"العقل": مُكوِّنٌ أمْ مُكوَّنٌ؟ (1/2)

"العقل": مُكوِّنٌ أمْ مُكوَّنٌ؟ (1/2)
السبت 6 أكتوبر 2012 - 16:13

بعد أنْ تَناوَلنا بالنّقد، في مقال «العقل بين الطبيعيّ والثقافيّ: شُروط إمكان “العقل العربيّ”»، فقراتِ الفُصَيْل الأوّل من الفصل الأوّل («عقل… ثقافة») من كتاب «تكوين العقل العربيّ» وأتبعناه بمقال حول إشكال تسمية «العقل العربيّ» («”العقل العربيّ”: فضيحةٌ تُجتَنب أمْ فضيلةٌ تُجتلَب؟»)، نُواصل عملنا في هذا المقال باستعراضٍ نقديٍّ لفقراتِ الفُصَيْل الثاني (ص. 14-17) من الفصل المذكور آنِفًا. وكما جرى الأمر في المقالات السابقة، فإنّنا نأتي بالفقرة من كلام “محمد عابد الجابري” (مسبوقة بعلامة الفقرة [§ 1.] وموضوعة بين مزدوجتين «») ونُتبعها بمُلاحَظاتنا النقديّة (§ 1. 1-…) التي تَهُمّ، في آن واحد، شكلَها الكتابيّ/التعبيريّ ومضمونَها الفكريّ.

ويَتكوّن الفُصَيْل الثاني (المُتناوَل هُنا) من سبع فقرات، سنستعرض الثلاث الأُولى منها في هذا الجزء الأوّل من مقالنا الذي سيَليه – بإذن الله- جزءٌ ثانٍ يُستكمَل فيه تناوُل الفقرات الأربع المُتبقية.

§ 1. يقول “الجابري”: «لقد استبعدنا مضمون الفكر العربي – الآراء والنظريات والمذاهب وبعبارة عامة [الإديولوجيا]- من مجال اهتمامنا وحصرنا محاولتنا هذه في المجال [الإﭙستمولوجي] وحده، فقلنا [إ]ن ما نريد تحليله وفحصه هو الفكر العربي بوصفه أداة للـ[إ]نتاج النظري، وليس بوصفه هذا الـ[إ]نتاج نفسه (نقصد “النتاج” بمعنى “المنتوج”). ولكن هل يكفي استبدال كلمة “فكر”، بالمعنى الذي حددناه قبل، [بِـ؟ـ]كلمة “عقل” في تحديد مضمون هذه الأخيرة وتبرير نسبتها إلى العرب والقول بالتالي بـ”عقل عربي”؟».

§ 1. 1- صُحِّحت “الهمزةُ”، في هذه الفقرة كما في الفقرات التي ستَليها، فوُضعتْ بين معقوفين [أ] أو [إ]. وكذلكـ وُضع لفظا “الإديولوجيا” و”الإﭙستمولوجي” بين معقوفين لأنّه صُحِّحتْ فيهما “الهمزة” وحُذِفت منهما “ياء” المدّ بعدها، وٱستُبدلت في ثانيهما “ﭙ” بـ”ب” (كما فعلنا في المقالات السابقة). وينبغي التّنبيه، هُنا، على أنّ هناكـ ركاكةً ظاهرةً في القول الثاني من الجملة الأولى من حيث إنّ “الإنتاج” يدل على «حين النَّتاج أو الوِلادة» أو على «ظُهور النِّتاج» أو على «تولِّي الشيء حتّى يُؤتيَ نِتاجه» (كما في “المعجم الوسيط”) وليس على “النِّتاج” أو “النّتيجة” بمعنى «حاصل فعل “النَّتاج” أو “الإنتاج”»: فـ”الفكر” أداةٌ للإنتاج النظريّ (أيْ أنّه “مُنْتِج”) وحاصل ٱشتغال “الفكر” يُسمّى “نِتاجًا” أو “نتيجةً” أو “مُنتَجًا” (وليس “مَنْتُوج” لأنّ هذه صفة بمعنى «أداة النَّتاج» التي كانت في الأصل هي “النّاقة”!). وفضلا عن هذا، فإنّ الجملة الأخيرة في هذه الفقرة تضمّنت خطأ تركيبيّا شائعا هو أنّه مع “ٱستَبدل” و”ٱستبْدال” تدخل “الباء” على ٱسم الشيء “المَترُوكـ”، فيكون الصواب أنْ يُقال «هل يكفي أن تُستبدَل بكلمة “فكر”، بالمعنى الذي حدَّدناه، كلمةُ “عقل”…» (في القُرآن: «أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!» [البقرة: 61]) أو «ٱستبدال كلمة “عقل” مكان كلمة “فكر”» (في القُرآن: «وإنْ أردتُم ٱستبدال زوجٍ مكانَ زوج آخر وآتيْتُم إحداهُنّ قنطارا، فلا تأخذوا منه شيئا» [النساء: 20]) ؛

§ 1. 2- ينبغي أن يُلاحَظ، في هذه الفقرة، أنّ جواز ٱستبعاد الآراء والنظريّات والمَذاهب التي تُكوِّن «مضمون الفكر العربيّ» لا يسمح باعتبارها مجرد “إديولوجيا” في مقابل «شيء إﭙستمولوجيّ» (أيْ “صُورة” أو “شَكْل”) هو بمثابة «كيفيّة الإنتاج» أو «أدوات/وسائل البِناء». وإلا، فإنّ ما وصفه “الجابري” بأنّه “إﭙستمولوجيّ” يَصحّ أن يُوضَع ضمن ما عدّه “إديولوجيا”، وذلكـ ما دام الأمر يَتعلّق بـ«أداة إنتاج» ترتبط في طبيعتها بما يَترتّب على ٱستعمالها من “نتائج” أو “مُنتَجات”. وبهذا يتّضح أنّ ما تعاطاه صاحبُنا من فصل بين “الإديولوجيّ” و”ٱلإﭙستمولوجي” ليس واضحا ولا محسوما، بل يبقى أمرا إشكاليّا إلى أبعد حدٍّ ؛

§ 1. 3- عودةُ “الجابري” إلى طرح سؤال: «هل يكفي أن تُستبدَل بكلمة “فكر” كلمةُ “عقل” لتحديد مضمون هذه الأخيرة وتبرير نسبتها إلى العرب والقول، من ثَمّ، بـ”عقل عربيّ”؟» تُشير إلى تردُّده أو شُعوره بتردُّد مُتلقِّي كلامه بخصوص هذه التسمية («العقل العربيّ») وسَندها الاصطلاحيّ (تفضيل “عقل” على “فكر”). فهو لم يُعلِّل بشكل مُقنع وحاسم ٱختياره لها، وإنّما حاول ذلكـ من موقع التحكُّم طلبًا للتميُّز المرتبط عنده فقط بـ«النقد إلاﭙستمولوجيّ» (بخلاف «الانخراط أو التحيُّز الإديولوجيّ») ؛

§ 2. «[إ]ن ترجمة كلمة “عقل” بعبارة “الفكر بوصفه أداة للتفكير”، وربط “عروبة” هذا العقل بالثقافة التي ينتمي إليها، الثقافة العربية الإسلامية، خطوة أولى، ما في ذلك شك، نحو تحديد مفهوم “العقل العربي” كما نستعمله هنا، هي خطوة أولى لا لأنها تجيب عن الأسئلة الجانبية التي سبقت إثارتها في مستهل هذا الفصل، بل لأنها تطرح [أ]سئلة بديلة [أكثر؟] التصاقا بالموضوع و[أكثر؟] تعبيرًا عن [تعقيداته؟]. [إ]ن بوسعنا الآن أن نتساءل: إذا كنا نعني بـ”العقل”: الفكر بوصفه أداة وليس محتوى، فهل معنى ذلك أن “العقل” خال من كل محتوى؟ بل هل الفكر بهذه المعنى، أي بوصفه أداة لا غير[،] خال هو نفسه من كل محتوى؟ أوليست الأداة – أي أداة- عبارة عن “شيء” مركب، ولا بد؟ أوليست كل أداة، مهما صغرت، عبارة عن جهاز [أ]و بنية؟ ثم ألا يمكن التمييز في كل أداة، أو جهاز[،] بين الفاعلية وما منه قوام هذه الفاعلية؟ [إ]ن الأداة التي نحفر الأرض بها – الفأس مثلًا- تستمد هويتها، ولنقل ماهيتها، من فاعليتها: الحفر. ولكنها تستمد قدرتها على الحفر من [أ]جزائها وطريقة تركيبها وأيضًا من [أ]سلوب استعمالها… أفلا ينطبق هذا على “أداة التفكير” سواء سميناها “الفكر” أو “العقل”؟».

§ 2. 1- وُضع، في آخر الجملة الأولى من هذه الفقرة الثانية، لفظُ “أكثر” بين معقوفين بداخلهما «علامة السؤال» للإشارة إلى أنّ الأمر يَتعلّق بـ«صفة التّفضيل» الدالّة على “الكَمّ” (الكثرة)، في حين أنّ المُناسب للسياق أن تُستعمَل «صفة التّفضيل» الدالّة على “النّوع” أو “الكَيْف” (“أشدّ” أو ما يُعادلها: «أشدّ/أقوى تعبيرًا»، ثُمّ “ألصقُ” بدلا من «أشدّ ٱلتصاقًا»). كما وُضع لفظ “تعقيداته” بين معقوفين بداخلهما «علامة السُّؤال» للإشارة إلى أنّ ٱستعمال “تعقيد” (بصيغة “تفعيل” من “عَقَّدَهُ” المُتعدِّي) بدلا من “تعقُّد” (بصيغة “تفعُّل” من “تَعقَّد” اللازم) يَدُلّ على سهوٍ أو جَهْلٍ من قِبَل صاحبنا ولدى كثير من مُستعملِي “ٱلعربيّة” ؛

§ 2. 2- عبارة «[…] ترجمة كلمة “عقل” بعبارة “الفكر بوصفه أداة للتفكير” […]» غير دقيقة لأنّ لفظَيْ “الفِكْر” و”التفكير” من أصل واحد ومعناهما مُتقارب ولا يَصحّ ٱستعمال أحدهما لتعريف الآخر لدَوَران الأمر فيهما على نفسه! ولعل الصواب أنّ يُقال «[…] ترجمة كلمة “عقل” بعبارة “الفِكْر بوصفه أداة لإنتاج المعرفة” (أو للإنتاج النظريّ) […]» ؛
§ 2. 3- يَتحدّث “الجابري”، في الجملة الأولى من هذه الفقرة، عن أنّ عروبة “العقل” ترتبط بانتمائه لثقافةٍ يصفها بأنّها «عربيّة إسلاميّة» ؛ لكنّه أبى أن يُجري الوصف المُزدوِج على “العقل” الذي يَنتسب إلى تلكـ “الثقافة” كأنّ “العُروبة” تتضمّن “الإسلاميّة”، بل كأنّ صفة “عربيّة” أساسيّة فيها أكثر من صفة “إسلاميّة” التي تبقى، إذًا، ثانويّةً بحيث يجوز الاستغناء عنها في تحديد “العقل” المَعنيّ!

§ 2. 4- يُؤكِّد صاحبُنا جازمًا أنّ تسميةَ الفكر المُنتمي للثقافة العربيّة الإسلاميّة بـ«العقل العربيّ» (لكونه أداةً للإنتاج النظريّ) يُعَدّ خطوةً أُولى في تحديد هذا المفهوم (كموضوع للدراسة في كتابه). ويُوضِّح أنّ ما يجعل ذلكـ خطوةً أُولى ليس كونَه يُجيب عن الأسئلة التي سبقت إثارتها في مُستهلّ فصل «عقل… ثقافة» (وهي أسئلة أصبحت عنده هنا جانبيّةً!)، وإنّما لأنّه يُمكِّن من طرح أسئلةٍ بديلة ألصق بالموضوع وأشدّ تعبيرا عن تعقُّداته. ولا يخفى أنّ الأسئلة السابقة تبدو جانبيّة إذا ما قُورنت بالأسئلة التي سيَأتي ذكرها. لكنْ من الغريب – تماما كما لاحظنا سابقا عند التّعليق على تلكـ الأسئلة- أنّ إيرادَها هُناكـ لم يأتِ إلا لاستبعاد الأسئلة الأساسيّة. فهل سيَستدركـ صاحبُنا ذلكـ الآن فيَنقاد إلى طرح الأسئلة التي تُبلور إشكال ما يُسمِّيه «العقل العربيّ»؟

§ 2. 5- يَرى “الجابري” أنّه بوُسعه، بِناءً على ذلكـ، طرح الأسئلة التالية: إذَا كان قصدُه بكلمة “العقل” يَعني «الفكر-الأداة» (وليس «الفكر-المُحتوَى»)، فهل يستلزم ذلكـ أنّ “العقل” خالٍ من كل مُحتوى؟ وهل “العقل”، بما هو “أداة”، يُعَدّ خاليًا من كل “مُحتوى”؟ أوَليست كلُّ أداةٍ “شيئا” مُركَّبًا بالضرورة؟ أوَليست كل أداة، مهما صَغُرت، “جهازًا” أو “بنيةً”؟ ثُمّ ألا يُمكن التّمييز في كل أداةٍ (أو جهاز) بين “الفاعليّة” وما منه قِوَام هذه “الفاعليّة”؟ وبِما أنّ الأداة تستمدّ – في نظره- هُويّتها (أو ماهيتها) من فاعليّتها (مثلا، “الفأس” وقُدرتها على “الحفر”)، أيْ من أجزائها وطريقة تركيبها وأيضًا من أسلوب ٱستعمالها، أفلا ينطبق هذا على «أداة التفكير» سواء أَسُمِّيَتْ “فكرًا” أمْ “عقلا”؟!

§ 2. 6- يُلاحَظ أنّ صاحبَنا صاغ هذه الأسئلة بشكل يجعلها تُوجِّه فكر القارئ نحو ٱعتقاد أنّ “العقل” مُركَّبٌ أو مُؤلَّفٌ (أيْ، بالتحديد، “مُكوَّن”) من أجزاء. وبالتالي، فإنّ التّسليم بأنّ “العقل” يُمثِّل أداةً لإنتاج الفِكْر (والمعرفة) يقود إلى تصوُّره كـ”جهاز” أو “آلة” بحيث يُمكن التّمييز فيه بين «الفاعليّة» (أو القُدرة على الفعل) و«قِوَام الفاعليّة». ومِمّا يُعَدّ دالًّا، بهذا الصدد، أنّه يَصعُب جدًّا تحديد مَحلّ كل من «العقل المُكوِّن» و«العقل المُكوَّن» بالنِّسبة إلى «الفاعليّة» و«قِوام الفاعليّة» لأنّ الأوّل ذو “فاعليّة” في نظر صاحبنا، وهو – في الوقت نفسه- «قِوَام الفاعليّة»، والأمر نفسه يَصدُق على الآخر!

§ 2. 7- يُمكِن، تجوُّزًا، قَبُول “المُقايَسة” التي يُجريها صاحبُنا – رغم ٱدِّعائه المعروف بأنّ “المُقايَسة” إجراءٌ غير علميّ ومُتدنٍّ في عقلانيّته!- بين “العقل” (كأدة للإنتاج الفكريّ) و”الفأس” (كأداة للحفر) ما دام يَتوخّى من هذا “التّمثيل” تقريب صُورة «الفكر-الأداة». لكنْ، ألا يبدو في تحديده ذاكـ لـ”العقل” أنّه يُشيِّئُه على الرغم من أنّه يُبدي تحفُّظَه في ٱستعماله للفظ “شيء” كوصف له إذْ يَضعُه بين مُزدوجتين؟ ألا يَتجلّى نُزوعه إلى تشييء “العقل” في ٱستعماله المُكرَّر للفظ “الفاعليّة” (وأيضا لصفة “الفاعل” كما سيَأتي) بدلا من “الفعل”؟ وهل يَصِحّ إسناد “الفاعليّة” إلى “العقل” من دون أن يَترتّب على ذلكـ القول بتشييئه (“العقل” فاعلٌ في نفس الإنسان كأنّه “ذات”)؟ ثُمّ إذَا كان “العقل” ليس سوى نِتاج لـ”الثقافة” في ٱرتباطها بـ”مُجتمع” و”تاريخ” مُعيَّنين، أفلا يَصِحّ بالأحرى أن تُسند “الفاعليّة” إلى “الثقافة” (و، من ثَمّ، “المُجتمع” و”التاريخ”) باعتبارها هي التي “تُكوِّن” ما يَعُدّه صاحبُنا «الفكر-الأداة» ويُسمِّيه “العقل”؟! أليس طرحُ هذه الأسئلة على هذا النّحو هو ما كان يَجدُر بـ”الجابري” أن يفعله بما أنّه قد قرَّر أنْ يَتقدّم خطوةً إلى الأمام بعيدا عمّا ٱعتبره مجرد أسئلة جانبيّة (وثانويّة)؟!

§ 3. «لنستعن بادئ ذي بدء، في تلمس الجواب عن هذه الأسئلة، بالتمييز المشهور الذي أقامه لالاند Lalande بين [“العقل المكوِّن”] أو الفاعل la raison constituanteو[“العقل المكوَّن”] أو السائد la raison constituée [،] الأول يقصد به النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث والدراسة والذي يصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ. وبعبارة أخرى[،] [إ]نه: “المَلَكة التي يستطيع بها كل [إ]نسان [أ]ن يستخرج من [إ]دراك العلاقات بين الأشياء مبادئ كلية وضرورية، وهي واحدة عند جميع الناس”. [أ]ما الثاني[،] فهو: “مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالاتنا”، وهي[،] على الرغم من كونها تميل إلى الوحدة[،] فـ[إ]نها تختلف من عصر لآخر، كما قد تختلف من فرد لآخر. يقول لالاند: “[إ]ن العقل المكوَّن[،] والمتغير ولو في حدود، هو العقل كما يوجد في حقبة زمنية معينة. فإذا تحدثنا عنه بالمفرد (= العقل)[،] فإنه يجب أن نفهم منه العقل كما هو في حضارتنا وفي زمننا”، وبعبارة أخرى [إ]نه: “منظومة القواعد المقررة والمقبولة في فترة تاريخية ما، والتي تُعْطَى لها خلال تلك الفترة قيمة مطلقة”» [يُحيل “الجابري” في الهامش 3 إلى المصدر هكذا: A. Lalande: la raison et les normes. pp. 16-17, 187, 228 Hachette Paris 1963.].

§ 3. 1- يَأتي “الجابري”، في هذه الفقرة الثالثة، بالتمييز الذي قال به الفيلسوف الفرنسيّ “أندري لالاند” (André Lalande) بين «la raison constituante» (يُترجمه صاحبُنا بـ«العقل المُكوِّن» بخلاف “د. نظمي لُوقا” – مُترجم كتاب “لالاند” «العقل والمعايير»- الذي ترجمه بـ«العقل المُنْشِئ») و«la raison constituée» (يُترجمه “الجابري” بـ«العقل المُكوَّن» وليس بـ«العقل المُنْشَأ» كما فعل “نظمي لُوقا”). ونُلاحظ أنّ “الجابري” يُوحي إلى القارئ بأنّه لا يَأتي بهذا التّمييز إلا “ليستعين به” على تحديد مفهوم «العقل العربيّ» بصفته «”الفكر” الذي أنتجته الثقافة العربيّة والذي لعب دور أداة الإنتاج النظريّ فيها»، في حين أنّه تمييزٌ يُمثِّلُ «عِمادَ مشروعه النقديّ» على النحو الذي يجعل أيَّ خلل أو سُوء فهم قد يَعتري نقلَه وتأويلَه للتّصوُّر الأصليّ مَدْعاةً لتهافُتِ البناء بأكمله ؛

§ 3. 2- يُورِدُ “الجابري” تمييز “لالاند” ذاكـ مُفضِّلا تسميتَه – ٱنسجاما مع المفهوم الأساسيّ في عُنوان كتابه «تكوين العقل العربيّ»- بـ«العقل المُكوِّن» (la raison constituante) و«العقل المُكوَّن» (la raison constituée)، ثُمّ يصف الأوّل بأنّه “فاعِلٌ” ويصف الآخر بأنّه “سائِدٌ” ؛ وهُما صفتان مُتماثِلتان في الصيغة ومُتقابِلتان في المعنى. ولقد كان على “الجابري” أن يُراعيَ هذا التّقابُل في المعنى فيصف «العقل المُكوَّن» (صفة “مُكوَّن” بصيغة “مُفعَّل”، بمعنى «يَقَعُ عليه الفعل»، أيْ أنّه «موضوعٌ للفعل») بـ«المفعول به» في مُقابل «العقل المُكوِّن» الذي هو “ٱلفاعِل”! ومن المُستغرَب أنّه في وصفه «العقل المُكوَّن» بـ”السّائد” (خَلْطًا بينها وبين “شائِع”!) لم يَنتبه إلى أنّ معنى هذه الصفة يَرجع إلى “السِّيادة” بالشكل الذي يُؤدِّي إلى أنْ يكون «العقل السّائِد» هو نفسه «العقل الفاعِل» الذي هو، بالتّالي، «العقل المُكوِّن»! ولو أنّه كان يَعني ما يقول، لأعطى لهذا “العقل” صفةَ “السّائد” وحمل على الآخر (المُقابل له) صفة “المَسُود”. لكنّه لم يفعل شيئا من ذلكـ. ولو أنّه قام به، لـﭑكتشف زيف وضع صفة “سائد” في مقابل “فاعل” ؛ مِمّا يُؤكِّد أنّه لم يَعمل على بناء مفهوم “العقل” ٱجتهادا نظريّا وتبيُّنا نقديّا، بل ٱنجرف مع تيّار اللُّغة الشّائعة ٱستسهالا وٱستعجالا!

§ 3. 3- بِما أنّ “الجابري” فضَّل أن يُترجم لفظيْ “constituante” و”constituée” بـ”مُكوِّن” و”مُكوَّن”، فإنّ كل ما سبق أن لاحظناه (في «نحو قراءة نقديّة لـ”تكوين العقل العربي”»، فقرات القسم الرابع) بخصوص مُصطلَح “تَكْوين” (في إفادته، بالأساس، معنى «الخَلْق/الإحداث» وتميُّزه من مُصطلَح “تَكوُّن” ومن ألفاظ مثل “تشكيل” و”تأسيس” و”بناء”) ينطبق على هاتين الصفتين. ومن حيث إنّ الأمر في “العقل” ليس “خَلْقًا” أو “إحداثًا”، فإنّ ترجمةَ صاحبنا للَّفظين الفرنسيَّيْن “constituante” و”constituée” بـ”مُكوِّن” و”مُكوَّن” تبدو مُلتبسةً إلى الحدِّ الذي قد يُفهَم منها أنّ “العقل” في تكوينه لنفسه مُستقلٌّ عمّا سواه (“الثقافة”، “المجتمع”، “التاريخ”) كأنّ اللّفظ الفرنسيّ لا يحمل في أصله اللاتينيّ معنى “المَعِيّة” (con=com=cum) أو أنّه يجب أن يُستعمَل فقط بصيغة “المُطاوَعة” في إفادتها معنى “الانعكاس” (se constituer)! ولعلّ الأقرب إلى المعنى أن يُنْقَل ذانِكَـ اللفظان إلى العربيّة بصفتيْ “بَانٍ” و”مَبْنِيّ” أو صفتيْ “مُبْتَنٍ” و”مُبْتنًى” أو صفتيْ “مُؤسِّس” و”مُؤسَّس” (قارن كيف أنّ عبارةَ «assemblée constituante» تُترجَم بـ«جَمْعيّة تأسيسيّة/مُؤسِّسة» من حيث إنّها تضع “الدُّستور” الذي هو “الأساس” و”الأصل” في بناء “الدّولة” بكل مُؤسِّساتها ؛ وأنّ عبارة «les constituants d’une chose»تُفيد معنى «الأُصُول المُؤسِّسة/المُقوِّمة لشيءٍ ما» [«les éléments constituants»]) ؛

§ 3. 4- يَشرح “الجابري” مقصود “لالاند” بمُصطلَحيه فيقول عن الأوّل (أيْ «العقل المُكوِّن») إنّه «النّشاط الذِّهنيّ الذي يقوم به الفكر حين البحث والدراسة والذي يصوغ المفاهيم ويُقرِّر المبادئ»، فهو «المَلَكة التي يستطيع بها كل إنسان أن يستخرج من إدراكـ العَلاقات بين الأشياء مبادئ كُليّة وضروريّة، وهي واحدة عند جميع الناس.» ؛ ثُمّ يقول عن الثاني («العقل المُكوَّن») إنّه «مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في ٱستدلالاتنا والتي تميل إلى الوحدة، لكنّها تختلف من عصر لآخر، كما قد تختلف من فرد لآخر.» (لا بُدّ، هُنا، من مُلاحَظة أنّ “مبادئ” تَأتي في تعريف «العقل المُكوِّن» و«العقل المُكوَّن» كليهما مع ٱختلاف صفاتها، إذْ هي “كُليّة” و”ضروريّة” في الأوّل، وهي فقط «تميل إلى الوحدة» و«مُتغيِّرة بين العصور والأفراد» في الثاني: فكيف تكون نفس “المبادئ” – المُفترَض فيها أنّها «قِوَام العقل»- حاملةً لصفاتٍ مُتناقِضة؟!). ويُورد قول “لالاند”: «إن العقل المكوَّن والمُتغيِّر[،] ولو في حدود، هو العقل كما يُوجد في حقبة زمنيّة مُعيّنة. فإذَا تحدّثنا عنه بالمفرد (=العقل)[،] فإنّه يجب أن نفهم منه العقل كما هو في حضارتنا وفي زمننا.»، وأيضا قوله:

«منظومة القواعد المُقرَّرة والمقبولة في فترة تاريخيّة ما، والتي تُعْطَى لها خلال تلكـ الفترة قيمة مطلقة.». ويُحيل، في النهاية، إلى كتاب “لالاند” (العقل والمعايير: la raison et les normes) بصفته مصدرَ ما قاله عن «العقل المُكوِّن» و«العقل المُكوَّن». فهل التّمييز في “العقل” بين “مُكوِّن” و”مُكوَّن” أتى حقيقةً عند “لالاند” كما وصفه “الجابري” مُوحيًا بالاقتباس من كلامه؟ وهل كتاب «العقل والمعايير» (في أصله الفرنسيّ) هو مصدر صاحبنا فيما قاله عن ذلكـ التّمييز؟

§ 3. 5- لا بُدّ، أوّلا، من تأكيد أنّ مَصادر تصوُّر “لالاند” مُتعدِّدةٌ. إذْ فضلا عن كتابه المذكور، هُناكـ نص «الدرس الافتتاحي وٱستنتاجات درس حول العقل والمبادئ العقليّة» (أُلقي بالسوربون في 1909-1910 ونُشر بـ«مجلة الدروس والمحاضرات» في 15 أبريل 1925 وفي 30 أبريل 1925، ونُشرت منه مُقتطفَات بعنوان «raison constituante et raison constituée» في: André Lalande par lui-même, éd. Vrin, 1967, pp. 39-76)، ثُمّ «مادّة عقل (raison)» في «المعجم التقنيّ والنقديّ لمُصطَلحات الفلسفة» (Vocabulaire technique et critique de la philosophie) [ط 1، 1926] ؛ ثُمّ المادّة نفسها في «معجم اللغة الفلسفيّة» لـ”ﭙول فُولكيي” (Paul Foulquié, Dictionnaire de la langue Philosophique, PUF, 1962). فما هو المصدر الذي ٱعتمده “الجابري” في حديثه عن «العقل المُكوِّن» و«العقل المُكوَّن»؟

§ 3. 6- من المُؤسف جدًّا أنّ التبيُّن فيما أورده “الجابري”، بهذا الصدد، يَقُود إلى أنّه لم يَعتمدْ أساسا إلا على المصدر الأخير (معجم “فُولكيي”) وبشكل جُزئيّ وٱنتقائيّ! وعلى الرغم من أنّ تِبيانَ الأمر يُحْوِج إلى كثيرٍ من التّفصيل (وهو ما سنقوم به في مقالٍ قادم بإذن الله)، فإنّه يُمكن هُنا أن نُؤكِّد أنّ صاحبَنا يُوهم قارئَه بأنّه رَجع فقط إلى كتاب “لالاند” وليس إلى مُعجم “فُولكيي” الذي لم يَذكُره مُطلقا (حتّى بين مَراجعه!)، مِمّا يُرجِّح أنّه أخذ منه وأراد إخفاء ٱعتماده عليه (كما سيَتّضح بعدُ)! ولقد ٱنتبه إلى هذا الأمر “جورج طرابيشي” وفصَّل فيه القول (نظرية العقل، ص. 12-19).

وعُموما، فإنّ الأقوال الخمسة المُقتبسة في الفقرة السابقة – التي يُحدد “الجابري” بواسطتها كلا من «العقل المُكوِّن» و«العقل المُكوَّن»- تَرجع ثلاثة منها إلى “فُولكيي” (الأقوال الثاني والثالث والخامس)، ويَرِد القول الرابع منها («إن العقل المكوَّن[،] والمُتغيِّر ولو في حدود، هو العقل كما يُوجد في حقبة زمنيّة مُعيّنة. فإذَا تحدثنا عنه بالمفرد (=العقل)[،] فإنّه يجب أن نفهم منه العقل كما هو في حضارتنا وفي زمننا.») بنصِّه عند “لالاند” في كتابه «العقل والمعايير» (ص. 16-17) ؛ والقول الخامس («منظومة القواعد المُقرَّرة والمقبولة في فترةٍ تاريخيّة ما، والتي تُعْطَى لها خلال تلكـ الفترة قيمة مطلقة.») له أصل في كلام “لالاند” كما ٱقتبسه منه “فُولكيي” نفسُه. وأمّا القول الأوّل («الأول يقصد به النّشاط الذِّهنيّ الذي يقوم به الفكر حين البحث والدِّراسة والذي يصوغ المفاهيم ويُقرِّر المبادئ»)، فتأليفٌ من صاحبنا لا يخلو من لَبْس: إذَا كان «العقل المُكوِّن» هو نشاط الذِّهن/الفكر حينما يقوم بالبحث والدِّراسة، فهل وصفُه بأنّه يصوغ “المفاهيم” ويُقرِّر “المبادئ” معناه أنّه «يُكوِّنها تكوينًا» كما لو كان يَخلُقها “إحداثا” و”إبداعا” أمْ أنّ ٱشتغالَه ذاكـ لا يَقوم إلا بواسطة “مفاهيم” و”مبادئ” لها أصلٌ ثابتُ في «الواقع الخارجيّ» (الظواهر المُحدَّدة تجربيّا وموضوعيّا)؟! وكيف يُميَّز بين «العقل المُكوِّن» بصفته يَصُوغ “المفاهيم” العامّة ويُقرِّر “المبادئ” الكُليّة وبين «العقل المُكوَّن» بما هو نظامٌ من “المبادئ” و”القواعد” المُقرَّرة والمقبولة في فترة ما على الرغم من ظهور ٱشتراكهما على الأقل في “المبادئ”؟ وأين يَذهب «العقل المُكوِّن» بمفاهيمه العامّة ومبادئه الكُليّة، إذَا كان «العقل المُكوَّن» هو الذي يفرض نفسه في الواقع؟!

§ 3. 7- إحالةُ “الجابري” إلى كتاب “لالاند” المذكور هي نفسُها الواردة عند “فُولكيي” الذي ٱقتبس شاهِدَيْن منه (ص. 187 وص. 228)! وكونُ صاحبنا أضاف «ص. 16-17» لا يُغيِّر من الأمر شيئا، لأنّنا لا نكاد نجد في هذا الموضع (بداية الفقرة الرابعة من الفصل الأوّل من كتاب “لالاند”) إلا التّمييز بين «العقل المُكوِّن» و«العقل المُكوَّن» (إذا قَبِلنا ترجمة “الجابري”) ووصف “لالاند” للعقل المُكوَّن بأنّه «مُتغيِّر بالتأكيد» وأنّه «العقل كما يوجد في فترة معينة»، ثُمّ ما أورده “الجابري” في القول الرابع («إن العقل المكوَّن[،] والمُتغيِّر ولو في حدود، هو العقل كما يُوجد في حقبة زمنيّة مُعيّنة. فإذَا تحدثنا عنه بالمفرد (=العقل)[،] فإنّه يجب أنّ نفهم منه العقل كما هو في حضارتنا وفي زمننا.») بشكل مُجتزَإ ورَدِيء الترجمة يَتّضح من مُقارَنته مثلا مع ترجمة “نظمي لوقا”: «وعندما نتكلم عن هذا العقل المُنْشَأ بصيغة المفرد[،] يجب أن يُفهم من ذلك أنّ الأمر يتعلق بهذا العقل في حضارتنا وفي عصرنا. وإذا أردنا أن نكون في غاية الدقة[،] وجب علينا أن نقول: في مهنتنا، لأن العقل ليس هو هو تماما عند الرسامين ولدى العلماء، [بل و؟] لا لدى الفيزيائيين والمشتغلين بعلم الحياة.» (العقل والمعايير، الترجمة، ص. 12) ؛

كما يرد فيه القول الذي سيُشير إليه “الجابري” فيما بعد («يأخذ هذا العقل المنشأ وضع المطلق لدى جميع من لم يكتسبوا – في مدرسة المؤرخين والفلاسفة- الروح النقدي اللازم [أو “الروح النقديّة” كما فضَّل صاحبُنا].»). ولا نَعثُر فيه على شيء آخر من الأقوال التي أوردها “الجابري”!

§ 3. 8- يَجدُر الانتباه إلى أنّ أهمّ صفةٍ غيَّبها “الجابري” في تحديده للعقل كما ورد عند “لالاند” هي أنّه مُرتبط بـ”المَعايير” (les normes)، أيْ أنّه “معياريٌّ” (normative/prescriptive) وليس فقط ذا طابع “وصفيّ/تقريريّ” (descriptive) كما أراد له صاحبُنا الذي تصرَّف حتّى في ترجمة لفظ “normes” حيث صار عنده مجرّد “قواعد” (سنُفصِّل القول، بهذا الخصوص، عند تناوُل الكيفيّة التي حدَّد بها “الجابري” معنى “العقل” في العربيّة)!
[email protected]

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 1

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين