سنة بيضاء .. كذبة بيضاء

سنة بيضاء .. كذبة بيضاء
الخميس 17 يناير 2013 - 15:25

“ليلة بيضاء”، “كذبة بيضاء”، “سنة بيضاء”، عبارات مألوفة ومتداولة، تستعمل كغيرها من العبارات التي تستخدم أوصافا لونية، في وصف حالات أو مواقف معينة، والقيام بأفعال لغوية محددة؛ وتكتسب مع الاستعمال المتواتر دلالات وإحالات مسكوكة، لا تثير أي خلاف أو جدال. هكذا نتفق جميعا على دلالة الأرق والسهاد والحرمان من النوم طيلة الليل، حين نسمع “ليلة بيضاء”؛ كما نتفق على أن ” الكذبة البيضاء” هي كذبة بريئة، وإبداع جميل ووسيلة تقنية وتاكتيكية، يلجأ إليها للحفاظ على التوازنات واستمرار العلاقات، وتُستقبل بتساهل وإعجاب. كما أننا، أيضا، لا نختلف على أن “السنة البيضاء” تعبير عن سنة بدون محصول دراسي أو سياسي أو اجتماعي، أو تحذير استباقي من نتائج سلبية، انطلاقا من بوادر ومؤشرات ملموسة وقابلة للقياس. إلى هنا يظل الأمر عاديا، والتفاهم حاصلا وكل شيء على ما يرام.

لكن ماذا يحدث حين تتمرد هذه التعابير على الاستعمالات العادية، وتتحرر من أغلالها التعاقدية، وتنسلل إلى سياقات وعوالم غير مألوفة؟ ماذا عسانا أن نفهم ونحن نصادف، في تقرير المجلس الإداري للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، عبارة ” سيتمدد العمل بمقتضيات دفاتر التحملات السابقة مدة ستة أشهر تفاديا لسنة بيضاء”؟. هنا أعترف أنني فقدت البوصلة ولم أعد أفهم شيئا. ماذا نعني في هذا السياق بسنة بيضاء؟ نفهم، في الظاهر، أن القطب العمومي سيعيش أزمة إنتاجية؛ وأن هذه الأزمة ستكون كارثية على شركات الإنتاج، المتسلقة على جثة الشركة الوطنية كالحشرات المصاصة للدماء؛ وأن الشركة الوطنية ستكون مضطرة إلى التغذي من مخزونها القديم، وتجترُّ استهلاك المحصول المتآكل للمواسم السالفة، مما يهدد صحتها وسلامتها البدنية، ويضعف من سحرها وقوة إغرائها.

كارثة. أمر فظيع. شيء مؤلم.. كأني بصاحب العبارة يتساءل متوسلا: ” أليس في قلوبكم قليل من الرأفة والاعتراف بالجميل؟ هل تهون عليكم العشرة والحب القديم؟ بالله عليكم، لا تتركون قطبكم العمومي عرضة للتجمد والتلاشي.. لا تتخلوا عن الشركات المسكينة التي ما فتئت تتحفكم بروائعها الخالدة، وبمهنيتها الرفيعة، وحرصها الشديد على الرقي بأذواقكم والرفع من مستواكم، وانغماسها العميق في همومكم وقضاياكم اليومية أو المصيرية، وسهرها الدائم على تحسين صورتكم وموقعكم بين الشعوب؟ أمهلونا، رجاء مهلة ستة أشهر، مجرد ستة أشهر، وبعدها نفتح المجال أمام النسخة الجديدة من الدفاتر القديمة؟.

تتحدد الدلالة الأولى للبياض، في التخويف من ندرة المحصول الإنتاجي، لربح المزيد من الوقت، وطمأنة الشركات “المناولة”، وإعادة ترتيب الأوراق. وهي محاولة دفاعية، متهافتة، تقوم على المغالطة والتضليل، وطمس الحقائق والتبريرات الواهية. عن أي إنتاج نتحدث؟ أو لم تكن السنوات والعقود الماضية أكثر بياضا؟ ألا يخجل الساهرون على هذه العلب التلفزيونية حين يعيدون عرض تلك الكوارث المسماة “إنتاجات سابقة”؟ ألا يستحيي أرباب الشركات “المناولة” وهم يعتزمون الاحتجاج على الشروط الجديدة، ويرفعون عقيرتهم بالصياح والعويل والحديث عن خراب الديار، وهم الذين اقتاتوا من المال العمومي بنهم وشراهة حتى سمنوا وأثروا الثراء الفاحش؟ مقابل ماذا؟ موضوعات مبتذلة، تصورات اجترارية، متنوجات بدائية، وتفنن في الرداءة؟.

ماذا يحدث أيها السادة المتباكون والمتظلمون، لو اكتفت قنوات القطب العمومي بمواردها البشرية الطاتية، وكفاءاتها المطمورة والمركونة في الرفوف وأوقفت نزيف صنبورها السخي؟ هل تملكون القدرة على البقاء والمنافسة؟ هل تستطيعون الإبحار بعيدا عن فضاءات القطب العمومي المستباحة، واكتساب موقع محترم في فضاءات لا تعترف إلا بالجودة والتميز؟ هل تملكون القدرة على النقذ الذاتي والاعتراف بأنكم أسأتم التقدير، حين أهملتم الاحترافية والكفاءة والجودة، وآثرتم الطرق السهلة والاغتناء السريع؟ اسبحوا بعيدا إن كنتم قادرين.

وأنتم يا حراس وكهنة الهيكل العمومي، أيها المبذرون الكرام، هل كان من الضروري خلق مثل هذه الكائنات الطفيلية؟ كيف تجعلوننا عرضة لقصفهم اليومي بإنتاجات لا تتوفر على أدنى شروط المقبولية؟ كيف تضعون رهن إشارتهم ما يعزز هجومهم من بنيات ومعدات وموارد مالية وكفاءات بشرية، متغاضين عن الضحالة الفكرية والفنية والتقنية؟. ثم ما هذه الفزاعة الوهمية؟ ما هذا التخويف المرضي من دفتر للتحملات، فيه من الإنشاء والنوايا الحسنة والوعود السياسوية، أكثر مما فيه من وضوح الرؤية ودقة المعرفة. دفتر هاجسه الأكبر التنافس على حراسة الهيكل وإقامة الشعائر والطقوس؟.

هكذا يعم البياض، وتتوالى السنوات العجاف، وتتناسل الدفاتر، وتتكاثر بنات وحفيدات القطب العمومي، وتتكون لجنة وتُحل أخرى، ويظل الحديث عن الإنتاج المحلي وإصلاح الإعلام العمومي كذبة .. بيضاء.

‫تعليقات الزوار

1
  • سرائر بيضاء
    الخميس 17 يناير 2013 - 14:49

    كتاباتك سيدي محمد تروقني و اجد بها طعما خاصا لا أجده بباقي الكتابات هنا على الجريدة
    طالعت مقالتك سيدي محمد و وددت الاستفسار عن الثور الابيض

    فهل لكم به علم ام ان الثور الابيط غير وارد اساسا بساحة البياض

    و شكرًا سيدي محمد

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة