العقرب-2-

العقرب-2-
الخميس 5 يونيو 2008 - 22:39


(رواية تنشرها هسبريس على شكل حلقات)


السلام عليكم عزيزتي سعاد،


سألتني في رسالتك عن وضعي هنا.


ما الذي تتوقعينه من مهاجر سري؟ لا أوراق هوية و لا غيرها. رجل آخر لا يفصله عن العصر الحجري سوى أن يحمل هرواة و يلبس جلد النمر. لأول مرة أشعر بانفصال تام عن كل شيء يا سعاد.. تاريخي، هويتي، انتمائي، حتى اسمي أكاد أنساه. فهم بالمطعم ينادونني “إل كاباييرو بلانكو” وهي تعني الفارس الأبيض.


أنا محظوظ جدا لأنهم اختاروا لي هذا اللقب، فمن الممكن جدا أن ينادوك بأسماء ترسلك إلى السجن بعد أن تأخذك عزة النفس و تحطم أنف أحدهم. قالوا لي أن ملامحي مختلفة عن باقي المغاربة وأنني وسيم. بيدرو قال لي أنني أشبه بطل مجلة رسوم متحركة إسمه الفارس الأبيض. من يومها وهم ينادوني بذاك اللقب.


أحاول ألا أبدي أي انفعال عندما يفعلون، لن يكون ذلك في صالحي. تعبيري عن رفضي أو قبولي للأمر قد يشجعهم على التمادي، لذا أتعامل مع الأمر بحيادية تامة. أحيانا أستجيب، و أحيانا أخرى أتركهم يعانون العذاب الأدنى وهم يحاولون أن ينطقوا كلمة ” عبد الرحمن“.


على أية حال، أشكرك عزيزتي على سؤالك و أخشى ألا أكون صدمتك بالإجابة. غسل الصحون هنا شرف ما بعده شرف.


في أحد الأيام زرت مخيما للمهاجرين السريين ففوجئت بحالة يستحيل أن تصدقيها إن لم تريها. ما يحدث هنا مريع جدا يا سعاد و أشبه بتراجيديا إغريقية متكاملة الفصول.


صورة واحدة رسخت في ذهني بشدة و أصبحت تؤرقني أكثر من مرة فلا أذوق طعم النوم لليلة كاملة، ربما أكثر أحيانا. كانت هناك امرأة تلقم رضيعها ثديها وهي تسخن الماء في قبعة جنود حديدية! تحرك الماء الساخن في القبعة المقلوبة. رضيعها يبدي رغبته في الحياة بأن يمص حلمة ثديها الضامر بشدة.


كان جميلا جدا و عيناه واسعتين.


أمه كانت تنظر إلى لا شيء.


في كل مرة يهاجمني المشهد بقوة أفكر أن تلك القبعة من الممكن أن تحمل من السموم الكثير. يمكن أن تقتل الرضيع أيضا. من الممكن أن ينشأ منيعا، ربما. أبرر لنفسي ما رأيت بإجابات عديدة.


في المدارس أخطأوا عندما وضعوا لنا صورة طفل يبتسم و تحتها تعليق “ولد مجتهد”. بدل هذا، كان ينبغي أن يضعوا لنا صورة للكرة الأرضية، ويضعوا تحتها جملة ” عالم قاس لايرحم“.


بهذا الشكل، كانت استعدادتنا لاستقبال العالم ستكون أفضل بكثير.


كل هذا في الواقع لا يجعلني أستسلم. أكره أن أنتحب و أصف لك هذا العالم بالقبح، فربما أنت أدرى مني بهذا. رغم أنك بريئة و طاهرة يا سعاد، لكنني تعلمت أن أكبر معلمي الحياة هم هؤلاء البسطاء الذين نعتقد أننا أكثر حكمة منهم.


رسالتك الإلكترونية كانت قصيرة لكنها مشبعة بك. كل حرف فيه هو جزء منك. أسعدني أنك نجحت بامتياز في الدورة الأولى.


لا تعبئي بالإحباطات و الصدمات وكوني أقوى. إن ضعفت فستدوسك الحياة.


سيأتي مئات الأصدقاء ليقولوا لك أن مواصلتك للدراسة عبث. أولاد الحلال كثيرون جدا. موظفون براتب ثابت. مهمتهم في الحياة هي جعلك تتخلين عن حلمك. غايتهم هي الاستمتاع بالنظر إليك في إشفاق بعد أن تفشلي.


ساديون.. سايكوباتيون.. فاشلون أيضا.


سمهم ما شئت لكن لا تجعلي أذنيك مزبلة لتفاهاتهم.


يقول لي منير – رفيقي في السكن – أنه ليس من العدل أن يعمل حامل للدكتوراة مثلي في مطعم. أبتسم له بهدوء و لا أعلق.


أعتبر هذه الابتسامة من إنجازاتي الرائعة فعلا. ابتسامة معلبة لم أشترها من أحد بل صنعتها لنفسي.


كلما قال أحدهم تعليقا متعاطفا مبتذلا أو نصيحة متذاكية أرسم هذه الابتسامة و أسافر بذهني بعيدا و لا أفكر أبدا فيما قاله.


انتظر منير كثيرا أن أثور أو أبكي و أقول له أن الآخرين ظلموني ولم يعطوني حقي. بعد مدة اتضح له أنه فشل. بدأ يعاملني ببرود و لا يتحدث معي في أموري الخاصة. اعتبرت هذا نجاحا باهرا و شكرت الله لأنه منحني هذه الابتسامة.


سألتني عن اسم البلدة حيث أسكن الآن. البلدة إسمها ماطارو. هناك قطار يعبر كل البلدات المشابهة الممتدة على الساحل الطويل لبرشلونة. مطارو هي المحطة قبل الأخيرة. يمكنك أن تلصق وجهك بزجاج نافذة القطار و تتظاهر بأنك تفكر. لكن النساء العاريات اللائي يظهرن بوضوح على الشاطئ يحولن تفكيرك إلى أشياء أخرى لاعلاقة لها بالشرود الذهني.


لازلت لم أقبض أول أجرة لي لذا اعذريني إن لم أتصل بك هاتفيا. أيضا أريدك أن تطمئنيني على صديقي عبدو الشهير بالعقرب. قولي له أن بعد الرحمن يقرؤك السلام ويقول لك أنه اشتاق إليك ولجلستنا في مقهى الحافة، هكذا باختصار.


أشياء كثيرة حدثت و تحدث منذ وصولي. أفكر في كتابة مذكرات بما يحدث لكنني أتراجع.


الناس يعيشون الحياة و الكتاب يكتبون عنها.


لا أريد أن أكون من الصنف الثاني و لا أريد أن أعبر هذه الحياة بدون أن أترك بصمتي.


يذكرني هذا بقولة لباسكال:


” عندما نقرأ أسلوبا طبيعيا تأخذنا الدهشة والنشوة، لأننا نتوقع أن نجد كاتبا فإذا بنا نكتشف إنسانا“.


لنقل أن هذه القولة هي خلاصة ما أريده.


أريد أن أكتب ما سيقرأه الجميع.


الكتابة الموجهة للنقاد تثير غثياني.


استعمال كلمات فضفاضة لا يدرك الكاتب معناها يجعلني ألقي الكتاب في أول بالوعة.


لا أريد أن تمتلئ المجاري بكتابي، لهذا عندما أقرر أن أكتب ستكونين أول من يعلم، و ستسألين عبدو أيضا عن رأيه.


يهمني رأي هذا الرجل الذي لم أقابل مثله في حياتي.


هذا الخليط الإنساني من الثقافة و البساطة و القسوة و الطيبوبة هو ناقدي الوحيد.


لنقل أنني في آخر المطاف سأكتب له وحده، فإن راقه ماكتبت فسأطرب. وإن لم يفعل فسأكون خسرت نصف قرائي فقط، و احتفظت بالنصف الآخر الذي هو أنا نفسي.


لك مودتي و بلغي سلامي لكل من يحبني.


خطيبك الذي يحبك: عبد الرحمن –برشلونة


أنقر هنا لقراة الجزء الأول من رواية العقرب

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات