المختلفة من جهة، وبين هذه المؤسسات وغيرها من المؤسسات الراعية لقضايا التنمية (سواء مؤسسات الدولة أو تلك المستقلة عنها) من جهة أخرى.

– ضعف القطاعات الاقتصادية المنتجة بالبلد، وعدم ثقتها غالبا في الكفاءات المحلية.

– اعتماد الباحثين على التمويل الحكومي، وضآلة المساهمة التي يقدمها القطاع الخاص لتفعيل البحث العلمي، وتحديثه، وتمويله.

– انشغال معظم الباحثين بالبحث عن حلول للمشاكل الإدارية والمادية الخاصة بعملهم، واستحواذ التدريس على الجهد الأكبر من وقتهم.

– عدم وجود التقدير اللازم، والوعي الكافي من المجتمع بأهمية البحث العلمي، وقدرته على حل المشكلات.

– ضعف الميزانية المخصصة للبحث العلمي؛ بسبب انعدام جسور التواصل بين المنتجين للبحث العلمي والمستفيدين منه.

– ضعف أشكال الترابط بين الشركات المنتجة على المستوى الإقليمي، وهو ما يقف حاجزا أمام تمويل الأبحاث ذات الأهمية المشتركة، وكذا تبادل الخبرات في مجال البحث العلمي والتقني.

وحريّ بالذكر أنه، في ظل هذا الواقع الذي تحيط به الصعاب والإكراهات المالية والتدبيرية المذكورة، لا تجد الهيئات الراعية للبحث العلمي مخرجاً سوى تكريس واقع البحث النظري الذي لا يلامس مشاكل البلد الحقيقية، وهي مشاكل التنمية بتجلياتها البشرية والاقتصادية والثقافية المختلفة، ولا يُسعِف على تجذير السلوك المدني والقيم الديموقراطية الضرورية لمواصلة مسلسل الإصلاح، الذي انخرط فيه المغرب.

إن ما عرضناه آنفاً من ملامح الاختلال ليس سوى عينة من الصعاب التي تحفّ بمجال البحث العلمي بالجامعة المغربية، وهي -في الحقيقة -صعابٌ مرتبطة بإشكالات بنيوية تهيكل النظام التعليمي في شموليته. غير أن هذا القول لا يعني أن يظل الفاعلون في هذا المجال مكتوفي الأيدي، ينتظرون مباشرة الإصلاح الشامل للمنظومة التعليمية، بل -على النقيض من ذلك -هو دعوة للمسؤولين عن تدبير هذا القطاع إلى مسارعة الخُطى من أجل تجاوز العثرات، وتثبيت أقدام المؤسسة الجامعية في مجال تدبير الحياة الاجتماعية والاقتصادية للساكنة. ومن المسالك والتدابير التي نراها لازمة لبلوغ هذا المرمى نذكر:

– تلاؤم التكوينات مع متطلبات سوق الشغل، وتحديد مجالات البحث بشكل دقيق، بعد استشارة المتدخلين والفاعلين الاجتماعيين والسياسيين، أو ما يمكن إيجازه في شعار “الحاجة إلى بناء استراتيجية بحثية واضحة”.

– تشجيع العلاقات والاتفاقيات الدولية في مجال التكوين والبحث العلمي؛

– تشجيع الفترات التدريبية، والأسابيع الدراسية، والندوات المقامة في إطار شراكات مع جامعات أجنبية؛

– تشجيع الإشراف المشترك على الأطاريح الجامعية (العمل في فريق)؛

– تشجيع بنيات البحث، والأساتذة الباحثين، على المشاركة في مختلف عروض الشراكات الدولية التي تنخرط فيها المؤسسات الجامعية؛

– تشجيع أساتذة المؤسسة وطلبتها على المشاركة في الدورات التكوينية والتدريبية التي تنظمها المؤسسات الأجنبية؛

– تقديم الدعم اللازم لكل المبادرات الرامية إلى تأهيل دور الجامعة في مجال البحث العلمي، من خلال الاشتغال على محاور ذات أولوية؛ كالصناعة (مجال التكنولوجيات الحديثة…)، والفلاحة (تكييف الفلاحة مع الشروط المناخية، تحسين الإنتاج الفلاحي…)؛ والماء (تحلية ماء البحر، تدبير الموارد المائية، تلوث المياه…)؛ والمحيط (التدبير المندمج للمجال الساحلي، تطوير آليات الإنتاج النظيف…)؛ والمجال الطاقي والطاقات المتجددة (الضوئية، والحرارية…)؛

– تقوية البنية التحتية المعلوماتية للمؤسسات الجامعية، وتوظيف تكنولوجيا المعلومات والتواصلTIC ؛

– إشراك الأساتذة الباحثين والطلبة والقائمين بالمهام الإدارية والتقنية، وكذا الشركاء السوسيو-اقتصاديين، في التدبير البيداغوجي والمالي للمؤسسات الجامعية؛ وذلك عن طريق الهيئات الجامعية المختلفة (مجلس الجامعة، مجلس المؤسسة، الشعب…).

– تنويع الموارد المالية (خبرة، استشارات، تكوين مستمر…)؛

– استحداث نظام تعويضات مُنْصِف للأساتذة الباحثين، تزكّيه مجالس الجامعات، على قاعدة الخدمات المنجزة، والتكوينات المستمرة، والرصيد البحثي…؛

– اعتماد طرق تحفيز جديدة لمحاربة ظاهرة الهدر الجامعي، وتنويع أشكال التتبع والمواكبة؛

– تشجيع مجموعات البحث، وإغناء الرصيد الوثائقي لمكتبات الجامعات…

وفي ختام هذه الورقة الموجزة، ينبغي التنويه والإشارة إلى ضرورة اضطلاع الجامعة بدورها القيمي والثقافي في تكريس التنافسية والإبداعية والمبادرة، والإلحاحُ على وجوب انخراط كافة الفاعلين الجامعيين (طلبة، وأساتذة باحثين، وأطراً إدارية وتقنية) في كل المشاريع الرامية إلى الرفع من جودة البحث العلمي، مع ما يقتضيه ذلك من إشاعة جوّ من الثقة والحوار والمسؤولية والشفافية والحكامة داخل المؤسسة الجامعية من جهة، ثم بين هؤلاء ونظرائهم من المتدخلين السوسيو اقتصاديين والسياسيين من جهة ثانية. أما الغاية الأسمى من كل ذلك فهي -بالتأكيد -تعزيزُ جاذبية المؤسسات البحثية، ونشدانُ الإقلاع الاقتصادي المنشود، وضمانُ تحقيق التنمية البشرية المستدامة.

‫تعليقات الزوار

5
  • أحمد ص
    الجمعة 19 يونيو 2020 - 12:36

    ''أرى أننا ندخل مرحلة جديدة من الحضارة، والتي تكون فيها القيمة المرتبطة بالمعرفة هي القوة الدافعة''هكذا تنبأ المفكر الياباني تايتشي ساكايا بأهمية اقتصاد المعرفة في القرن الواحد والعشرين، والمدخل الذي يدور حوله المقال يسير في هذا الاتجاه، حيث أن محرك الجامعة المغربية بل والتنمية بشكل عام هو البحث العلمي وهذا أمر مفروغ منه، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يمكن أن يؤدي البحث العلمي وظائفه بنجاح؟ يتجلى الحل في وجوب الرفع من الميزانية الخاصة بالبحث العلمي، وإسناد أمره للأطر الوطنية التي تفوق كفاءتها الكوادر الأجنبية في العديد من فروع المعرفة العلمية، إذ لا يعقل أن نخصص 0.8% من الناتج الوطني الخام لقطاع حيوي مثل البحث العلمي، وننتقد مثلا الرتبة 74 التي حللنا بها سنة 2019 في مجال الابتكار العلمي من أصل 129 دولة، في اعتقادي الحل مادي بالأساس فبدون موارد مالية لن نحفز الباحثين، ولن نوفر لهم عدة البحث، بل سنساهم في هجرة الكفاءات إلى حيث تتوفر لها الإمكانيات لتفجير طاقاتها وسنفوت بذلك فرصا ذهبية في الإقلاع التنموي عن بلدنا.

  • التعليم محرم في نهاية الأسبوع
    الجمعة 19 يونيو 2020 - 12:49

    "جاء في المقال أن من المسالك والتدابير التي ترونها لازمة لبلوغ مرمى الإصلاح : – تقوية البنية التحتية المعلوماتية للمؤسسات الجامعية، وتوظيف تكنولوجيا المعلومات والتواصلTIC "
    ألا تعلمون أنه لا يوجد أي مسار تعليمي بالمغرب يعتمد تكنولوجيا المعلومات والتواصل وأن أي جامعة في المغرب لا تستطيع أن تقترح مسارا عن بعد ولو جزئيا نظرا لأن القانون في المغرب يمنع ذلك. فنرى أن جميع المسارات التربوية بالمغرب هي مسارات كلاسيكية حضورية (حضور الجسد مقدس بها بينما تكنولوجيا المعلومات والتواصل هو "الخوا الخاوي" ) تشبه إلى حد كبير حميع مناحي حياتنا التي تعتمد الورق عوض الرقمنة والتقنيات.إلى درجة أنه لا توجد أي جامعة بالمغرب تقترح شهادة "وطنية وليس دبلوم جامعي لا يسمن ولا يغني من جوع" بالدراسة المسائية أم نهاية الأسبوع كأن التعلم محرم في تلك الأوقات.
    أدعوكم لمراجعة النصوص القانونية المؤطرة لإدماج تقنيات المعلومات والتواصل في التعليم. القانون يا أاستاذي وتشجيع التعليم عن بعد بإقتراح مسارات تربوية وطنية معترف بها هو الحل تقوية البنية التحتية المعلوماتية للمؤسسات الجامعية، وتوظيف تكنولوجيا المعلومات والتواصل.

  • ALMOMANI
    الجمعة 19 يونيو 2020 - 12:56

    لقد أشار الدكتور الفاضل الى أهم التحديات وأثرها على التطوير التعليمي البحثي، وهنا المهم والضروري تخصيص ميزانيه ماليه كبيره للبحث العملي لما ينعكس أثره إيجابا ويفسح المجال للباحثين على التنوع في شتى المجالات، ويتطلب ذلك تكاثف الجهود من جميع المؤسسات الحكوميه والخاصه لرفع المستوى التعليمي للبلد، وهذا بدوره يحفز الاساتذه والطلبه الباحثين في التطور والرفعه في العلوم المختلفه، وبالتالي ينتج عن ذالك عماله مؤلهله ترفد المؤسسات بالعمل الواعد والذي يبني البلاد، وكذلك تشجع على العمل الجماعي للجميع، وأيضا تسهم في تصنيف الجامعات عالميا ومحليا،
    وفقكم الله دكتوري الفاضل، وحفظ الله بلدكم، ودمتم ذخرا في ظل صاحب الجلاله محمد السادس حفظه الله ورعاه.

  • OBSERVATEUR
    الجمعة 19 يونيو 2020 - 20:18

    – استحداث نظام تعويضات مُنْصِف للأساتذة الباحثين، تزكّيه مجالس الجامعات، على قاعدة الخدمات المنجزة، والتكوينات المستمرة، والرصيد البحثي…؛

  • mohamed
    السبت 20 يونيو 2020 - 20:20

    EN PLUS DE CE QUE VIENT DE DIRE L'AUTEUR IL Y A LE MANQUE ENTRE CEUX QUI FONT DE LA RECHERCHEE ET CEUX QUI N E NE FONT QUE LEUR ENSEIGNEMENT ALORS QUE TOUT LE MONDE PERCOIT UNE PRIME DE RECHERCHE IL FAUT UNE DITINCTION ET UNE MOTIVATION

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات