ولكن طه لا يضاهى

ولكن طه لا يضاهى
السبت 5 ماي 2012 - 00:38

ألا لا يظنن الإسلاميون أنهم وحدهم الذين صنعوا الربيع العربي الديمقراطي وكانوا فيه من الحاضرين، ولا يدعن –بفتح الدال وضم العين- الغرور يتلبس بهم فلا يرون لغيرهم فضلا ولا حضورا. ذلك أن للربيع العربي صناعا حضروا قبل بروز هؤلاء الإسلاميين وكانوا في الظهور من الزاهدين.

لا جرم أن الإسلاميين دفعوا ثمنا كبيرا للحرية الغالية عقودا عددا قاربت القرن أو تجاوزته قليلا، وفيهم يصدق قول العلي الحكيم (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).

والتغيرات الكبرى لا تولد بين ليلة وضحاها، ولكن غمامها الممطر يتراكم عبر العقود والأجيال، حتى يأتي اليوم الذي ليس منه مفر، فيفور التنور وتهطل السماء بماء منهمر، ولا يوقفه شيء حتى تجري السفينة في موج كالجبال ثم تستوي على الجودي، ويقال يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي.

وليس الإسلاميون طائفة واحدة، إنما هم فصائل وفسائل، وجماعات وتيارات، ووعاظ ومرشدون، وخطباء ومفتون، وعلماء ومفكرون، وكتاب وأدباء، وفنانون ظاهرون ومغمورون، وفيهم أهل التفقه وأهل التحكم وأهل التدين، أو قل مع طه عبد الرحمن فيهم أصحاب العقل المجرد، وأصحاب العقل المسدد، وأصحاب العقل المؤيد. غير أن الأصابع تشير دائما إلى أهل التسيس والتحكم، وتتغافل أهل التفقه، وتنسى تمام النسيان أهل التجرد، وجميعهم شركاء في “العمل الصالح” و”العلم النافع”، وإن اختلفت النسب فيما بينهم. وقد يكون العكس صوابا مهجورا، فيصبح أصحاب التجرد والخفاء أحسنهم عملا، وأكثرهم بلاء، واشدهم فتنة، ولكنهم لا يصرخون ولا يطلبون ولا يطمعون.

عندما كانت طلائع الإسلاميين تظهر مع الليل إذا عسعس بالغفلة، والصبح إذا تنفس باليقظة، وعندما كانوا يختبئون على تخوف وترقب في دار الأرقم بن أبي الأرقم، كان الدكتور طه عبد الرحمن –وحيدا فريدا- يصول ويجول في ساحات المواجهة الشرسة الدينية والفكرية ضد الملاحدة والعلمانيين، من أحزاب اليسار وأحزاب اليمين، وكانوا جميعا له من الكارهين والمحاربين. تلك أمة قد خلت بعد أن بغت واستأسدت، وظنت أنها في الغالبين الخالدين.

قيل عن طه في تلك الأيام الخالية، هذا مجرد مريض يأتيه رئي من الوسواس فيملي عليه الأفكار والأنساق الفلسفية المنمقة، فلا تأبهوا بظاهرة عابرة ستحاصرها يد الإلحاد ويد الاستبداد، فتخنس كما تخنس النجوم وتغور. فتظاهرت عليه اليدان رغم عداوتهما الواضحة. تخاصمتا حتى فجرتا، وتطاحنتا حتى تعبتا، ولكن الحرب على طه وحدت بينهما. وانكسرت في النهاية اليدان، وخرج طه ظاهرا منصورا، وتراجع الإلحاد مذموما مدحورا.

كنا معشر الإسلاميين نجد الملاذ في طه وعقله الجبار إذ ينتج الفكرة وراء الفكرة، والمنطق وراء المنطق، والتكوثر بعد التكوثر، ونجد في فؤاده الواسع إذ يرى ما لا نرى، من آيات ربه المثلى، فكان “جسده في الحانوت وقلبه في الملكوت”. وعندما فركنا الأبصار ومسحنا عشى الأعين بعد اليقظة وشرعنا نعمل للدين، وجدنا طه قد سبقنا مسافات طويلة وارتاد الآفاق البعيدة، فكتب ناصحا أمينا كتابه الجميل “العمل الديني وتجديد العقل”.

كم كنت علينا مشفقا يا طه. كم كان عزيزا عليك العنت الذي كان يتربص بنا. كم كنت علينا حريصا كأنك الوالد الرؤوف الرحيم، إذ يرى فلذات كبده يمضون حتفا إلى النار المحرقة كأنهم الفراش المبثوث، فلا يستطيع ردهم عنها ولا الوقوف أمامهم دونها، ولكنك كنت تقول: دعهم.. سيعودون.. دهم سيعقلون.. فهل عادوا وهل عقلوا؟

ما أحكمك وما أبعد نظرك. تركتهم يهرعون للسياسة وأحزابها وحروبها، وبقيت مرابطا في الثغور الخطيرة التي تركت دون قائم عليها. ولنعم ما فعلت. في كل مرة كنت تلقي سفرا من أسفارك، وصحيفة من صحفك، وأجزاء من كتابك الكبير. والعدل يلزمنا أن نعترف أن جبهة الفكر والنظر تركت فارغة، وأن حراس الجبل تركوا أماكنهم وتسابقوا نحو المغانم والأنفال، وما دروا أنهم فرطوا وسقطوا، لولا أن القدر أبقاك من ورائهم ترقب وتحرس، وكلما حاول مارد من المردة التسلل من تلك الثغور قذفتهم من كل جانب، فارتدوا دحورا.

وعندما حمي الوطيس تذكر أولئك الإسلاميون أنهم تركوا ظهورهم مكشوفة، وأن الذين كلفوا بالحراسة غادروا أماكنهم، وعندما استداروا وجدوك في الثغر قائما تقول “كفيتم.. كفيتم”، وتنظر إليهم نظرة العتاب، فهل أدركوا مهابة المقام وعذوبة الملام؟

يا ويح قوم أضاعوا فتيانهم ليوم كريهة وسداد ثغر. يا ويح قوم يصدق فيهم قول القائل “وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر”. يا ويح قوم سفكوا دم العندليب.

أنا واحد من الذين أدمنوا على صحف طه. أنا واحد من “أبناء يعقوب” الذين أورثوا أباهم الحزن الحزين والقلب الكظيم، وهو مع ذلك يجاهد نفسه ألا يقسو عليهم، حتى رفع يوسف أبويه على العرش وخروا له سجدا معترفين، فقال لا تثريب عليكم. اليوم يغفر الله لكم.

وكثير من قراء طه لا يقاومون قوة الأفكار وتماسك البنيان الفلسفي وسمو المنطق الأخلاقي، سواء في نصيحة الإسلاميين أو فضيحة العلمانيين.

وأنا، وإن كنت من فريق الموافقين، فإن أشد ما يبهرني في ما يسطر طه روعة البيان، وسحر الكلام، وجمال الأداء اللغوي، حتى يخيل إلي أني لست أمام فيلسوف كبير فحسب، ولكني أمام شاعر عظيم حكيم أوتي حلاوة الكلم. فكأن كلامه “تنزيل من التنزيل” كما قال سعد زغلول عن الرافعي وكتابه الخالد “وحي القلم”.

وإذا كتب لك أن تقترب من طه وتجلس بين يديه، فكن على يقين أنك تجلس مع رجل غادر هذه الحياة الدنيا، فهو يحدثك من عالم الغيب. أليس عالم الغيب هم الحق وما سواه زائل؟ أليست حقيقة إيماننا أن نخرق ستار الشهادة لنطلع على الغيب؟ أليس مطلوبا منا أن ننظر إلى الشهادة ببصيرة الغيب؟

ذلكم بعض من طه. من بنى للحكمة منتداها، وكان فارس ليلها وضحاها. رجل لا يجارى ولا يضاهى. فكيف نتخلص مثلك من الدنيا وبلواها، ونلحق بالآخرة وعلاها؟

‫تعليقات الزوار

10
  • ابعقيل
    السبت 5 ماي 2012 - 02:31

    مقال رائع اعادنا الى الفكر العتيق من العتاقة بمعنى النفاسة انني قرأت كلاما نفيسا في شخصية فذة عالية السنام رفيع المقام طيب الكلام زجله واسع النظر دقيقه مبدع بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ياتيك من الافكار ما لاتجده في مكان فرغم اني لا استوعب عظيم فكره الا اني اقدر هذا الفكر العالي القدر حفظك الله واطال عمرك سيدي طه اقبل راسك واني اتشرف بمصافحتك في مكتبة ال سعود احييك

  • benlamine
    السبت 5 ماي 2012 - 03:33

    Salam
    Jammelll and wonderful what you have said about
    the great thinker the master Taha Abderrahman

    salam

  • شكر موصول
    السبت 5 ماي 2012 - 09:49

    شكر الله للكاتب الكريم هذه الالتفاتة للفيلسوف الفذ والعالم الكبير طه عبد الرحمن، الذي تم تهميشه قصدا لتوجهه الديني ولوقوفه أمام رموز الاشتراكية الفكرية أمثال الجابري، وسيمضي هذا الرجل الذي حلق عاليا في مجال المنطق والأمة تهوي في سفح سحيق من الانحطاط واللامنطق، لا تلقي بالا إلى إنتاجه بما أصابها من ضياع في المقاصد وتيه في الوسائل، معرضة عما كتبه وما بناه من صرح فكري، ولن تلتفت إلى ما سطره حتى يمضي، كما كان الشأن مع موافقات الشاطبي في القرن الثامن الهجري، فنرجو أن يطيل الله في عمره حتى ينهي مشروعه الفكري، في فقه الفلسفة…، ونرجو أن يلتفت محبوه إلى كلامه عن السبب الأساسي في إبداعه، وهو العمل الديني المسدد على يد شيخ مؤيد بفراسة إيمانية تجعله يرى بنور الله وينهض أصحابه إلى العمل بحاله ومقاله، نرجو من العدالة والتنمية أن تلتفت إلى تكريم الدكتور طه عبد الرحمن، وأن تناقش النصائح التي وجهها للعمل السياسي الذي اختصوا به، خصوصا مثقفوهم من أمثال الدكتور أبو زيد المقرئ الإدريسي…

  • ملاحظ
    السبت 5 ماي 2012 - 10:01

    ان من البيان لسحرا
    لا فض فوك,ولا زل لك يراع

  • بلعيشى عبد الهادي
    السبت 5 ماي 2012 - 13:16

    مقال جيد
    هذا أخي أحد معاني النصيحة التي اختزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم الدين حين قال:( الدين النصيحة قالوا :لمن يار سول الله ؟قال لله ،ولكتابه، ولرسوله ،ولأئمة المسلمين ،ولعامتهم)بحيث أن للنصيحة معنيان:
    فنصحه المتعدي بنفسه:تعني دله وأرشده إلى الخير.
    ونصح له المتعدي باللام:تعني الاعتراف لصاحب الفظل والاحسان والخير بفضله و…وهدا المعنى الثاني يخفى على كثير من الناس .والمعنيان يشتركان في إرادتهما بيان الحق وقول الصدق.
    فأنت أخي نصحت له بإشادتك بمجهوداته، وبفضله في الدود عن الإسلام والمسلمين، ونصحتنا بأن نستفيد من هذه المجهودات.والدال على الخير كفاعله والسلام.

  • عبد السلام لحرش
    السبت 5 ماي 2012 - 13:20

    التفكير أولا، التفكير دائما
    قلت: " ما أحكمك وما أبعد نظرك. تركتهم يهرعون للسياسة وأحزابها وحروبها، وبقيت مرابطا في الثغور الخطيرة التي تركت دون قائم عليها"
    هذا الثُّغر هو للأسف الذي تركه كثير من الاسلاميين، وتهافتوا على المناصب السياسية، فأنا اعرف كثيرا من الأساتذة الجامعيين الذين يُحسبون على الاسلاميين، ولهم باع طويل في العلم والمعرفة، ولكن للأسف غرتهم أضواء المناصب، وتركوا مراكز البحث في الجامعة خاوية على عروشها، تشكو ظلم هؤلاء العباد

  • ذ. عبد الـنـور
    السبت 5 ماي 2012 - 22:21

    شكرا أخي حسن وبارك في عمر الفقيه الفيلسوف الذي لم يأل جهدا في نقد الدعوى العَلْمانية القائلة بفصل الدين عن السياسة طمعا في التسيد على الناس وإقصاء الدين عن تدبير الشأن العام، كما لم يدخر جهدا في النصح والتسديد العلميين لتصحيح الدعوى الديانية القائلة بوصل الدين بالسياسة؛ دمجا لها فيه كما فعل الحكام خدمة لأهوائهم أو دمجا له فيها كما صنع بعض الديانيين الذين لما يتحرروا من المفاهيم التنظيمية والآليات التدبيرية ذات الأصل العلماني
    والقصد من هذ الجهد: العودة إلى الوحدة الأصلية بين التعبد للحق في كل الأفعال بما فيها الفعل السياسي وتدبير شؤون الخلق بقصد التعبد فيها للمعبود الحق وهي وحدة سابقة على الفصل العلماني والوصل الدياني وهي ما عبر عنه بـ دعوى الائتمانية التي تجد تأصيلها في الأمانة التي تحملها الإنسان بمحض إرادته مذ كان.
    فهذت محصل المقاربة الروحية التي جاء بها فيلسوفنا مقابل المعهود من المقاربات التاريخية أو الاجتماعية أو السياسية أو غيرها مما لا يعنى بالبعد الروحي الغيبي سواء في النظر العقلي أو في تدبير المعاش مع العموم
    وإلى اللقاء في ندوة د طه بجامعة م1 ظهر المهراز يوم7-8-9 ماي وشكرا

  • yahya
    الإثنين 7 ماي 2012 - 12:11

    طه عبد الرحمن واحد من جهابذة الحذلقة اللغوية والكلام المنمق والتيه الفكري، عادى الأستاذ الجابري عداوة دونكيشوتية بلغت به حد الهلوسة، وحاول ابتكار نظرية سخيفة في الترجمة بتشويه الكوجيتو الديكارتي الذي جعله كوجيتو بودشيشيا، وأسس منتدى للمفكرين والباحثين، عفوا للمريدين، تفرقت السبل بهم بعدما ملوا هلوسات الشيخ وهذيانه، خاصة عندما قال" أتمنى أن أموت والشيخ حمزة راض عني" حاول وضع مشروع فلسفي، تقليدا للجابري، واعدا بعناوين، وتفريعات ثلاثية، لم يكتب منها غير كتابين، ثم لجأ لاحقا إلى البحث في أسباب الاختلاف الإسلامي والعربي في الفلسفة، فخرج علينا بهلوسات غريبة لاهي من الفلسفة ولا هي تمت بصلة إلى العقل، لأنها تمتح من كتابات ابن سبعين والمحاسبي… انتقد الحداثة بالتخليق الصوفي، أي أنه ينتقد مشروعا ناجحا حسب هابرماس، بفكر استسلامي لا يظهر إلا عندما تنهار الحضارات، لكل هذا تمرد عليه أقرب تلامذته وقاطعوه وكتبوا نقدا شديدا لهلوسالته ( ابراهيم مشروح)، من الزاوية لا يمكن أن يخرج عاقل والتاريخ دليــــــــــل

  • aicha dira serrat
    الإثنين 7 ماي 2012 - 16:43

    السلام عليكم يا اخي حسن
    شكرا لك على مقالك الرائع واعانكم الله على ما ابتلاكم به من مهام و تكليف و عزاؤكم في ذلك تجديد النية للله و حفظ الله لنا مفكرنا العظيم طه اللذي لايضاهى

  • Espritdelaube
    الإثنين 17 دجنبر 2012 - 21:32

    "Le renard dédégna les raisins non qu'ils fussent réellement verts mais parcequ'ils étaient hors de sa portée" Tel est l'exemple de Taha Abderrahmane et ses "détracteurs" qui -en vérité- ne font preuve que d'une incapacité de comprendre son discours, sa rationalité et sa logique.
    A ces "détracteurs" je dis : Taha nous a habitué à traiter de chaque discours avec rationalité et avec logique; Gardez-vous le droit total de critiquer pourvue que votre critique soit basée sur un minimum -je ne dis pas de logique car vous en êtes jusqu'aujourd'hui trop trop loin mais de rationalité. Ne nous laissez pas nous dire: mais ces gens ont-ils déjà une raison ou sont-ils tout simplement INCULTES d'accourir ainsi aux insultes qu'ils adressent aux grands de leurs siècle? Merci Monsieur El Hassan Serat pour cet article si éloquent. Merci à tous les admirateurs de Monsieur Taha . Merci également à ceux qui se veulent "détracteurs" de Taha car leur langage nous montre à quel sommet s'élève Taha

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات