إنصافا للتجربة المغربية في الإصلاح السياسي

إنصافا للتجربة المغربية في الإصلاح السياسي
الخميس 17 يناير 2013 - 15:21

نطمئن أصدقاءنا وخصومنا أننا اليوم بكامل لياقتنا ورشاقتنا (أردوغان بصدد مرور سنوات على تجربته في الحكم)

تقديم عام

أوشكت مرحلة على أن تنتهي على الصعيدين الحكومي والنيابي، بعد انقضاء ما يناهز عام من الأداء والانجاز والتكيف ومباشرة الملفات، وانقداح روح جديدة لإطلاق أوراش الإصلاح العميق داخل الدولة والمجتمع .

ومن هذه الوجهة، علينا أن نطرح السؤال: ما المكانة التي احتلها حزب العدالة والتنمية خلال هذه المرحلة؟ وما هي حالته السياسية والتنظيمية وآفاقه في إنفاذ ما وعد به من برنامج سياسي تقدم به أمام المواطنين رفقه شركائه السياسيين؟

معايير تقييم التجربة الحكومية بين البعدين السياسي المجتمعي والتدبيري التقني

موضوعنا هذا، الذي سنقاربه بالتحليل والنقد والفحص، لا يتعلق بتقييم تفصيلي للمنجزات الحكومية التي يشارك فيها الحزب بتحالف مع زمرة من القوى الحزبية والمكونات السياسية، ولا للدور الكبير الذي قام به فريقه النيابي في المؤسسة التشريعية من إسناد ورقابة وطموح موحي برغبة في تجويد الأداء، وإنما غايتنا أن نتعرف على ذات الحزب ونختبر عافيته من زاوية النظر التنظيمية بقدر ما هي مرتبطة بالدورين السالفين، على مستوى المؤسستين الدستوريتين، وبآفاقه المستقبلية.

لقد مر الحزب، عبر تطوره التاريخي، بمراحل سياسية/تنظيمية مختلفة، كان في كل منها يكثف في ذاته الإشكالية المركزية التي يواجهها المجتمع المغربي ككل وفي الصميم منه، وكان يعبر في آن عن جوابها المعين والمخصوص الناجع والمطابق للدينامية السياسية والمجتمعية ولمسار قضية الإصلاح الشامل داخله .

ليس مبالغة القول، أن لا حزب أكثر من العدالة والتنمية، في أصوله وراهنه، كان يحمل في جوفه سؤال المرحلة الحاسم والمصيري، كما حمله هو، وأبدع من أجل ذلك خطا سياسيا واضحا وفريدا، وانتهج أسلوبا في النضال الديمقراطي صلبا وصعبا في ذات الآن .

ولذلك كان هذا الاقتران أو التلازم الذي لا فكاك فيه بين المسارين والتاريخين الحزبي والمجتمعي. فهذه الحقيقة تبين لوحدها، كم هي تافهة وضحلة تلك الأحكام الزائفة والمقارنات السطحية والرخيصة، التي تصطنع اللبس والخلط وتفتعل سياسة الضباب والغيوم وتنفي الحدود والفواصل بين البرامج السياسية الحزبية المطروحة في الساحة الوطنية، زاعمة، بلا عناء فكري، تشابهها إلى حد التماهي، وتكرارها الرتيب لنفس الشعارات والمطالب والعناوين إلى حد الركاكة والرداءة، وكأن الخطاب السياسي والفكري لوحده وفي انعزال عن السياقات وتعال عنها (ناهيك عن مضامينه)، كل ذلك يقرر لوحده في منحى السيرورة المجتمعية ويرسم خط السير سياسيا، ويحسم في قضية الإصلاح السياسي العميق للدولة .وكأنه لوحده كاف لمعرفة هوية هذا الحزب أو ذاك، بدون الغوص أبعد في ما يمثله عضويا وفعليا في الحركية التاريخية الموضوعية للمجتمع المغربي.

وبدون مغالاة ولا نية في الإقصاء والمغالاة في تنزيه الذات، فإني أزعم أنه بإمكان المرء أن يلغي من تصوره وجود أغلب الأحزاب المجهرية القائمة دون أن يحدث ذلك أي انزياح أو تململ في الخط البياني الذي صار عليه التاريخ السياسي للتجربة الديمقراطية ببلادنا. غير أن ذاك المسار لن يظل على حاله، قطعا، لو تصورت تطورا بيانيا للماضي والمستقبل يلغي العدالة والتنمية من مؤشرات إحداثياته السياسية وتطوره المجتمعي العام.

هذه الخلاصة التاريخية هي ما عنيته بالضبط بالعنوان أعلاه أبلغ مما يروج داخل أوساط الرأي العام، ذلك لأنك إن أردت استكشاف الميولات الموضوعية الحقة لتطور المجتمع المغربي، فلا مناص من أن تأخذ الصورة في كليتها التاريخية، وبذلك الاقتران أو التلازم الذي أشرنا إليه، حيث قوة البناء الحزبي من قوة البناء المجتمعي، وتراجعه من تراجع المجتمع ورخاوته من رخاوة المجتمع.

وحيث لا تقدم للمجتمع المغربي في الحصيلة السياسية النهائية بدونه، على الأقل في نطاق المعطيات القائمة. بل إن حملات الهجوم التي يتعرض لها حزب العدالة والتنمية في كل صغيرة وكبيرة، لحسابات مختلفة، هي دليل اللاشعوري من قبل منافسيه وخصومه على دوره ومركزيته في الساحة الوطنية، إذ هي، كما يقول المناطقة الرياضيون، إثبات أو برهان بالنفي أو بالاستحالة أو بالخل.

سنترك جانبا، تعداد منجزات الحكومة الحالية، مع علمنا المسبق، أننا لو عرضنا كل أوجه التقدم النسبي، بلا مكابرة ولا تزيد، حتى اللحظة الماثلة أمامنا، ولكنه بالتأكيد، المنجز النوعي غير المسبوق الذي تم التوصل إليه في كل الأوراش المفتوحة، والتي لا مثيل لها في مقارنة مع الماضي المؤطر للتدبير الحكومي من داخل النظام السياسي المغربي، فإننا سنواجه حتما باعتراضات عدمية مراهقة نافية تبرز وتضخم النصف الآخر الفارغ من الكأس، مادام مفهوم التقدم المبني على التراكم والتدرج والتمرحل غير وارد منهجيا في رؤوس تستهويها القفزات النوعية المطلقة والسابحة في الهواء والبعيدة عن منطق الممكن في الفعل التاريخي، والآتية من فراغ والذاهبة إلى عدم، والماسحة للطاولة .

المنجز السياسي في المرحلة بين النقد الموضوعي والمحاكمة المجانية

لنترك إذن هذه المحاكمة المجانية المجانبة لمعيار النقد الموضوعي المبني على الفرز بناء على منطق التاريخ، ولننأى بأنفسنا عن كل المماحكات المتفرعة عنها، والموصولة بداء الطفولة السياسي الملازم لحركات التغيير السياسي عبر التاريخ، لكي نبرز من جانبنا قضيتين أساسيتين قلما يشدان الأنظار إليهما كما يجب:

أولا: منطق الشراكة والوفاق الوطني منهجا للبناء الديمقراطي

من أبرز المنجزات التي حققها حزب العدالة والتنمية في مسيرته النضالية الديمقراطية الجارية أنه يعود له الفضل الأكبر في تدشين، واحتضان، وإنماء، وصون ثقافة مجتمعية ديمقراطية توافقية ائتلافية تعمق الشراكة في المشترك البرنامجي، طالت مفاعيلها وتأثيراتها كل القوى الحية في هذا المجتمع المنعطف صوب البناء الديمقراطي، هذا بالطبع بجانب جملة من القوى السياسية والمكونات الحزبية الحقيقية النابعة من رحم الشعب المغربي.

نعم، لقد كانت الأطروحات الديمقراطية السياسية موجودة (وهي ليبرالية كسيحة على كل حال، ويسارية مغامرة بالإجمال) حتى في أوج زمن الصراع الحاد على السلطة، والتنازع المحموم حول المشروعيات بين مكونات المجال السياسي، بكل التجاوزات ومظاهر الغموض التي اتسم بها الخطاب السياسي والفكري لتلك القوى في إبانه، وحيث كان الحزب المصارع الذي يتحمل لوحده أكبر تكاليف تلك المرحلة الموسومة بالنكوص الديمقراطي والتراجع في الحياة العامة ونضوب قارة التسيس .

ولكن، ألم تكن تلك الخطابات السياسية بمختلف مرجعياتها، الليبرالية الكسيحة، واليسارية الموغلة في المغامرة والرخاوة فيما بعد، في ذلك الزمن السياسي الصعب والمكلف، زمن الرصاص كما درجت بعض الأدبيات على تسميته وتوصيفه، مجرد تعبير عن مصالح فئوية ضيقة أو نزوعات نخبوية هامشية، بينما كان حزب العدالة والتنمية، وبما كان عليه خطه السياسي المشارك وما يمثله داخل الطيف الحزبي والحركي من عكس تطلعات التيار الوسطي المعتدل المندمج بسلاسة وهدوء داخل النسق السياسي المركزي في النظام السياسي المغربي، بدون أي إضافة لتقييماتنا الحالية البعدية على تاريخ اندراجه داخل السيرورة الحاضرة لتاريخنا السياسي.

ولقد جسد هذا الخيار المعبر التاريخي والجسر العضوي لتجلي روافد وطموحات الكتلة الشعبية العريضة في تطلعاتها ووجدانها، وفي استطاعاتها من أجل النهضة الشاملة. ثم كان الحزب من جديد، وفي شروط تاريخية أخرى، سباقا لاستلهام أفقها، فانتقل ونقل معه الكتلة الشعبية العريضة، إلى خط النضال الديمقراطي من داخل المؤسسات التمثيلية، وكرس بعد ذلك انحيازه الديمقراطي والاصلاحي على أساس الشراكة في القرار العمومي .

وفي جميع تلك الأطوار، كان الحزب بحق جسر العبور المجتمعي نحو تحصين الاستقرار المجتمعي، وتعميق البناء الديمقراطي. وبهذا المعنى، اكتسبت الديمقراطية السياسية والتمثيلية ولأول مرة، على يد العدالة والتنمية، وعبر الكتلة الشعبية العريضة التي اختارته وانحازت لأطروحاته ومشروعه المجتمعي والسياسي العام، وبأفق تضامني متكامل، المضمون الديمقراطي الحق.

قصدي من كل ذلك، أن العدالة والتنمية اضطلع بدور تاريخي حاسم، ليس بمقدور الأرقام النسبية أن تبينه، أو أن تفصح عن نوعيته ومداه البعيد وأفقه الأكيد، ذلكم هو المنجز الثقافي السياسي الديمقراطي التوافقي الأبرز والأعمق والأهم، والذي بدونه لا قياس لأي منجز آخر ولا طائلة منه، سواء كان حزبيا أو حتى حكوميا.
ثانيا: الاستقرار السياسي بأي معنى

لم يكن الاستقرار السياسي من مفردات الفكر السياسي المغربي، إلا من الزاوية الأمنية القمعية لجهاز الحكم، وللتسلطية المستوطنة داخل النسق السياسي المركزي في المغرب. وهي ليست فكرا، ولا كانت ضمانة للأمن لا في حينها ولا في المستقبل السياسي للنظام الملكي ذاته كرمز لاستمرارية الدولة المغربية في التاريخ .

هنا أيضا، وبحكم طبيعة توازنات المجتمع المغربي، وبفضل سياسة التوافق الوطني التي تم نهجها في مطلع تسعينيات القرن المنقضي، وتم بموجبها الإدماج السياسي لأكبر قوة معارضة وقتذاك وتم تحقيق التوازن السياسي داخل النظام عينه بتشكيل تجربة للتناوب التوافقي استقدمت من أجل إنجاحها مجمل الطبقة السياسية بالبلاد، باعتبار ذلك معبرا لازما لتكريس انتقال سلس وهادئ للملك والحكم،

ولقد بات الاستقرار السياسي المنتج والمبني على الانفتاح السياسي المراقب والمسيج (لا القمعي) حقيقة واقعة في بلدنا اليوم، كنموذج يحتذى .
فلا غرو في مثل هذه الظروف السياسية المناسبة، أن يفشل، أو ألا يجد اللاستقرار والنزعات المغامرة في بلدنا مرتعا لها أو قاعدة انطلاق لها، رغم ما قد تشير إليه الاعتقالات المتكررة من فجوات لنُطف كان بالإمكان استغلالها لولا البيئة السياسية المستقرة والمنتجة والمفتوحة.

تساؤلات مشرعة على المستقبل بصدد شرط الاستقرار في الاصلاح.

وبالمناسبة، فإني، عند كل واقعة إرباك فعلية لمشاريع إصلاحية، بين حين وآخر، أو أمام أي إمكانية انسداد سياسي، أتساءل: أين ذهبت عقول أولئك العدميين والناقمين على تجربة الإصلاح السياسي في المغرب، عندما كنا ندافع عن سياسة الوفاق الوطني في بدئها، وإمكانية اللقاء التاريخي بين قوى الدفع الديمقراطي، ولو في شروط ديمقراطية غير ناضجة ولا معطاة ولا كاملة، ومن أجل استمرارها، درء، من جملة الحسابات، لاحتمالات هذا الخطر النكوصي التراجعي المحدق؟ أين عقولهم، بالأمس واليوم، وهم لا يرون في هذا التوافق السياسي القائم اليوم، بنواقصه وتقدماته، سوى ما يسمونه بالمخزنة الزاحفة، بينما لا يرون الزاحف الحقيقي الذي ما زال يهدد استقرارنا وكياننا الجماعي، الذي هو الاستبداد والنكوص وتطلع قوى الردة لانتزاع المبادرة السياسية من جديد، والإتيان على ما تبقى من فسحة انفتاح سياسي في ديمقراطيتنا الوليدة؟

لم يعد إذن الاستقرار السياسي مجرد هدنة عابرة، ولا بالأحرى مرادفا لسياسة أمنية قمعية، بل صار غاية ووسيلة منتجتين لنماء الديمقراطية والتقدم المجتمعي .وفي هذا السياق، يعتبر حزب العدالة والتنمية أبرز أركان بناة هذا الاستقرار بالمعنى الذي سلف في المرحلة الانتقالية التي يمر منها المغرب، فكرا وعملا وانحيازا استراتيجيا وموقعا تنفيذيا.
اخترت من قضايا الحصيلة هذين المثالين غير المرئيين في لغة الأرقام وفي السجال السياسي القائم والدائر، والذي يلغي قضايا العمق في المنجز السياسي في التجربة الحكومية الحالية في المرحلة التي يعبرها التطور السياسي لبلدنا. وهما في رأيي الأساس الصلب لما تحقق، ولما سيتحقق في المستقبل، بإذن الله.

أعود فأقول، إن ما لفت نظري كثيرا، ليس الجدال الدائر حول الحصيلة، الصحيح منه والكاذب، ولا ما يروج له في الحملات الإعلامية المتأججة والمصطبغ بعضها بالكيد والافتعال، ولا تلك الاستثارات المزعومة والمشكوك في صدقيتها للرأي العام الوطني. وإنما أن يجري كل ذلك، في ظرف زمني كان فيه حزب العدالة والتنمية يملأ الساحة السياسية والجماهيرية وحتى الانتخابية، أكثر من سواه، بنشاطية تنظيمية متلاحقة التظاهرات والفعاليات، والتي كانت إعلاميا أحق بالعناية والدرس لمضامينها التي تزرع الأمل وتحفز العزائم والإرادات، لو تلقفتها آذان صاغية، وأنظار ثاقبة، وعقول مبتكرة ومفكرة، وضمائر حرة وغيورة، لكن، هيهات.

دور العدالة والتنمية في دعم مسار الإصلاح العميق للدولة

وفي هذا الصدد، سأمر بسرعة على بعضها، علّ هذه العقول والضمائر تستدرك ما فاتها من قدرة على الرؤية الحصيفة المنصفة والمتوازنة لمجمل الدينامية السياسية والجماهيرية، والتي أعادت لجزء معتبر من الشعب ثقته بالعمل السياسي النبيل وصالحته مع تدبير الشأن السياسي العام من موقع المشارك والمساهم، بل والحامي لاختياراته الديمقراطية التي صدرت العدالة والتنمية واجهة الفعل العام .

أولا، لأشهر متتالية، شهد الحزب دينامية تنظيمية ملفتة وغير منقطعة وصاعدة ومتألقة جماهيريا، فقد عقد الحزب، وربما دون غيره، سلسلة من المؤتمرات الجهوية في كل جهات المملكة. إضافة لمؤتمره الوطني والدورات العادية لمجلسه الوطني والمؤتمر التأسيسي للقطاع النسائي والملتقى الوطني للشبيبة .

وفي هذا المضمار، فإن كل من حضر هذه التظاهرات إلا ويشهد بنجاحها المرموق من حيث التنظيم والحضور والنتائج الأدبية، وثائق ذات جودة عالية: الأطروحة كنموذج، والتمثيلية الاجتماعية المتنوعة التي تعكس انغراسا شعبيا وحضورا وازنا في المشهد السياسي العام .ولم تكن حشدا لأرقام بشرية مزورة جلبت عرضا لتزيين مشهد تلفزيوني استعراضي وكرنفالي عابر، بل كان المؤتمرون مؤتمرين لفظا ومعنى، باعتبارهم منتخبين من قواعدهم بعد أن أبلوا بتفاوت في تجاربهم النضالية الحزبية، البلاء الحسن والكسب الأوفى على وجه الإجمال .

وكانت آخر هذه التظاهرات التنظيمية المتتالية الناجحة، المؤتمر الجهوي للحزب في الأقاليم الصحراوية خصوصا، والذي لا جدال في أنه شكل اختراقا ملفتا وجسد تظاهرة حزبية فريدة في المنطقة، ديمقراطية وخبيرة بمجريات الأمور على مستوى ذاك الصعيد، بل إنه يعد فاتحة للعمل الحزبي الحق والعميق في هذه الأقاليم وبالذات في هاته المرحلة الموسومة بالانتقال الديمقراطي، على غير ما درجت عليه التقاليد السابقة في هذا الشأن، ولأسباب سياسية معلومة وبفعل ماض سلطوي معروف لدينا جميعا.

ولأن الموضوع الذي لا يزال يشد اهتمام الإعلاميين على غيره من المواضيع الأخرى الحساسة، وهو موضوع الديمقراطية الداخلية والشفافية الحزبية، والذي هبط به جزء من الإعلام الخاص إلى درك واطئ وارتكس به إلى محاولة لفت الأنظار صوب بعض المشاداة هنا أو هناك. فإن وقائع مؤتمرات الحزب، بأجمعها، تؤكد وبأحرف كبيرة، على أن هذا الاشتراط الحيوي، إن كانت ظروف سابقة لم تسمح في سالف العهد بالجريان العادي لآلياته الكاملة، فإنه أضحى في الظروف الصحية الجيدة التي يتمتع بها المشهد الحزبي اليوم، جزءا لا يتجزأ من ميكانيزمات الحياة الحزبية الداخلية بدون عقبات أو إكراهات خارجية أو تدخلات لقوى سلطوية معلومة في الشأن الحزبي، وأكثر من ذلك، فإن أغلب العمليات الانتخابية التي جرت في المؤتمرات الجهوية لم تراعي في معظمها، بشكل تلقائيا، التوافقات بين الفاعلين والحساسيات المختلفة، بل شكلت علامة نضج ثقافي وسياسي ديمقراطي ينبغي التشديد على أهميتها واغناء المشهد الحزبي العام بخبرتها وعبرتها. لأن الديمقراطية الحزبية الحقيقية لا تأخذ في مسلكيتها نهج التوافقات الضمنية أو الصريحة والترتيبات المسبقة، لأن ذلك ينم عن عقلية استبدادية مبطنة، تنفر في المبدأ من حق الاختلاف وتنبذ التنوع والتكامل والتضامن، وبهذا لم تتحول الديمقراطية في خبرتنا الحزبية داخل العدالة والتنمية الى أداة اقصاء متتالية، تأكل من وحدة الحزب وتنخر كيانه الجمعي، وتذهب بهيبة كيانه الاعتباري كما نرى ذلك في مجمل الطيف الحزبي الماثل داخل المشهد السياسي العام .

ثانيا: يعتبر الحزب مؤسسة للتكوين وتعميق الدراسات وإشاعة الأفكار وإنتاجها باعتباره مثقفا جماعيا، يضم العشرات من المثقفين والمتعاطفين مع مشروعه الفكري والسياسي المهتمين بالشأن الثقافي بكل أصنافه. ولقد وضع الحزب لذلك برنامجا غنيا وطموحا سرعان ما سيباشر تنفيذه بتظاهرات فكرية متلاحقة وقياسية بالنسبة للمدة القصيرة التي قضاها عمر التأسيس بالنسبة لهذه التجربة.

وما يهمنا في اللحظة، ليس أكثر من التقاط الدلالة الكبيرة لهذه المؤسسات الفكرية والتكوينية والتأطيرية، تاركين طموحاتها وبرامجها للظهور في المستقبل القريب، إن ذلك يعني اهتماما أكثر من أي وقت مضى بالشأن الفكري والنقدي والإنتاج النظري المواكب للدينامية السياسية في المرحلة، وإكساب الحزب بعدا نظريا استشرافيا وعمقا يلهم الممارسة ويعمقها ويجذرها على مستوى البناء الفكري والخصب النظري .

الدلالة الكبيرة لروحية توجهنا في المرحلة، هي وعي الحزب الحاد بضرورات التكوين الفكري والبناء الإيديولوجي في البناء الحزبي الشامل لنموذج حزبي عصري وحديث، وفي صون وحدته الداخلية وصيانة تماسكه الفكري وتحصينه أثناء الممارسة السياسية من موقع السلطة، وهو إشارة إلى الدور الخاص والحاسم للجبهة الفكرية والثقافية في التقدم المجتمعي العام والتطوير الحزبي المميز، لاسيما في مواجهة واجتياز حالة التأخر التاريخي الذي عليه بلدنا.

إن سيرورة التحول إلى حزب حديث مشارك ومندمج في الدولة، أو بالأصح، إلى حزب ذي مهام مجتمعية تنويرية، وفي شروط وطبيعة المرحلة الجارية، قد تجلب معها جملة محاذير نجد في طليعتها: توغل الانحطاط الإيديولوجي والفكري والأخلاقي داخل البنية الحزبية والنخب القيادية والمسيرة والتدبيرية، حيث تصير فيه، ومعه أو تُرفع، البرغماتية (بحسبانها معادلا للمنفعة الآنية المادية والرمزية) إلى مرتبة الإيدولوجيا العامة للحزب، عوض أن تكون مجرد حيثية أولية في منهجيته الفكرية وتصوره الفكري العام.

ثالثا: في عملية متميزة في حياتنا الحزبية، سيطلق التنظيم الحزبي حملة منظمة وممرحلة تحت عنوان الانفتاح، وسنمد من خلالها جسور الحوار والتواصل المباشرين مع كل الفئات الاجتماعية وقوى الإصلاح من الطاقات الوطنية والأطر النوعية المغربية، مشرعا أبوابه التنظيمية لها لاستقبال آلاف المنخرطين الجدد الراغبين في المساهمة في الإصلاح الوطني الشامل والولوج للعمل السياسي النبيل من بوابة الفضاء الحزبي. إننا سنقدم على هذه الخطوة ونحن نستحضر أن سنوات القمع المتتالية، وعمليات غسل الدماغ ومحو الذاكرة الوطنية التي مارستها السلطات في مرحلة الاستبداد لعقود طوال بشتى الوسائل الديماغوجية، والتشويه المتكرر للإرادة الشعبية، والحصار والتخويف من أي عمل سياسي جاد، وممارسة شتى أشكال التجهيل السياسي لعقول المواطنين، كل ذلك لم يفلح ولن يفلح بالقطع، رغم طول الزمن، في اجتثاث الصورة النضالية التاريخية التي كرسها وغرسها العمل النضالي الحزبي المناضل والمثابر في الوجدان الوطني، والذي يعد حزب العدالة والتنمية في طليعته في المرحلة الحالية التي تمر منها البلاد .

إن الإقبال الكثيف على حزب العدالة والتنمية من قبل كل الفئات والشرائح الاجتماعية، وفي جل المناطق والجهات، والنجاح المحسوس الذي حققه في خطواته التأسيسية على امتداد المعارك الانتخابية وغيرها، هو في حد ذاته أكبر استطلاع للرأي يؤكد الثقة التي يتمتع بها الحزب من لدن كل فئات الشعب، ويبرهن عن عمق مخزونه الشعبي الذي لا ينضب.
اكتفيت في وصف الحالة الراهنة للحزب بهذا القدر من المؤشرات، تاركا جملة من القضايا الأخرى لا يتسع لها المجال على الرغم من أهميتها في الحياة الحزبية. لكي أتمكن من ختم هذه المقالة بكلمات قليلة عن الآفاق.

قد يجول في ذهن البعض، أننا نتحدث عن وضعنا الحزبي بالكثير من الاطمئنان واستدعاء خطاب الارتياح الزائف، بينما هناك الكثير من الإشكالات التي مازالت تنتظر أن يخوض الحزب غمارها، لكي يكون في مستوى الآمال والطموحات الملقاة عليه. وهذا حق لا جدال فيه.

إنما نشدد، قبله وبعده، على المنهجية العقلانية في قراءة الوضع السياسي العام والمجتمعي، والتعاطي مع كل القضايا التي مازالت عالقة، بحيث ننطلق في ذلك من أن الاتجاه العام لمسيرة الحزب الحالية هو اتجاه التقدم والنمو والتطور. وإن الوضعية الذاتية بالتالي ليست في حالة التراجع والنكوص والتأزم.

من هذه الزاوية إذن ينبغي إدراج وموقعة كل القضايا والمتطلبات العالقة. وغير خاف على أي منصف أن عملية التقدم في أي مجال كان، من طبعها أن تدفع بممكنات على حساب ممكنات أخرى يأتيها الدور وتنضج إمكانيات حلها في ما بعد.

على سبيل الختام

نعم، وبهذا المعنى، فإننا نردد جميعا: فليطمئن أصدقاؤنا وخصومنا، فإن حزبنا اليوم، بعد سنة من ممارسته للتدبير الحكومي ومباشرته للإصلاح السياسي من موقع الحكم، بكامل لياقته السياسية والجماهيرية ورشاقته التنظيمية والعملية

وفي كلمات قليلة، فإني ألخص الآفاق بقولة جامعة: إن عملية الإصلاح التي يقودها الحزب، بمعية شركائه، على كل المستويات، أمست بحاجة ملحة إلى نفس نهضوي مجتمعي صاعد من تحت .

ولكي لا أضيف كلمة أخرى تزيد من التضخم اللفظي في الخطاب السياسي المتداول، كما جرى الشأن مع كلمتي الحداثة وقبلها الديمقراطية، فإني أخص المعنى المراد بالنفس النهضوي المجتمعي: طرح كل الأفكار والمشاريع التي من شأنها أن تجعل من الكتلة الشعبية حاضرة وفاعلة بقوة وكثافة في الدفاع عن الإصلاح وإنمائه وحمايته.
وهو ما نطمع في توضيحه بمقالة أخرى لاحقة.

‫تعليقات الزوار

4
  • fedil brahim
    الخميس 17 يناير 2013 - 17:52

    نطمئن أصدقاءنا وخصومنا أننا اليوم بكامل لياقتنا ورشاقتنا
    عندما يسوس النظام مصداقيتكم كما فعل بالاتحاد الاشتراكي وتنزل شعبيتكم الى اسفل السافلين انذاك سنرى فعلا هل بقيت لياقتكم ورشاقتكم ام اسدل الوزراء احناكهم وكروشهم بعدما اكلوا من خنزير الكراسي الوثيرة وصموا اذانهم عن الشعب بعدما استانسوا نعاماس والانحناء امام الاعتاب الشريفة واكثروا من التخوين والمؤامرة ضد الاصوات الحرة
    نقول هذا بعدما هرول حزبكم المخزني العتيد الى السلطة دون ضمانات حقيقية ودستور ناقص عمدا و تزكيتكم للاستبداد عبر الدود عن امارة المؤمنين وتقييد حرية العقيدة
    اما الشركاء الذين تحدثت عنهم الذين يشاركونكم التبذير فسمعتهم معروفة وهم الذين اوصلوا المغرب الى وضعه الكارثي الحالي الحركة الشعبية وحزب الاستقلال.
    الدين افيون الشعوب والشعوب لابد ان تصحو يوما بانتهاء مفعول البنج الذي خدرتم به الناس في دعواتكم وادعائتكم الانتخابية

  • ابراهيم الورزازي
    الخميس 17 يناير 2013 - 21:46

    من يريد أن يدفن رأسه في الرمال، فليفعل. أو ليقم بحرب استباقية ويهاجم منتقديه قبل أن يأتي انتقادهم حتى، على منوال:"سنُواجَه حتما باعتراضات عدمية مراهقة نافية تبرز وتضخم النصف الآخر الفارغ من الكأس". لكن ذلك لن يغير من مجرى الأحداث شيئا.
    "العدمية" كانت تطلق على "اليسار" الذي كان يرفض الدخول إلى اللعبة السياسية حتى لا يكون "نخبة جديدة" تضفي الشرعية على سياسة النظام المخزني الطبقية. وكان هذا المصطلح يطلقه التيار الآخر الذي ينادي ب"الإصلاح من داخل مؤسسات الدولة". فماذا كانت النتيجة؟
    دخول هذا التيار إلى البرلمان، ثم إلى الحكومة، واتخذ قرارات سماها "جريئة"(كما يصف حزبكم اليوم "الزيادة في المحروقات" وغيرها) لأن احزاب الإدارة لم تستطع اتخاذها قبلهم. وفي الأخير دُجِّنت أحزاب الكثلة "اليسارية"، وأصبحت أكثر مخزنية من المخزن. والنتيجة: أن الحزب الواحد تشتت وأصبح أحزابا وتيارات ونقابات كحال الإتحاد الإشتراكي الذي فقد مصداقيته النضالية اليوم جماهيريا.
    أنتم اليوم تقومون بما قامت به أقلام الإتحاديين خلال تجربة سميت بالتناوب.
    وهذه"نوبتكم".
    عدمي مراهق أفضل ممن يعيش تجربة واحدة مرتين.

  • أبو إلياس
    الخميس 17 يناير 2013 - 23:52

    بسم الله الرحمان الرحيم
    السلام عليكم ورحمة الله
    الحكم على أي تجربة بشرية أو اجتهاد سياسي مهما قدر الله تعالى لأصحابه من النباهة والعلم والحلم لا يستقيم إلا إذا كان أصحابه يملكون المنهج في التقويم والتنقيط بناء على الاعتبارات الشرعية والعلمية والواقعية.
    الاسلاميون في بلدنا ماضون في الاصلاح إن شاء الله لأن البلاد بغير هذا الاختيار ـ وإن اتفقنا أو اختلفنا على محدودية مساحة التجوال السياسي فيه وضيق أو اتساع ما جاء به الدستور الجديد ـ ماضية إلى المجهول وربما إلى فتن تعيدنا سنين طويلة إلى الوراء. فما حصل أقل ما فيه من الخير حقن الدماء وإتاحة الفرصة أمام جيل من الإسلاميين الذين تربوا في أحضان هذا البلد ولم يتنكرو لأصالته وإسلامه الذي جاءه مع القرن الأول الهجري فأشاع فيه الخير والنور وأصبحت الأمة في أمان وسلام كلما اقتربت من الإسلام.
    نور الله قادم أيها الأحباب الكرام والإسلام باق ما بقي الليل والنهار وليس بالضرورة محتاجا إلى الإسلاميين ليرفعوه وإنما هم وسائل وأسباب في طريق عودة الأمة إلى رشدها وتصحيحها لأزمتها في المنهج التي أتت على خيراتها لسنين.
    شكرا لصاحب المقال ونسأل الله التوفيق للإخوان

  • محمد سعيد
    الجمعة 18 يناير 2013 - 10:43

    يا سي الرحموني
    كان الشارع المغربي ينتظر فترة الخلاص التي كان يراها في الحزب الذي تنتمي إلية وتتبنى أفكاره نتيجة الاحتقان السياسي الذي تعرفه الأحزاب السياسية المغربية المريضة ونحن الان نرى أننا وقعنا في أكبر خذعة عرفها تاريخ المغرب نتيجة الحصيلة الكارثية التي تصفونها بالتاريخية.
    كفاك كذبا أخي الرحموني على الشعب وانظر وأسقط ما تقوله على واقع الحال.

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس