الإمام والإعلام

الإمام والإعلام
السبت 6 أكتوبر 2012 - 23:13

على الإمام أن يقتدي بإمام الأئمة فيكون على هديه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ومعنى أن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق أن يكون مخالطا للناس مشاركا لهم في حياتهم العامة حتى لا تنشأ بينه وبينهم هوة ومسافة فينقطع التواصل والتفاهم، وهو الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولا ينتظر منهم أن يأتوا إليه باحثين. فمنه المبادرة أولا وأخيرا. وأكل الطعام والمشي في الأسواق معناه أيضا المعرفة بالواقع والعلم به وبصغائره وكبائره، حتى يكون بلاغ الإمام مبينا، فما أرسل من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم، وكيف يبين لهم وهو لا يعرف شوارعهم ومطاعمهم وأسواقهم وثقافتهم وفنونهم وسياساتهم ونفسياتهم وجموعهم وهمومهم ومظالمهم وعلاقاتهم وآلامهم وآمالهم.

وعندما تعجب المشركون فقالوا (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) إنما كانوا يفصحون عن تصور خاص للدين وللرسول ورسالته اختاروه وآمنوا به، وهو أن يكون الرسول أبعد ما يكون عن المطاعم والأسواق والشؤون العامة، فيكون بمنأى عن ذلك كله، في برج عاجي أو عادي، أو صومعة منفردة، أو دير بعيد، أو واحة قصية نائية. وإذا ما حضر يوما ما في جمع من الجموع العامة أو مناسبة من المناسبات فإنما لتسجيل الحضور واستكمال الصورة لا غير.

كذلك يقول العلمانيون الذين يريدون إبعاد الإمام عن الشأن العام، وكذلك يقول المستبدون الذين يريدون منع الإمام من الكلام ومن الجهر بالحق في وجه كل طاغية مستكبر. تشابهت قلوبهم.

وقد صار اليوم يسيرا على الإمام أن يتعرف على أحوال قومه وعالمه عن طريق وسائل الإعلام الكثيرة والمتنوعة بمنهجية نقدية لا تقفو ما ليس لها به علم، ولا تصدق كل ما يقال وينشر، مع الحفاظ على المشي في الأسواق وأكل الطعام بين الناس. بل إن متابعة وسائل الإعلام شكل جديد من أشكال المشي بين الجماعات والأفراد ومشاركتهم عيشهم، إذ يتعرف على التحولات الضخمة التي تعيشها البشرية اليوم بتقارب المسافات ورفع الحدود الثقافية والجمركية، ومتابعة المعارك الحربية والمعارك الحضارية والفكرية في كل جهات الدنيا، بين القديم والجديد، والغرب والشرق، والشمال والجنوب، والإيمان والإلحاد، والعفة والإباحية، والفردانية والغيرية، والغنى والفقر، والبداوة والتحضر.

وقد كتب لي أن أجمع في حياتي بين الإمام والإعلام، فكنت خطيبا وواعظا منذ أكثر من ثلاثين سنة، ثم اشتغلت بالصحافة والإعلام بعد ذلك بمنابر مختلفة. وإنها لتجربة غنية جدا، لأنك تصير بذلك صاحب المنبرين، منبر المسجد ومنبر الصحافة. فالمنبر جامع بين الإمام والإعلام. وللإمام سلطان لم يجعلوا له ترتيبا ولعله في المقام الأول ما دام مراقبا من قبل الخائفين من كلامه الباهر وبيانه الساحر. وللصحافة سلطة جعلوها الرابعة ولعلها قفزت درجة أو درجتين للأعلى.

وهناك أمر ثان يجمع بين المنبرين وهو تحري الصدق والدقة في القول والخبر، مع أوسع قدر من الحياد. فالإعلامي النزيه ذو المصداقية هو الذي يعرض الرأي والرأي المخالف، والقول والقول المضاد، ثم يترك المتلقي لسمعه وبصره وفؤاده (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا). وكذلك على الإمام أن يكون فوق الاختلافات السياسية والفقهية الصغيرة، وفوق الخصومات بين الفئات والأفراد والمجموعات، وأن يتحرى ثم يتحرى قبل أن يقوم بلم الشمل وتأليف الأفئدة وتقريب المتباعدين.

وقد كنت أقول وما أزال أقول إن القرآن الكريم كتاب إعلامي رائع يقدم لك الخبر اليقين والمستقبل المبين، ويعرض عليك الوقائع كلها، دقها وجلها، والأقوال كلها، مؤمنها وكافرها، حتى ترى الشيطان قائما يتكلم كلاما بليغا، ثم يلقي الكتاب الحكيم بالمسؤولية عليك في التصديق أو التكذيب واستخلاص العبرة. والقرآن كتاب إمام ورحمة كما كان من قبله كتاب موسى إماما ورحمة.

من أجل ذلك من واجب الإمام أن يوظف الأخبار التي يجدها، وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، على المنبر ليعلم بها المستمعون المشاهدون، وتكون لهم فيها آيات بينات للسائلين. وهذا دون أن تستهويه المطاعم أو تبتذله الأسواق فتضيع منه الإمامة، فالإمامة حمل ثقيل وأمر موجع جدا يجعلك حسيبا شديدا على حركاتك وسكناتك، ورقيبا على مشاعرك وأقوالك، فلا يناقض بعضها بعضا ولا يكذب بعضها بعضا.

وللإمام قدر ومكانة لا تنال إلا بالعلم والصبر، وتلك محنة شديدة، وهو قدوة يتبعه الناس في الصغيرة والكبيرة، وقد يحدد مصيرهم ومصيره بهذه المسؤولية الصعبة يوم القيامة (يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا) الإسراء 71.

وعلى الإمام الذي رفعه الله إلى هذا المقام أن يدافع عنه ضد كل إهانة واستصغار، فيرفض المذلة والهوان من أي كان، فإن قبلها سحبت منه بطاقة اعتماده، وعليه أن ينزل من المنبر، لأنه حكم بالإعدام على ذلك الإمام.

‫تعليقات الزوار

3
  • حسن عياشي
    الأحد 7 أكتوبر 2012 - 14:02

    (كذلك يقول العلمانيون الذين يريدون إبعاد الإمام عن الشأن العام، وكذلك يقول المستبدون الذين يريدون منع الإمام من الكلام ومن الجهر بالحق في وجه كل طاغية مستكبر. تشابهت قلوبهم.).

    قد صدقت ، فنعم القول قولك أخي حسن السرات، جعلك الله من المسرورين في الدنيا و في الأخرة .

  • عابر سبيل
    الأحد 7 أكتوبر 2012 - 17:27

    عمر أميــــــــــر المؤمنيـــــــــــن كان يمشي في الأسواق ويشارك الناس طعامهم ويشاركونه طعامه كان يحكم بالعدل ولايضع مستشرين او حراس يحجبونه عن الناس فكل من ظلم ذهب الى عمر حتى اصبح واحدا منهم اما الان كل شيئ تغير اصبحت الشعوب ترى في الحاكم ملاكا او عملاقا لن تستطيع الوصول اليه حتى في المقابر اصبحت هناك مقابر خاصىة خمسة نجوم بعيدة عن الناس ومقابر لعامة الناس واصبح الحكام يترفعون ولايتواضعون فكلنا ابن ادام وكلنا سنموت ويأكل الدود جسدنا فاين ملكنا ومالنا وذهبنا وملاييرنا المكدسة في بنوك سويسرا … يوم ينفخ في الصور ونحاسب عراة حفاة لافرق بين غني وفقير حاكم ومحكوم اذ ذاك يندمون ولكن هيهات ….

  • rachid
    الإثنين 8 أكتوبر 2012 - 10:16

    ;les imames sont le vrais probleme des pays muslmans
    le vrai imam c est un parlement dimocratique represente les difirantes composantes de la societe y compris des sensibilites religieuses .dans le coran y a aucune trace du fonction du alimama ,atravers l histiore de la umma

    )islamique le role du limam etait tjr ( nosrate assoltane

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات