وداعا سيدي..وداعا ياسين

وداعا سيدي..وداعا ياسين
الأحد 16 دجنبر 2012 - 01:07

ها أنت تترجل عن صهوة الدعوة بعد أكثر من ثمانين حولا و لم تسأم كابن أبي سُلمى ولكنك بقيت على العهد بك جبلا راسيا يَنتقِصُ من قدرك الأقزام فتتبسم في وجوههم ابتسامة الرحيم لا المُحتقِر، لعلمك أن الصاعد في الجبل لا يراه، وكنت الجبل وكانوا المُجهَدين من سموقه والعاجزين عن بلوغ شأوه.

كما كنتَ سيدي الخافض لجناحه للباحثين عن الله في زمن الأدعياء وللراغبين في سلوك طريق دعوته في زمن الأشقياء، ممن حفظوا في صدورهم علم الكتاب و باعوه بما قارفت أيديهم من عرَضٍ يباب.

التقيتُ في مسيرتي، لُقيا النظر ولقيا القراءة، غير يسير من أهل العلم والثقافة فلم أجد منهم من أوتي سعة علمك وحدة ذكائك و رحابة نطاق معارفك، كنتُ وأنا التلميذ اليافع الفرِحُ بمعرفة فكِّ الخط و تجريب هذه المهارة العجيبة في كل ما طالته يده، أدخل مجلسك و أُرهقك بالأسئلة التي لا يجمعها جامع ولا يمنع صاحبها عن طرحها مانع لجرأته على سماحة شيخ لا يُعرف لتواضعه ساحل، أسئلة تجوب دنيا المعارف من أصول فقه إٌلى تاريخ أو سياسة أو فلسفة فتُجيب باقتضاب المُلمِّ و تُوجِّه بحكمة المعلم وتنبه برحمة المربي الذي يخاف على أبناءه مخاطر الطريق، وكنتُ دائما أعجب لمن لا يرى فيك عالِميَّةً ولا في فكرك ألمعيَّةً فأقولُ مَن لشيخي بالمتنبي ليجعل الأعمى ناظرا والأصم سامعا.

كان مجلسك سيدي إمتاعا ومؤانسة وكانت هديةً من السماء أن عرفتك أيام المجالس التي لا تتعدى الخمسة أو الستة من المتحلقين حولك، ولما كثُر الزوار كان الجلوس إليك “تفويجا” كدروس علوم الطبيعة في المدارس، وكان على أهل سلا الانسحاب تخصيصا لفوزهم بالجوار، ولا زلتُ أذكر عندما طُلب إلينا الانسحاب ليدخل فوج من الزائرين فانسحب السلاويون جميعا وكنت أجلس في ركن مكين من البيت لم أُطِق فراقَه ولم أفعل، وأثناء درسك سيدي وكنتَ ساعتها “تكتفي” بالتعليق على حديثٍ ثم تُلقننا متنه وتختم المجلس، وأنتَ تفعل ذلك التفتَّ إلى ركنيَ المكين وقلتَ لي مبتسما: “ماخرجتيش أ السي الهداج مع الإخوان” ثم أكملَتَ حديثك واعترتني حمرة من خجل هوَّنها عليَّ دفءُ ركنيَ المكين.

علمتني سيدي أن العلم في الصدور وأن الحكمة في جعل الحال سيدا للمقال لا في التباهي بالمعارف استطرادا على المنابر يذهب أثرها مع ذهاب أصوات نطقها. ولعل ما كان منك حكمةً حسِبه البعض ضحالةً ونقصا في التحصيل، ولكنك كنتَ دائما طالبا لله مهتديا بنوره فكيف يُغريك منبرٌ أو يستهويك ضوء عابر.

لازلتُ أذكر يوم خرجتَ علينا متهللا وجهُك متأبطا كتابا في الحديث لا أذكرعنوانه، و قلتَ لنا بسعادة المحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنك وجدتَ الحديث الشهير والموقوف على عبد الله بن عمر ” ” إِنَّا قَوْمٌ أُوتِينَا الإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نُؤْتَى الْقُرْآنَ , وَإِنَّكُمْ أُوتِيتُمُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُؤْتَوَا الإِيمَان ” مرفوعا بمعناه إلى رسول الله صلى الله عليك وسلم عن جندب بن عبد الله، قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن فتيان، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيماناً”، كما أذكر غضبتك للحبيب صلى الله عليه وسلم عندما دخلتَ مجلسك في لقاء قطري لا يُنسى وكنتَ مُقطِّبَ الجبين على غير عادتك تحمل “الشفا” للقاضي عياض رحمه الله وكتابا من سلسلة كتب الأمة لمفكر وزعيم إسلامي ملأ الدنيا وشغل الناس حينا من الدهر، لا داعي لذكر اسمه، ذكر الأخير في مؤلفه أن الرسول كسائر البشر في عبارة فيها إخلال بالوقار الواجب للجناب العالي صلى الله عليه وسلم، وذكرتَ الآية الكريمة التي زلت في فهمها أقلام كثُرٌ:” قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي” ونبهتَ سيدي إلى أن الذهول عن آخر الآية سببُ الزلل في فهمها، فالرسول إنما هو بشر مثلنا، لكن يوحى إليه وذلك مربط الفرس ،كما يُقال، و جُماع الأمر و حقيقة التكريم وسر المقام الأجل لخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم.

ذلك احتفاؤك بحديث نبيك وأثرٌ من علمك بسنته وتعظيمك لجنابه وللناقلين عنه عرفانا، فأنت من علمنا وأعاد مرارا على أسماعنا قولتك في تعظيم أهل الحديث :”أهل الحديث أصحاب المنة على الأمة إلى يوم القيامة”.

وصورة من واسع اطلاعك أذكرها يوم جئتنا متحدثا عن عالم فيزيائي حاصل على جائزة نوبل وذكرتَ أن الرجل يكاد في آخر كتابه أن يُقرَّ بالخالقية للكون، كنتُ لفرط نهمي للمعرفة أتلقى كل توصية بكتاب أو ذكرٍ لعنوانٍ تُلقي به في الجمع بنيةِ التنفيذ فأذهب للبحث عنه، وكنت من الغلاة في محبة الكتب حتى أني كنتُ آخذُ المال لشراء ملابسي فأقتني كتبا بدَلها ولما استشرى الداء مُنِع مني الكيل،بحثت عن الكتاب ووجدتُ ترجمته الفرنسية وهو لعالم الفيزياء الأمريكي ستيفن فينبرغ الحاصل على جائزة نوبل لسنة 1979 مناصفة مع العالم الباكستاني محمد عبد السلام، كان الكتاب هو “الدقائق الثلاث الأولى للكون” وكانت الفقرة التي تحدث عنها الشيخ توجد في آخر صفحة من الكتاب ونصها :”إنه لشبه مستحيل للبشر ألا يعتقدوا في وجود علاقة مخصوصة بينهم وبين الكون، وأن الحياة ليست فقط محصلةَ سلسلة من الحوداث المتوغلة في الزمن حتى الدقائق الثلاث الأولى للكون، ولكن بطريقة ما، كنا في صميم تخطيط الكون، منذ البداية”.

كانت صحبتك منارا يستهدي به الطالب سالكا كان أم متعلما وكنتَ نعم المربي ونعم الأستاذ ونِعم القائد على ضيق الحصار، وكنتَ السد المنيع الذي حمى أجيالا من الشباب من دخول شرنقة النظام التي تُفرغ من يدخلها من كل ما يجعلهم ما هم عليه، فيتحولون شيئا فشيئا إلى تروس في آلة لا تُنتج غير الاستبداد ولا تَعِدُ بغير التِّيه.

في بلاد الله متسع لمن أراد الدعوة لله والتربية على هدي نبيه ومن ظن أن يُحدث في الكون غير ما أحدثه الله فيه، فتصدر للتغيير قبل التحقُّق بشرطه في الذات وتحَقُّقِ شرطه في الواقع تعِبَ و أتعب، ذلك ما تعلمناه منك فلم نرَ الحياة منازعة سياسية تنتهي بتكالب على عرض زائل، ولكن تربيةً تبني الهوينا وتطلب الله لأن الموعدَ اللهُ كما كنتَ تُردد دائما..
طبْتَ سيدي حيا وميتا، رحمك الله وألحقنا بك على العهد هادين مهديين.

‫تعليقات الزوار

12
  • Ayoub
    الأحد 16 دجنبر 2012 - 13:30

    تحية لك يا محمد الهداج‎ !!!!!!

  • naji
    الأحد 16 دجنبر 2012 - 13:49

    ها أنت تترجل عن صهوة الدعوة بعد أكثر من ثمانين حولا و لم تسأم كابن أبي سُلمى ولكنك بقيت على العهد بك جبلا راسيا يَنتقِصُ من قدرك الأقزام فتتبسم في وجوههم ابتسامة الرحيم لا المُحتقِر، لعلمك أن الصاعد في الجبل لا يراه، وكنت الجبل وكانوا المُجهَدين من سموقه والعاجزين عن بلوغ شأوه.

  • خالد المغرب
    الأحد 16 دجنبر 2012 - 14:43

    مقال رائع و شهادة نعتز بها من رجل صحب الاستاد عبد السلام ياسين رحمه الله

  • الله يرحمك
    الأحد 16 دجنبر 2012 - 15:22

    كم ضيعنا من العلماء بسبب الحكام .الم يحارب كل العلماء بسبب اعتقاد لم ياتي على هوى الحاكم و لما في معركة خلق القران بين ابو حنيفة النعمان و بين 3 ملوك الواثق و المعتصم و لا ادكر الاخير .و الشيخ ياسين جابه ملكين .و انتصر بفكره ان ربى اجيال .لست عدليا ولكني احترمهم كثيرا .لم يسرقوا اموال الشعب

  • jaafari
    الأحد 16 دجنبر 2012 - 15:45

    بارك الله في قلمك أيها الشهم. سيضل الراحل ساكنا في قلوب محبيه ليوم القيامة. ربى و أرشد ملايين من الناس قال لهم بالحال قبل المقال من هنا الطريق …

  • صدقت
    الأحد 16 دجنبر 2012 - 16:53

    نعم ما قلته.. ونفعنا الله بعلمه الوفير. آمين

  • abdou- Canada
    الإثنين 17 دجنبر 2012 - 03:02

    حفظك الله اخي هي شهادة لك و انا اشهد بمثلها. قل الرجال في زمن اشباه الرجال

  • azze
    الإثنين 17 دجنبر 2012 - 08:45

    من لم يسام هو المعري وليس بن ابي سلمى

  • خالد سلا
    الإثنين 17 دجنبر 2012 - 11:12

    جزاك الله خيرا أخي محمد ولله ذرك فقد نطقت بما يخالج أرواحنا وقلوبنا وما عشناه في صحبة هذا الرجل الكريم على الله المحب لله والمحبب خلق الله لله.
    ويكفيه أنه لم يترك وراءه الرجال فقط وإنما مدرسة جامعة مانعة بإذن الله لتخريج الرجال لغد الخلافة على منهاج النبوة إنشاء الله.

  • احمد ق
    الإثنين 17 دجنبر 2012 - 12:20

    انا من جيرانك في سلا اشتاق دائما لرايتك بمسجد السودان حفظك الله ياسيدي محمد وادام ستره عليك.
    لقد حركت مني المواجع فرحم الله الحبيب المرشد حيا وميتا , وان فراقه احرق شغاف قلبي , فاللهم ارحم سيدي وحبيب فؤادي رحمة واسعة , اللهم ابلغه مناه ومتعه بالنظر لوجهك الكريم , واربط علئ قلوب اهل بيته ومحبيه امين ,

  • غيور
    الإثنين 17 دجنبر 2012 - 23:43

    صمت وغياب طويلين لم يخرجك منهما الا موت عفوا رحيل هذا العملاق , مامات من ترك علما ورجالا امثالك , بل سيظل في القلوب والعقول .

  • abdelkhalek
    الخميس 27 دجنبر 2012 - 19:45

    لا جف قلمك ولا عقرت قريحتك. شهدت فوتقت، وكتبت فأبدعت وأوجزت فامتعت. حفضك الله ا سي الهداج. -توحشناك- عبدالخالق سلا

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42

جدل فيديو “المواعدة العمياء”

صوت وصورة
"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:15

"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا

صوت وصورة
بيع العقار في طور الإنجاز
الإثنين 15 أبريل 2024 - 17:08

بيع العقار في طور الإنجاز

صوت وصورة
مستفيدة من تأمين الرحمة
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:35

مستفيدة من تأمين الرحمة

صوت وصورة
مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:28

مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير

صوت وصورة
تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس
الإثنين 15 أبريل 2024 - 15:55

تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس