الخطر الأصفر نحو عولمة مغايرة

الخطر الأصفر نحو عولمة مغايرة
الإثنين 6 يوليوز 2020 - 13:10

“محور العالم الحديث يتحرك مع توسع المشهد التاريخي في كل الاتجاهات. هذا هو أحد الأشياء التي ستميز القرن العشرين عن القرون التي سبقته، فحركة توحيد العالم، أعدت من قبل ومنذ اكتشافات القرن 15، حيث أدخلت العالم كله في المجال السياسي والاقتصادي للشعوب المتحضرة” -أناتول لوروي بوليو 1901 Anatole Leroy-Beaulieu.

هل سيعود عالم اليوم إلى مقولة «نابليون بونابرت» حين قال: “احذروا الخطر الأصفر”؟

يومها، كان القائد الفرنسي يقصد بداهة مكمن الخطر الذي رآه من جانب شعوب الشرق الآسيوي الأقصى. وفيما عكف المؤرخون على تفسير هذه المقولة بأنها ربما تنصرف إلى الشعب الياباني سواء من حيث تقدمه السريع ولاسيما في النصف الثاني من القرن العشرين، فإن هناك الكثير من الاستراتيجيين من يدفع إلى التحذير في الوقت الحالي من عملاق أصفر بدوره.. هو الذي يؤرق الآن مضاجع أركان السياسة والتخطيط العسكري في الغرب.. وهذا العملاق الآسيوي يحمل اسما واحدا يتردد بتكرار كبير في مجامع البحث وأروقة السياسة الغربية والأمريكية تحديدا، وهو: الصين.

فقد سبق منذ أكثر من 200 سنة إلى استرعاء الانتباه إلى ما تم وصفه بأنه «الخطر الأصفر» مشيرا في ذلك إلى العملاق الصيني حين يستيقظ من غفوته وحنينه إلى حلمه القديم ليطرق أبواب العالم الحديث.. وقد ساعد على تفعيل وتجلي هذه الظاهرة الصينية ما شهده عالمنا خلال النصف الثاني من القرن العشرين من صراع ثنائي بين القطبين الكبيرين في تلك الفترة وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة بالقطب الواحد.

في أواخر القرن التاسع عشر، صاغ عالم الاجتماع الروسي جاك نوفيكوف (Jacques Novicow) العبارة في مقاله (Le Péril Jaune) “The Yellow Peril” 1897 . في ما بعد، استخدم القيصر “فيلهلم الثاني” من ألمانيا هذه التسمية العنصرية لتشجيع الإمبراطوريات الأوروبية على غزو الصين وقهرها واستعمارها، وتحقيقًا لهذه الغاية، فأساء بذلك القيصر تمثيل النصر الآسيوي في الحرب الروسية اليابانية 1904/1905، باعتباره تهديدًا عنصريًا للمواطنين البيض في أوروبا الغربية، وأساء عرض الصين واليابان في تحالف لغزو العالم الغربي وإخضاعه.

أوضح عالم الجينات “وينج فاي لونج” الأصول الرائعة لهذه العبارة والأيديولوجية العنصرية: “عبارة الخطر الأصفر (أحيانًا الإرهاب الأصفر أو الطيف الأصفر)… تمزج بين المخاوف الغربية حول الجنس، والمخاوف العنصرية من الأجنبي الآخر.

إن القضية الماثلة الآن أمام واضعي الاستراتيجيات في العالم الغربي تتجسد حاليا في أن الصين لم تكتف بأن تصبح قوة وحسب، بل إنها انتقلت إلى حيث أصبحت قوة نامية ومن ثم قوة ناهضة Emerging أو بالتحديد قوة صاعدة Rising، وهو المصطلح الذي عمدت إلى استخدامه تحديدا مجلة «الإيكونومست» البريطانية، في دراسة نشرتها نهاية عام 2010 تحت العنوان التالي: الأخطار التي تتمثل في صين صاعدة.

أوائل عام 2004، وضع كبار قادة الصين جانباً روتين حكم 1.3 مليار شخص والعمل على دراسة صعود القوى العظمى في خطوات جريئة ومتعاظمة لبعث الحلم الصيني القديم. ولكم يمكننا أن نتخيل مخزون التاريخ القاتم للحرب والدمار المعروض عليهم وهم يدرسون كيف أن الإمبراطوريات التي كانت تناضل من أجل السيادة منذ القرن الخامس عشر وقبله، ويمكننا أن نتخيل تركيزهم المتنامي على الموضوع الحقيقي لاستراتيجيتهم: ما إذا كانت الصين ستكون قادرة على احتلال مكانتها في القمة دون أن تلجأ إلى منطق السلاح، وبذلك هم ينزعون نحو القوة الناعمة.

لقد بذلت الصين، من نواح عديدة، جهودا لمحاولة طمأنة العالم القلق، فقد وعدت مرارا وتكرارا أنها تعني السلام فقط. أنفقت بحرية على المساعدات والاستثمار، وحلّت الخلافات الحدودية مع جيرانها وطوّرت أكمامها في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الدولية.

حتى الآن، سارت الأمور بشكل ملحوظ بين أمريكا والصين، فبينما كرست الصين نفسها للنمو الاقتصادي، فقد ركز الأمن الأمريكي على الإرهاب الإسلامي والحرب في العراق وأفغانستان. لكن الاثنين لا يثقان ببعضهما، فالصين ترى في أمريكا كقوة متضائلة ستسعى في النهاية إلى دحر صعودها، وتخشى أمريكا من كيفية التعبير عن القومية الصينية، التي تغذيها القوة الاقتصادية والعسكرية المعاد اكتشافها.

كان بعض الدبلوماسيين الغربيين حذرين في ردهم على الممر التجاري المقترح، حيث اعتبروه استيلاء على الأراضي لتعزيز نفوذ الصين على الصعيد العالمي، ولكن لا يوجد دليل يذكر يشير إلى أن الطريق سيفيد الصين وحدها.

وقال تشارلز بارتون، الدبلوماسي السابق بالاتحاد الأوروبي في الصين، لصحيفة فاينانشيال تايمز إن الخطة هي في الأساس “سياسة داخلية ذات عواقب جيوستراتيجية وليست سياسة خارجية”.

ونشر تعليق سابق لوكالة أنباء الصين الجديدة (شينخواXinhua ) التي تديرها الدولة “في الوقت الذي تتحرك فيه بعض الدول الغربية إلى الوراء عن طريق إقامة” الجدران”، فإن الصين تتطلع إلى بناء جسور، سواء كانت فعلية أو مجازية”. وهي رسالة تفصح، عن أن خطاب التهديد موّجه إلى القطب العولمي الأوحد المتمثل في الولايات المتحدة، التي ظلت تنعم بهذه المكانة الكوكبية كما نسميها على مدار عقدين أو أكثر والتي شهدت بدايته اختفاء المنافس السوفيتي من الخارطة الجيوستراتيجية الدولية، ثم استمرت هذه المكانة الفريدة والمرموقة أيضا بصورة أو بأخرى على مدى سنوات العقد الاستهلالي من هذا القرن الواحد والعشرين.

ليس هناك شك في أن الصين تنمو لتصبح ثقلًا جيوسياسيًا، تخطو إلى الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة في مسائل التجارة الحرة وتغير المناخ، فهناك عدة قضايا ترسم ملامح عولمة مغايرة عن تلك التي تبناها الغرب منذ أكثر من ثلاثة عقود وتتمثل في تباطؤ الاقتصاد العالمي، والتوترات السياسية، والحروب التجارية، وأزمة التفكيك التي طالت المجتمع الغربي: الأمريكي والأوروبي عموما.

لماذا تفعل الصين ذلك؟

أحد الحوافز القوية هو أن البنية التحتية التجارية عبر الأوراسية يمكن أن تدعم البلدان الفقيرة إلى جنوب الصين، بالإضافة إلى تعزيز التجارة العالمية. ومن المتوقع أن تستفيد المناطق المحلية أيضًا – خاصة المناطق الحدودية الأقل تطورًا في غرب البلاد ، مثل شينجيانغ Xinjiang.

إن الفوائد الاقتصادية، محليًا وخارجيًا كثيرة، ولكن ربما الأكثر وضوحًا هو أن التجارة مع أسواق جديدة يمكن أن تقطع شوطًا طويلاً نحو الحفاظ على ازدهار الاقتصاد الوطني الصيني في المستقبل، فمن بين الأسواق المحلية التي من المقرر أن تستفيد من التجارة المستقبلية، الشركات الصينية – مثل تلك الموجودة في النقل والاتصالات – والتي تبدو الآن على استعداد للنمو لتصبح علامات تجارية عالمية.

التصنيع الصيني هو أيضا مكسب، يمكن للقدرات الصناعية الهائلة للبلاد – بشكل رئيسي في إنشاء الصلب والمعدات الثقيلة – أن تجد منافذ مربحة على طول طريق الحرير الجديد، وهذا يمكن أن يسمح للصناعات الصينية بالتأرجح نحو السلع الصناعية الراقية.

طريق الحرير الرقمي:

تتضمن مبادرة الحزام والطريق أيضا إنشاء شـبكة متطـورة مـن البنية التحتية الإلكترونية لأجل استكمال مهمة ربط الصين بالعـلم الخارجي في عصر التكنولوجيا والمعلومات، بواسطة طريق الحرير الرقمي الذي تبنته الصين ي 2015 والهدف من ذلك تطوير التجارة الإلكترونية بين الصين ودول الأعضاء فـي المبـادرة عبـر شبكات الهاتف المحمول والكابلات الضوئية، وفي عام 2017 سلط منتدى مبـادرة الحـزام والطريق الضوء على طريق الحرير الرقمي وأدرج المجتمعون في بيانهم الختامي القطاعـات الرقمية ومنها الاتصالات والبنية التحتية للأنترنيت والتجارة الإلكترونية ضمن مبادرة الحـزام والطريق. وتأتي أهمية طريق الحرير الرقمي مع تنامي القطاع التكنولوجي والرقمي في الصين حيث أسهم الاقتصاد الرقمي عام 2016 نحو (3.30 %) من الناتج المحلي الإجمـالي للـبلاد، وبحلول عام 2017 شكلت التجارة الإلكترونية الصـينية (42 %) مـن الأسـواق العالميـة والتكنولوجيا العملاقة، الأمر الذي شجع الصين على طرح مشروع الحرير الرقمـي لإتاحة الفرص لشركاتها التكنولوجية بإيجاد أسواق خارجيـة جديـدة أمام المنتجات الإلكترونية (الأهمية الجيواقتصادية لمبادرة الحزام والطريق الصيني وانعكاساتها على الاقتصاد الدولي أ. أحمد فؤاد حسن. ص251).

فالصين تشكل بذاتها ذلك العملاق الذي يخيف الغرب لاعتبارات قدمها الدكتور محمد نعمان جلال (مجلة الصين اليوم):

الأول: أنها كيان سياسي موحد في دولة مركزية وليس من السهل تفكيكه.

الثاني: أن الصين بعقيدتها السياسية الشيوعية، وعقليتها البرغماتية، ونخبها السياسية تعمل على تطوير ذاتها بمنطق براغماتي يقوم على التعايش وليس التصادم، يحافظ على المبدأ، ولكنه يستخدم الزمن لصالحه للحفاظ على كيانه التاريخي الموحد، وأخيرا يستخدم المرونة الفكرية والسياسية في التقدم بأفكار تستوعب القوى التي يمكن أن تكون معارضة.

الثالث: أن الصين في عهد الإصلاح والانفتاح اتجهت لاستيعاب العولمة الاقتصادية بصورة شبه تامة وعملت بصبر للانضمام لمنظمة التجارة العالمية وقبول معظم شروطها، وطورت صناعاتها الوطنية فزاد إنتاجها وأصبحت القوة الثالثة عالمياً في مجال الاقتصاد.

هذه المظاهر الثلاثة للقوة الحديثة التي أنتجتها الصين (العسكرية، التكنولوجية والاقتصادية) جعلتها في مصاف القوى العالمية الرئيسية مما جعلها لاعبا رئيسا، وأضعف من قدرات الغرب في التشكيك في سياساتها أو استراتيجياتها المستقبلية نحو عولمة أخرى مغايرة.

‫تعليقات الزوار

3
  • observateur
    الإثنين 6 يوليوز 2020 - 14:25

    من الأحسن تعويض عبارة "خطر أصفر" ب " تميز أسيوي" أو "إبداع أسيوي" أو "معجزة أسيوية" لتجاوز و كشف التعالي و العنجهية الغربية في التعامل مع الشعوب و الأجناس الأخرى. عندما نستعمل كلمة "خطر" نرى الأمور بعين الغرب الخائف من كل منافسة و استقلال وطني. عندما نستعمل كلمات "تميز"، "إبداع" و "معجزة" نتجاوز التعجيز و الانهزامية و ننير الطريق من أجل السير على خطى الدول التي كافحت و اجتهدت و نجحت. الخطر أتى من الغرب، و قد يأتي من الشرق أيضا؛ كما فعل المغول.
    الصين تمشي بمحولين للسرعة: الاشتراكية و الرأسمالية و هذه المفارقة فريدة من نوعها و ناجحة. مؤخرا أضاف الرئيس شي جين بينغ مفهوم "الخصائص الصينية" و هو يريد مصالحة الصين مع تقاليدها القديمة. و هذه ثورة ثقافية تمشي عكس التيار الماوي الذي يرى في التقليد رجعية.
    الدول العربية لم تحافظ على تقاليدها؛ و لم تدخل في الحداثة. لم تطبق الاشتراكية و لا الرأسمالية المنتجة. و ليس لها أية نية لفعل ذلك. بماذا ستنافس و تقاوم؟

  • observateur
    الإثنين 6 يوليوز 2020 - 14:59

    القرن 20 وصف بالأمريكي. في بداية القرن 21، هناك من تنبأ بتمدد الأَمْرَكَة؛ و هو ما حصل فعلا في البداية مع جورج بوش الابن و آبائه الروحيين من المحافظين الجدد و الإنجيليين. وتحدث بوش في خطاب تنصيبه في 2005 عن حيوية و مصيرية نشر الديموقراطية في العالم إلى درجة اعتقاده أن نجاتها في بلاده رهينة بنجاحها في كل العالم. و لكن تبين سريعا أن الغاية لم تكن سوى خدمة مصالح الشركات النفطية الكبرى التي كانت تُشَغِّل تقريبا كل فريق عمل جورش بوش. في الوقت ذاته كانت روسيا و الصين تشتغلان في صمت و في راحة و بلا ضجيج؛ بينما كانت أمريكا تنهك نفسها بالحروب و التدخلية الغير محسوبة العواقب؛ إلى أن تفجرت أزمة 2008 في وجهها.
    الصين تبني الآن الطريق و الحزام و سور الصين العظيم الرملي في بحر الصين الجنوبي و تتمدد سيبرانيا و فضائيا و صاروخيا. فهل يمكن الحديث عن "الصيننة" عوضا عن الأمركة؟ هل القرن الأمريكي فسح المجال، مع صعود الشعبوية و القومية الانعزالية، لبزوغ الألفية الأسيوية؟ لن يطول وقت الإجابة.

  • ثورة ثقافية
    الإثنين 6 يوليوز 2020 - 17:49

    يا observateur
    قامت في الصين ثورة اشتراكية عارمة ادخلت الصين إلى العصر الحديث شأنها في ذلك شأن الروس، ومع ذلك خلف المثقفون الروس نقداً إنسانيا عميقاً جداً للغرب ولغير الغرب في حين أننا نكاد لا نسمع صوت المثقفين الصينين في الموضوع اما لتقصير منا وإما لأنهم لم يخلفوا بالفعل شيئاً كهذا. يتناسى المغاربة ومعهم الناطقين بالعربية أن هناك فرقا بين الاشتراكية والماركسية والشيوعية وان جميع هذه المفهومات نشأت في الغرب واحتضنها الغربيون قبل أي شعب آخر وبالتالي هي جزء من الثقافة الغربية إن لم تكن أهم الأجزاء، وقد كان منتحلي الاشتراكية منا يروجون لأشياء زائفة كالصراع بين الغرب و"الشرق"؟؟! واضعين الاشتراكية كنقيض للرأسمالية وللملكية الفردية؟!! أي أنهم بعبارة أخرى لم يفهموا لا الماركسية ولا الشيوعية ولا الرأسمالية…ولذلك لم يحققوا ثورة حقيقية تدخل المغرب نهائياً إلى العصر الحديث

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 10

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج