أنشودة على الـ ( فا .. سي .. دو)

أنشودة على الـ ( فا .. سي .. دو)
السبت 12 يناير 2013 - 10:27

تناقلت قصاصات الأخبار اللامرئية واللامسموعة نبأ تتويج لفظة “الفساد” بلقب ” لفظة سنة 2012″، باعتبارها اللفظة الأكثر استعمالا ورواجا وغموضا وإثارة للجدل في المعجم والخطاب السياسيين، متجاوزة العبارات السياسية الكلاسيكية من فصيل الديموقراطية والتقدمية والحداثة وأخواتها، وخاصة منذ انطلاق الحملة الانتخابية التشريعية الأخيرة وما تلاها من مواجهات خطابية، حيث كثر الحديث عن الفساد والإفساد والفاسدين والمفسدين، سواء لدى الفاعلين الحاكمين أو المعارضين، أو على صفحات الجرائد أو في الأحاديث اليومية العادية.

وقد أقيم على شرف “اللفظة المتوجة” حفل عائلي باذخ، حضرته البطلة المتوجة مزهوة، تحف بها أخواتها وبناتها، تتقدمهن الـ”محسوبية” والـ”رشوة” والـ”ريع”، وجاءت الألفاظ المنافسة تمشي على استحياء، على رأسها “الإصلاح” و “المحاربة و”التحسين” و”التحيين” و”التأهيل”. كما عرف الحفل حضور الجرائد الورقية والرقمية، والمجلات والميكروفونات والهواتف والحواسيب، والبرامج الإذاعية والوصلات الإشهارية؛ وحضر الخط الكوفي والخط الأندلسي، والبنوط الرقيقة والغليظة، وعلامات الترقيم، والأعمدة والعناوين الكبرى، وحضرت الآهات والهمهمات والحنحنات، وجمهور عريض من الجمل الاعتراضية والأساليب الإنشائية والمصادر، وحروف الجر والتوكيد، والأفعال التي لافاعل لها ولا زمان ولامكان. وقد عرف الحفل أوجه باللوحات الراقصة والألعاب البهلوانية التي أبدعتها العفاريت والتماسيح والأشباح، وتفاعل معها الحاضرون بهستيرية وانتشاء بالغين.

وغير بعيد من حلبة الرقص، وصخب المدعوين، انزوى بعض المتلصصين في زاوية مظلمة، يراقبون الحدث ويتساءلون عن سر نجاح هذه اللفظة العجيبة، وقد اختلفت رؤاهم ومنطلقاتهم. هكذا صاح الباحث البلاغي النحرير وكأنه اكتشف سر الجاذبية: ” إنها لفظة جميلة، سحرها في تحققها الصوتي المهموس، وسهولة مخارجها التلفظية، فأصواتها إما شفوية أو أسنانية أو لثوية، وجرسها الموسيقي أمر مثير، فجذرها الثلاثي “ف.س.د” يحتل موقعا متميزا في السلم الموسيقي( فا – سي – دو)، فضلا عن مرونتها الاشتقاقية، وقدرتها الفائقة على التنقل بين المجالات والحقول الدلالية والمعجمية. صدقوني، جمالها سر نجاحها”.

لم يرق هذا التفسير للمحلل السياسي الألمعي، المتواجد في كل مكان وحين، اللاهث وراء الميكروفونات: ” لا يمكن لعاقل أن يسايرك في هذه المقاربة التبسيطية، ومن العبث أن ننساق وراء هذا المظهر الحربائي. السر- يا صديقي – في لبسها وغموضها وتعدد إحالاتها، فهي تحيل على الكثير من الأشياء، دون أن تحيل على شيء محدد وملموس. تشير إلى خطر، إلى أمر مريب، إلى عدو ينبغي محاربته والقضاء عليه، ولكن ما طبيعة هذا الشيء؟ إنها تجعلنا نتيه وراء السراب. وهنا تكمن قوتها”.

قال الذي عنده علم بالكواليس وبمطابخ الخطابات: ” لا أرى خلافا بينكما، بل إنكما تتكاملان، فهي لفظة جميلة مألوفة وماكرة. ولكن، ألا ترون معي أن السر يكمن في وظيفتها وفي الموقع الذي تمنحه لمستعملها. إذ يكفي أن يتلفظ بها صاحب الخطاب ليصبح خارج دائرة المفسدين، ويسلطها سيفا على رقاب خصومه ومعارضيه، بل ويعطي لنفسه الحق في محاكمة الآخرين، حتى ولو كان عاجزا عن الفعل، قاصرا عن الإدراك. والمثير للاهتمام أن استعمالها لا يتطلب أي شروط أو قيود أو مواصفات خاصة، بل إنها ملك مشاع للجميع، وبإمكان أي كان أن يتملكها، ويدخل في زمرة المصلحين. إنها كلمة قناع. وهذا سر رواجها وشيوعها”.

أما صاحب البطن المكتنزة، فقد بدا وكأن الأمر لا يعنيه، بل ظل يجيل النظر، في استغراب، بين أفواه المتناظرين وأوداجهم المنتفخة وعرقهم المتصبب. ولما طال به الصبر وأعياه هذا الجدال العقيم، أخذ من سيجاره الكوبي نفسا عميقا، وقاطعهم قائلا: ” الكلام سهل، والتصفيق جميل، والخداع مهارة.. ولكن ماذا بعد؟. هل يكفي أن نتراشق بالاتهامات؟ هل يكفي أن ينعتك الخصم السياسي بالفساد لتكون من المفسدين؟ هل يكفي أن تصف نفسك بالمصلح، لتؤسطر ذاتك وتتعالى على الآخرين، فتتهم بدون أدلة، وتُدين بدون إنصاف؟ هل يكفي أن تقول للإصلاح كن فيكون، دون آليات إجرائية وجرأة سياسية، وإرادة قوية، وحلم مستقبلي بعيد المدى؟. أنا لا أومن بالخطاب. أنا رجل عملي، تهمه النجاعة والفاعلية، والنتائج الملموسة، التي غابت عن تحاليلكم وأنتم تتجادلون”

يستمر الجدل البيزنطي، وتستمر الكلمة وضيوفها في اللهو والعبث، وتأثيث المراسلات والخطابات، وتتناثر الأضداد والمرادفات، وصياغة الألحان والأوهام والرقصات، وأتسلل من عالم الكلمات، ومن البرامج والسياسات، وألتفت إلى حياتي اليومية، ومشاكلي الصغيرة البسيطة، لأعيش حلمي الفردي، في انتظار أن يتوقف الصخب وتهدأ الضوضاء، لنعزف، جميعا، ملحمة حلمنا الجماعي .. لكن ليس على النوتات (فا .. سي ..دو..)

‫تعليقات الزوار

3
  • berbere
    السبت 12 يناير 2013 - 11:44

    فـــــــــــــا +سي +دو=فاسي امشي بالسوسية.
    الجواب نتاع الفاسي بالنوتة :
    لا +سي +دو = لاسيدي لن امشي بالسوسية.
    اذن يبقى الحال على ماهو عليه وللمتضرر اللجوء لدار البقاء.

  • نشيد ما كا ري نا
    السبت 12 يناير 2013 - 12:36

    في رسالة على لسان الكاتب الناقد ماثيو أرنولد الى أخته عام ١٨٤٨م على نحو عابر يذكر في الرسالة ماثيو ان انجلترا متخلفة جداً عن القارة الاوروبية في الآداب المقارنة وانه يرى آداب الامم الاخرى مفاتيح سحرية للحكم على أدباء بلده
    لقد شكك دارسو الادب في قيمة الادب المقارن و لم يلق احتراما بينهم و منهم لين كوبر الذي كتب عام ١٩٢٠م متهما المصطلح انه مصطح مزيف لا معنى له و لا بنية ساخرا من تركيبه الشبيه بالمصطلحات في قولنا (البطاطس المقارنة) و يرى بروور تفضيل تسمية (الدراسات المقارنة) و المقارنة للأدب على رغم استعماله مصطلح الادب المقارن نفسه بين الفين و الحين
    بدا دستويفسكي حياته الأدبية بترجمة رواية (يوجين جرانديه) لبلزاك و شجعه في ذلك قبل استقلاله بشخصيته وولتر سكوت في الوقت الذي لعبت فيه الترجمة دورا هاما في الحركة الرومانتيكية بألمانيا حتى قال نوفاليس ان كل الشعر هوفي النهاية ترجمة.
    في معنى الادب المقارن يقول س س بروور انه دراسة للأدب باستخدام المقارنة كأداة رئيسية وانه يفعل ذاك عبر الحدود القومية اوعبرالحواجز اللغوية وما يحدث من اختلافات بين أبناء اللغة الواحدة داخل الأقطار المختلفة لايخصه.

  • إلياس - لندن
    الإثنين 14 يناير 2013 - 15:18

    مقال قيم تُحس وكأنك تقرأ لصاحب وحي القلم ، مصطفى صادق الرفاعي رحمه الله .

    في انتظار المزيد ، فلا تبخل علينا

صوت وصورة
الحكومة واستيراد أضاحي العيد
الخميس 18 أبريل 2024 - 14:49 32

الحكومة واستيراد أضاحي العيد

صوت وصورة
بايتاس وتأجيل الحصيلة الحكومية
الخميس 18 أبريل 2024 - 14:36 39

بايتاس وتأجيل الحصيلة الحكومية

صوت وصورة
هلال يتصدى لكذب الجزائر
الخميس 18 أبريل 2024 - 13:45 3

هلال يتصدى لكذب الجزائر

صوت وصورة
مع المخرج نبيل الحمري
الخميس 18 أبريل 2024 - 13:17

مع المخرج نبيل الحمري

صوت وصورة
عريضة من أجل نظافة الجديدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 12:17 3

عريضة من أجل نظافة الجديدة

صوت وصورة
"ليديك" تثير غضب العمال
الخميس 18 أبريل 2024 - 11:55 1

"ليديك" تثير غضب العمال