أكثر من درس مفيد في موت محمد سعيد

أكثر من درس مفيد في موت محمد سعيد
الأحد 7 أبريل 2013 - 00:30

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وإخوانه وحزبه

منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي والشيخ الجليل يحتل مكانة سامية في قلبي، ولكتبه القيمة وأفكاره النيرة أثر إيجابي على تفكيري ونمط سلوكي. كنت يومها شابا يافعا مندفعا متفاعلا مع حركة الاسلام وثقافته ورجالاته. وكان الشيخ رحمه الله من النماذج القليلة المميزة التي جاوزت شهرتها حدود المكان لتعانق إعجاب المسلمين ومحبة المؤمنين في كل مكان.

وكانت السيرة النبوية التي كتبها بقلمه الأصيل، الصقيل الجميل حضور مطرد في جلساتنا التعليمية طيلة عقود، نستلهم منها الخبر الموثق، والفهم المدقق المعمق لعلم نافع منشئ لعمل صالح، ومسهم في بناء شخصية إسلامية ربانية معتدلة وسطية سوية.

وكان لخطابه الحجاجي المقنع، وأسلوبه العربي المشرق الممتع، وروحانيته المقتبسة من مشكاة النبوة بصمات إحسانية لا ينكرها إلا جاحد، مما جعل من مؤلفاته مؤلِّفات جامعة مانعة رائعة لصوت معروف، من رجل أثبت الأصول ونسج على منوال الفحول ذكرَ كل لسان ملء كل جنان، منبت أحرار ومشرق أنوار.

نقد أوهام المادية فجرَّح وشرَّح، ووقف على حقائق كبرى اليقينيات الكونية فوضح وأفصح، وكتب السيرة النبوية والذاتية فألمح وأفرح، وألف في المرأة والشباب والحضارة الغربية والمذاهب والمعرفة والعبودية والحكم العطائية فشرح ونصح ورجح وبالخير نضح، وسبَّح لله وبالحق صدح ولا شك أنه أفلح وإلا ما كان ليتصل سنده العلمي، وتتواتر عنه الأخبار المبشرة المؤشرة على أنه شامة المجالس، وسلوة الأنفاس في المنابر والمحاضرات لما له من حضور لافت، ونورانية مائزة حائزة على رضا الجمهور في المنتديات والندوات والمؤتمرات.

أذكر أنني في أول مؤتمر علمي حضرته وكان بمدينة فرانكفورت الألمانية مع ثلة منتجبة من العلماء والمفكرين كنت أقلهم علما وشهرة وإشعاعا جمعني به المولى الكريم الحكيم في أسبوع حافل حاشد. تعرفت إليه من خلاله عن قرب فكان نعم الرفيق العفيف الشفيف الحصيف، اللبيب الحبيب الأريب. رجلا كان قليل الكلام، قريب الدمعة، سديد القول، هادئ الطبع، حسن السمت، موطأ الكنف، خفيف الظل والروح والحال.

وكان القيمون على المؤتمر قد اختاروا للرفقة في السفر الى مدينة قريبة من فرانكفورت تلبية لدعوة غذاء من مغربي سوسي محب اثنين اثنين مع سائق دليل، فكان حظي عظيما ان شرفت برفقة الفقيد الحميد محمد سعيد، رفض أن يجلس في المقعد الأمامي جنب السائق وأجلسني مكانه بإصرار محرج، وعبرت له خلال رحلة السفر عن فرحتي بهذا القدر الإلهي الحليم، وبهذه الرفقة الصالحة التي أحسد عليها من قبل الملايين، فبادلني نفس الشعور بتواضع السنابل الممتلئة المنحنية الحانية، وذكرت له احترام المرشد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله لشخصه الوقور، وتقديره لعلمه وفهمه وتؤدته وحلمه، فقال: ” حسن ظن منه وإلا فإني عبد فقير أرجو من العلي القدير العفو عن الزلات، والتجاوز عن التقصير: ثم قال: زرت المغرب مرتين أو ثلاثة، وكنت أرغب في زيارة الأستاذ الفاضل في كل مرة لكن الظرف لم يسمح يومئذ بالزيارة، وأرجو أن تتاح في قابل، قلت له راغبا في تمديد دقائق التواصل الغالية، واستثمار اللحظة التاريخية فيما يعود علي بنفع بركة الرجل ومحبته ودعائه : وأنا زرت الشام مرة واحدة وبخاصة منه “دمشق” المحروسة، فسأل في استغراب وإعجاب وابتسام: متى؟ قلت : في المنام، وقصصت عليه الرؤيا التي زرت فيها دمشق وقد عن لي أنها تشبه “فاس” في كثير، في دروبها وأزقتها وأحيائها، وفي دورها ومساجدها، وعرصاتها وحوانيتها، فأكد لي صحة المقارنة، وصدق ما رأيت وعلق قائلا ومؤولا: الرؤيا تبشر بفتح الشام إن شاء الله، وهو وعد نبوي منتظر علم الله كيف ومتى.

لم يخامرني شك أبدا أن تأويل الرجل مصدق مؤصل وموثق، وأنه بإذن الله واقع ماله من دافع، وبقدرته وتيسيره وبركته سوف يتحقق.

وفي اليوم ما قبل نهاية ذلك المؤتمر الناجح لحضور هذا العالم الولي الصالح جمعتني به وقفة تذكارية لا تنسى، قال لي: أنت صهر الأستاذ الفاضل عبد السلام ياسين، قلت له: زوج المرشد الحبيب خالة زوجي، فقال إذن صهره، بلغه عني السلام، واسأله الدعاء لي ولأهلي وولدي، فإني أعتقد جازما أنه بقية السلف الصالح في هذه الأمة.

وعندما رغبت في تقبيل يده رفض ذلك رفضا باتا، وقال: أنا الذي أنيبك عني في تقبيل يد الشيخ حفظه الله ورعاه وحقق للأمة رجاءه ومسعاه.

قلت له: لي عندك طلب أتمنى على الله ألا ترده، قال : ماهو؟ قلت : أريد أن آخذ معك صورة تذكارية للآخرة، قال: في أي مكان شئت وفي أي زمان وعلى أية حال شئت. قلت: الآن لأنني لن أتمم معكم بقية أيام المؤتمر فإن لي موعدا مع السفر اليوم عشية. فأخذت لنا صورتان لا زلت أحتفظ بهما كتحفتين غاليتين ذكرى مع رجل أحببته وجمعتني به أيام وليال أثرت في أيما تأثير، كيف لا والرجل كان الماء الذي إذا حضر رفع التيمم، والصعيد على كل مستوى وصعيد، رجل كان إذا أعلم الناس بمجيئه امتلأ المسجد عن آخره، وإذا أنهى محاضرته استعصى على المنظمين فطم الناس عن حضرته، وبين البداية والنهاية ينهضك منه الحال ويدلك على الله منه المقال وتعطر بمجالسته نفْسَك وبالقرب منه نَفَسَك وبرؤيته تجلي بصرك وبصيرتك روحك وحسك، وهو الجبل الذي تحسبه جامدا وهو يمر مر الغمام بهدوء وابتسام والقلب منك في خشوع وهيام، والدموع منك سجام وهو يكف لسانه عن الكلام وأنت تشتهيه، وكل إناء ينضح بما فيه.

رجعت من المؤتمر وحكيت للمرشد الحبيب الخبر وما تركه الراحل رحمه الله في نفسي من أثر، فقال لي معلقا : محمد سعيد رمضان اسم على مسمى، فرع لأصل أصيل، ذرية بعضها من بعض. قلت بكلمة واحدة هو ريشة في وزن جبل، رحمه الله ونفعنا بذكره، وبذكر الصالحين تتنزل الرحمات، وبعلمه والعلم النافع لكل عالم بان عمر ثان، وبموعظة موته وكفى بالموت واعظا، فكيف إذا كان الميت محمد سعيد رمضان البوطي، وبموت الصالحين من أمثاله تحزن الأرضون وتبكي السماوات.
لهذا عنونت هذه المقالة بهذا العنوان البريد

موت محمد سعيد أكثر من درس مفيد

درس أول أن الله رحيم حليم كريم، أن مات سعيد قبل نجاح الثورة، وهل موته إلا أذان بنجاحها ومؤشر على قرب صبح هذا النجاح الوشيك بإذن الله، ولو نجحت الثورة وسعيد يقف موقف شبهة مع الأسد ونظام الفوضى وشبيحته المرضى لكان ذلك محرجا مزعجا مخجلا لا يليق بهيبة الرجل ووقاره، وأرصدته من علم وتقوى وصلاح وتعليم وتربية ونجاح، فأماته الله قبل أن يقع ما لا يحمد عقباه.

درس ثان مفيد في موت محمد سعيد أن الثورة السورية ثورة حقيقية على مجرم طاغية لا يعرف للمسجد حرمة ولا للعالم والعلم قيمة، ولا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، وكيف يكون لسعيد حرمة عند حاكم متسلط ظالم مستبد فاسد غاشم ذرية بعضها من بعض، وأبوه من هدم مدينة حماة على أهلها لمجرد أنهم طالبوا بالحرية والكرامة بديلا عن العبودية والذلة والتهميش والإقصاء، أفينتظر من وريث خبيث إلا مواصلة مشوار القهر والحصار وإعدام كل صوت يغرد خارج سرب حزب البعث ويسبح ضد التيار. من هنا عجب أن يتعجب متابع للبعث وعبثه وجحوده، وغريب أن يستغرب مغرور به مخدوع أو مستأجر مدفوع أن يكون بشار من نسف المدن وهدم العمارات، وحطم الدور والمساجد والكنائس والمدارس والمآثر والقرى والأرياف بالطائرات النفاثة وراجمات الصواريخ، والقنابل العنقودية والكيماوية والأحزمة الناسفة، ونسب إجرامه المعروف المكشوف الى قواعد بلا مثال وعصابات من صنع الخيال والخبال ليستذر عطف رعاة البقر والجمال، وشبيحته من فعلت بلا جدال، وجيشه من هتك الأعراض وفتك بالنساء والشيوخ والأطفال، وهل يتورع الأسد ووحوش غابه عن قتل القتيل والسير في جنازته ؟ محال وألف محال.

وهنا يأتي الدرس الثالث المفيد في موت محمد سعيد، درس أن حزب البعث القومي الاشتراكي الحاكم في سوريا منذ عقود ليس إلا شعارات مرفوعة وفخاخ ومشانق منصوبة، وجماهير مجرورة إلى النهايات المبتورة، وما كان لغير الله انقطع وانفصل ، أليس مجلاته من تصدرت صفحاتها الأولى آيات المتأله المغرور، كلمة الكفر وكانوا أحق بها وأهلها : (ومن يبتغ غير البعث دينا فهو في الآخرة من الخاسرين)، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن كل ظلوم أثيم عتل بعد ذلك زنيم.

أليس جنود البعث من كانوا يعذبون المؤمنين ويكرهونهم على قول مالا يقوله الشيطان اللعين في حق رب العالمين، وفي باطل بشار الحقير المهين، وهل لمن أمر بالكفر أو أقر به عهد ولا ذمة حتى يخشى الله في علماء الدين وصلحاء الأمة، لم يخش الله قتلة الأنبياء فكيف يخشاه قتلة الأولياء، فملة الكفر واحدة وإنما كتب الله لعبده سعيد الشهادة إذ قتلته الفئة الباغية لأنها وحدها من تتوهم أن لها مصلحة في قتل سعيد بعد أن استهلكت ورقة مكانته لعقود، واستثمرت منبره فيما تروم وتريد، ولما لم يعد لتلك الورقة من بريق، ولا لذلك المنبر المزهر من رحيق ولا لرمضان من صائم عن نصحه وتقويمه ، قائم لدعمه وتقييمه، آثر أن يستثمر موته في إرهاب السوريين، أن من سولت له نفسه الارتداد عن دين الانقياد فمصيره الإعدام وأيضا في إرهاب صناع الإرهاب أن الثوار الذين تريدون تسليحهم أو تجنبون تذبيحهم ما هم إلا قتلة مجرمون لم يراعوا لدور العبادة حرمة، ولا لعلماء الأمة ذمة فكيف لو آلت اليهم الأمور؟ مكر غبي ومكر أولئك هو يبور ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، وإلا فقتل سعيد هو شهادة لسعيد وأكرم بها من شهادة لمن عمر المسجد فكان بساط المسجد خشبة مسرحية قتله دون علم منه، وهو من خدم العلم بقلمه ومنبره بجنانه ولسانه بفهمه وهمه وعزمه، فإذا بالعلم الذي ندب لخدمته حياته يكرم عاقبته، ويتوج نهايته شهادة أخرى غير الشواهد التي حصل عليها، وبجائزة كبرى غير الجوائز التي ظفر بها، استشهد هو وثلة طاهرة خيرة من طلابه أبو إلا أن يكونوا في ركابه ويصحبونه في رحلة إيابه الى مآبه لجوار النبي وآل بيته وصحابه وإخوانه وحزبه.

درس مفيد آخر لا يقل أهمية عن الدروس التي سبق ذكرها، مفاده أن الركون الى الظالمين لا يعفي الراكن كائنا من كان من أن تمسه النار.

و الركون أنواع كما النيران.

ركون إلى الذين ظلموا بصمت وشيطنة خرساء إزاء باطلهم المنتفش المنتعش بصمت أهل الحق، وللباطل أبواق لا تكل ولا تمل في الدعاية والإشهار والدعوة باستهتار واستكثار.

ركون اليهم بزور وبهتان إما بتمجيدهم والثناء عليهم والدعوة لهم والدعاء لهم، وتسخير المنابر والأقلام ووسائل الإعلام لخدمة مشروعهم، ودعم جهودهم الرامية الى التغريب والتخريب والتغرير والتكفير والتهويد والتمجيس، بدعوى المقاومة والممانعة مقاومة الدين والممانعة لئلا يدخل إلى البلاد صلاح الدين، أو تدخل البلاد في صلاح الدين.

وركون إليهم أكبر وأدهى وأمر الدخول في مشروعهم والانخراط في منظومتهم ونظامهم عملا بتعاليمهم وحملا للواء ضلالهم وأملا في رضاهم وعطاياهم ومكاسبهم ومناصبهم وكراسيهم ومآسيهم، وهل تساوي دنياهم عند الله جناح بعوضة وما عند الله خير وأبقى خير في الدنيا من الدنيا وما فيها، وأبقى إلى الآخرة وفي الآخرة ومن الآخرة وما فيها، رضا الله، وجوار أهل الله، والنظر في وجه الله.

والنيران أنواع: نار تمس من ركن فتضعف رأيه وموقفه أمام الناس، ونار تحرق كتبه وتحيل علمه دخانا بلا نبراس، ونار تأتي على أرصدته التاريخية من القاعدة والأساس، ونار تجعل كلامه صداعا في الرأس، ونار تجعل دعوته لقلقة لسان بلا وجدان ولا إحساس، ونار تجعل اجتهاده في أحسن الأحوال، اجتهاد من أخطأ الحق والصواب والحكمة وفصل الخطاب، بلا سند من قرآن أو سنة ولا إستناد إلى إجماع أو قياس، ونار تشتعل في القلوب حقدا وضغينة ونزغا من نزغات الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس، ونار تندلع من ألسنة من يرى في فتوى العالم تزكية لمن ظلم فوجد غطاء لجرائمه ومظلة لضلاله وظلامه وما عليه من باس، ونار ما منا إلا واردها كان ذلك عند ربك حتما مقضيا، فمكتو بنار عذاب وملتهب بنار عقاب ومصطل بنار حساب ومبتل بنار حسرة وندم واكتئاب، ومزحزح عن نار كان أولى أن يكون منها على بعد ما بين التراب والسحاب، أفبعد هذا يركن إلى الظالمين راكن إلا أن يكون جاهلا بمكرهم “إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ” أو مضطرا إلى مصانعتهم ومداراة سفههم “فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ” ، أو مكرها على الركون إليهم “إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ” ، ولا نرى أو نحسب رمضان البوطي إلا جاهلا بمكرهم، أو مضطرا غير باغ ولا عاد أو مكرها والقلب منه مطمئن بالإيمان، ولا نرى موقفه إلا مبررا وقد أمرنا أن نلتمس لإخواننا سبعين عذرا.

درس مفيد آخر لمن أراد أن يرجع من ضلال الظالمين إلى الحق، وما بعد الحق إلا الضلال ويراجع مسيره وآلياته ليكون رجوعه ومصيره ومآلاته إلى الله توبة وإنابة، ذلك إن أطرهم على الحق أطرا، قائما بالله لله شاهدا بالقسط لا يخاف في الله لومة لائم ولا سلطة حاكم ولا سطوة ظالم، وإلا فماذا ينفع علم العالم إن لم يكن أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وماذا ينفع ذكر الذاكر وصلاحه إن لم يكن لتذكير الناس بالحق وإصلاح ما أفسده المبطلون، لا أن ينسب إلى الصلاح فسادهم، أو يذكرهم بما ليس لهم وليس منهم وليس فيهم.

وقول الحق سبحانه وتعالى لمن تعذر ألا يعذب صالح في قرية ظالمة لصلاحه أن به فابدأوا، منذر أن الصلاح لا ينجي إلا أن يتمخض عنه إصلاح “وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً” تحذير صُراح.

أما بعد، فموت سعيد أكثر من درس مفيد ولدينا من الدروس مزيد.

درس أن العاقبة للمتقين وأن لا عدوان إلا على الظالمين فعاقبة سعيد – ولا نحسبه إلا من أهل التقوى ولا نزكي على الله أحدا – الشهادة والحسنى وزيادة، لأنه قتلته الفئة الباغية في محراب صلاة ومنبر علم وبين سقف بيت الله وحيطانه وبين طلابه وأحبابه، أعظم به من مكان، والزمان ليلة عيد، خميس ما قبل الجمعة أكرم به من زمان، وعلى طهر وذكر وخير أجمل به من حال لا يشي إلا بحسن مآل.

مات وترك وراءه صدقات جارية وعلما ينتفع به، وأبناء صالحين من طين ودين يدعون له، ولا نحسب الرجل إلا صريع خداع حافظ لم يحفظ لله عهدا، وقتيل مكر بشار لم يبشر إلا بشر أمسِ واليوم وغدا، وقد أشار الفقيد في خطبه الأخيرة ودعواته المؤثرة إلى ما يوحي بأن الرجل كان على موعد مع الشهادة قولا وفعلا وحالا، وموقفا وطلبا ومنالا. فقد دعى على من نصب له الفخاخ أن يكيده الله بنحره وينحره بكيده، وأن يعيد للشام أمنه وفرحته، وقيل أنه رحَّل أفرادا من عائلته إلى تركيا وكان ينوي اللحاق بهم بعد أن احتجز المجرمون بعضا منهم بما ألجم صوته وألزم صمته، وحاشا أن يكون الرجل صاحب مصلحة يجعلها فوق كل اعتبار فأحرى أن يكون عميلا أو عاملا تحت لواء بشار، مات وسره معه، وقد أمرنا أن نلتمس الأعذار ، ولكننا رغم ما قيل وما يقال وما سوف تسفر عنه الأيام بعد فتح الشام محزونون على فراق هذا العالم العلم الولي الصالح الراسخ القدم في الزهد والعفة والكرم وأفضل القيم. محزونون والعيون منا دامعة بهَتُون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، إنا لله وإنا إليه راجعون.

رحم الله سعيدا ومن استشهد معه من طلبة العلم والفقه في الدين، وأسكنهم فسيح جناته في أعلى عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ورزق أهله وكلنا أهله الصبر والسلوان وجعل من موته دروسا لأهل العدل والإحسان في كل زمان ومكان.

ومهما اختلفنا في التحليل والتعليل والتمثيل والتدليل، فإننا لن نختلف أبدا في أن البوطي كان ولايزال وسيبقى روحا حاضرة في دعائنا وكتابا متصدرا لمكتباتنا وفكرا مبرعما لضمائرنا وذكرا جاريا على ألسنتنا، ومحبوبا يسكن شغاف قلوبنا، كما ستبقى وفاته سبة في جبين من يحكمون بالحديد والنار، ووصمة عار في ناصية حافظ وبشار، وصفعة على خد حزب البعث في هذه الدار وفي دار القرار، وإلى الله المشتكى حسبنا ونعم الوكيل، ، وجزى الله عنا الأستاذ عبد السلام ياسين مرشدنا الطبيب ووالدنا الحبيب، فقد عاش عيشة الحر الأشم ولم يركن يوما إلى من ظلم، بل قال كلمة الحق والصدق لم يخش في الله لومة لائم، فأعظم به من شاهد قائم لقي في سبيل الحق وصوت الحق ودعوة الحق لأواء الحياة ولم تلن له قناة.

ومات كما لم يمت أحد، مات كي لا يموت “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين ” ” مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا” صدق مرشدنا فلم يهن ولم يحزن، وصدق فلم يهادن ولم يداهن ولم يركن، وصدق فلم يصمت بل صدع بالحق وعن ولائه للحق أفصح وأعلن، صدق فلم يكن أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله أب ولا ابن ولا أخ ولا زوج ولا عشيرة و لا تجارة ولا مال ولا مسكن، صدق وما بدل ولا غيّر رغم السجن والحصار ومكر الليل والنهار، وعلى هذا أنشأنا وربّانا وعلمنا فعدل وأحسن، ثم قضى نحبه نقي الإزار سليم القلب مرتاح البال خفيف الحاذ فكان موته عن ولايته وصلاحه واستقامته واستوائه أفصح وأنصح وأبين، فإذا بمن كفره يسلِّم بأنه عبد لله، ومن عاداه أقر بأنه كان وليا لله ومن شهد عليه زورا ببدعة أو ضلال شهد له بأنه كان على البيضاء لم يزغ، وبالحق إلى الحق لم يرغ، شهد مع من شهدوا وبيننا وبين الظالمين الجنائز، بيننا وبينهم الخواتيم والجوائز، وسيعلم الجمع من منا الخاسر ومن منا الفائز، رحم الله سعيدا وكل سعيد، نال الشهادة في ساح الجهاد أو أفنى العمر في طاعة الله ونفع العباد، والصلاة والسلام على البشير النذير الداعي إلى الله بإذنه السراج المنير وعلى آله وصحبه وإخوانه وحزبه، ما قام قائم في وجه كل حاكم ظالم، وشهد شاهد بالقسط لا يخاف في الله لومة لائم، واستشهد شهيد من داعية وعالم، والحمد لله استهلال كل مبتدئ ومنتهى كل خاتم.

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

‫تعليقات الزوار

19
  • محمد
    الأحد 7 أبريل 2013 - 01:38

    و الله لقد نورت هسبريس أستاذ منير تحية لك أيها الأديب الشاعر المجاهد

  • رأفت
    الأحد 7 أبريل 2013 - 02:37

    الأديب الشاعر منير الركراكي فرع لأصل أصيل…….
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

  • يونس
    الأحد 7 أبريل 2013 - 03:47

    لله درك لا فض فوك، ولا انثلم لك قلم
    محبك يونس

  • yassine
    الأحد 7 أبريل 2013 - 05:34

    لغة راقية و نظم اخاذ لم يغفل معنى او يهمل مقصدا

  • ben elyassar
    الأحد 7 أبريل 2013 - 07:25

    مع إحترامي لك المقال مليء بالأحلام و الخرفات الدرس الوحيد في موت الشهيد هو أن فئة ضالة بدين الإسلامي همها الوحيد هو تكفير و تدمير الدولة لا يهمها لا بيوت الله و لا علماء
    كان عليك ان تسمي الاشياء بمسيتها (الدرس المفيد في موت المرشد رحمه الله و غفر له ) و لا تقحم الشهيد البوطي في أحلامك

  • ابو اية
    الأحد 7 أبريل 2013 - 08:15

    الاستاذ منير الركراكي هامة دعوية نورت فاس ومنه بقية العالم,انتشيت بقراءة ماكتبت وكأنك سيدي قرأت ما يخالج صدري اتجاه العالم الجليل البوطي رحمه الله, اتابع بنهم اطلالة هامتين علميتين تتسم بعلو الكعب في لغة الضاد الا وهما الاستاذ رمضان المصباحي الادريسي والاستاذ منير الركراكي,فالعربية بخير والحمد لله مادامت هامات اخرى مثل الاستاذين الكريمين موجودة,شكرا هسبرس على هذا الاهتمام

  • علام
    الأحد 7 أبريل 2013 - 10:05

    الثورة السورية ثورة حقيقية على مجرم طاغية …. بأموال قطرية وفتاوي سعودية وأسلحة أمريكية ومباركة إسرائيلية …

    يا سلام على الثورات الإسلاموية … وبشرى للمسلمين بهذا التحالف القديم الجديد لإستعادة مجد الخلافة وكلمة الله على الأرض

  • elfahssi kenitra
    الأحد 7 أبريل 2013 - 10:16

    ايها الوسيم البسيم :لقد نورت الافهام,وازلت الغشاوة والالتباس عن الاذهان فلك مني ازكى التحية واغلى السلام,واسال الله ان يرفع مقامك اغلى مقام مع المحبوب محمد سعيد رمضان والمصحوب سيدي عبد السلام في اعلى الجنان مع انبياء الرحمان والصديقين والشهداء والصالحين ومن اتبعهم باحسان

  • naji
    الأحد 7 أبريل 2013 - 10:26

    أخي منير، زادك الله علما وحلما وحكمة

  • من تافيلالت
    الأحد 7 أبريل 2013 - 10:30

    لك مني ألف تحية يا خريج مدرسة الأشبال،

  • منا رشدي
    الأحد 7 أبريل 2013 - 12:11

    إنتقائيون على عادتكم ! تأخذون من الأضداد ما يتماشى ومرجعيتكم ! " البوطي " رحمة الله عليه أسرفت في مدحه ( الرجل لا يحتاج مديح أحد فسيرته تغني عن كثير الكلام ) ؛ وفي المقابل تنتقذون النظام السوري ! خلوطي جالوطي ! هذا ما أقول عنه إسلام بالقطعة ! نأخذ منه ما يناسب المرحلة ونتغاضى الطرف على ما يؤرقنا !
    لم نسمع في الماضي إنتقادكم للنظام السوري فسبحان مبدل الأحوال !

  • جعباوي
    الأحد 7 أبريل 2013 - 12:11

    ما اجمل مقالك..فهذا هو الادب عندما نكتب عم العلماء العاملين..الذي يوازي مداد اقلامهم دماء المجاهدين..قيمة وفضلا..وقد المني جدا بعض المتسرعين الذين لم يبتلوا بما ابتلي به الشخص الكريم فاخذوا يدندنون حول سيرة الاشم البطل الذي تصدى لمنازلة كل الانحرافات وبعضهم ما زال في ظلمات ارحام امهاتهم او كانوا عدما.. الرحمة الواسعة والغفران للعالم البوطي واكرمه الله بجنان الخلد..ان حسن الظن بعلمائنا الابرار العاملين مظنة الفوز والربح..وسبيل لواد الفتن ما ظهر منها وما بطن..والسلام

  • أحمد المؤذن
    الأحد 7 أبريل 2013 - 13:19

    سيدي الأستاذ منير
    السلام عليكم ورحمة الله

    ما دهى عن درس خطر التكفيريين ومنشأه ومآله الذين لم يقيموا لله وزنا وهم يغيرون على بيته فيقتلون فيه الأنفس المحرمة؟

    ليس عندي وقت كاف للرد المفصل على ما جاء هنا ولكن ما لا يدك كله لا يترك كله. نعم كذلك كان الشهيد المظلوم وليس كذلك ما تتداولونه عن أحداث سوريا سواء القديمة منها أو اللاحقة، أقول هذا وأنا منكم وأنتم أيضا على علم بكذب بعض "الإخوان" وامتهانهم السياسة والكتمان.
    ولو أنكم أبصرتم أن استشهاد الولي المظلوم على يد من يبكون دموع التماسيح على مظاليم سوريا الذين تركوا إسرائيل على مرمى حجرهم واندفعوا كيأجوج ومأجوج لتدمير الجيش والشعب في سوريا، لكان كافيا لتعرية نيتهم الخبيثة وطويتهم الإبليسية، ولكن أدركتم الشجرة وأخطأتم الثمرة.

    هذا وليس للشيخ من سر بل ظهور لصبح اجتهاده عندما حذر من أن التسليح لن يجر إلا إلى التذبيح وقد أدركنا جميعا ما أدرك، فصدق وكذبوا وخاب المفتون بالذبح والراضون له.

    غفر الله لنا ولكم وجمعنا بكم في خير لنتدارس أمرا هو مفتاح لفهم كل ما جرى ويجري وسيجري. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

    محبكم أحمد

  • ابوسعدان
    الأحد 7 أبريل 2013 - 14:40

    مقال ينم عن نبل الموقف الانساني من الثورة السورية ومن احد علماء الشام

  • مكودي
    الأحد 7 أبريل 2013 - 16:53

    سررت بمقالك عن العلامة سعيد جعله الله من السعداء و غفر له زلاته و هفواته و جعله من الشهداء
    استفدنا ونهلنا من كلامه الطيب و كتبه القاصدة : كبرى اليقينيات الكونية ، فقه السيرة ، نقد أوهام المادية الجدلية ، السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب سياسي….

  • albarkani
    الأحد 7 أبريل 2013 - 21:14

    عجيب امر هؤلاء الجماعة
    .لم تعدل يا استاذ ولم تحسن تقول انه قتلته الفئة الباغية من هي هذه الفئة???اذا قلت النظام فهو كان في صفه ودافع عنه واذا قلت الثوار فانت تتناقض مع فكرتكم التي لا تعترف بالنظام المغربي .

  • محمد
    الإثنين 8 أبريل 2013 - 01:39

    إن الأخ منير رجل طيب، جعلته تربيته المحافظة متناسبا و متساوقا مع الحركة الإسلامية من حيث هي قيم اخلاقية و سلوكية، فالتوجه الإسلامي هو نوع من اللعب في الحومة قرب باب الدار بالنسبة للصغار الذين تربو في زقاق المدينة العتيقة، و لذلك فلكنته الفاسية تتناسب أكثر مع ثقافة القيام وتزكية النفس، إنه إسلامي لأنه ولد دارهم، بكل بساطة، ولذلك تجده يحترم الكبار على طريقته الخاصة يقبل يد العم سعيد و ركبة الأب الروحي عبد السلام رحمة الله عليه.
    لكن هناك من جاء للحركة الإسلامية من زقاق العنف و الدم و الفتوة بمعناها السوقي لا بمعناها الصوفي، وهؤلاء عيارون قتلة رعاع و أراذل لا يستطيع الأخ منير أن يفهم منطقهم وسقف دمويتهم، هذا الاختلاط هو ما جعله يقع في خلط بين تأبين العم رمضان و الإعلاء من قيمة قتلته، بل و يهنئ الشهيد رمضان البوطي لأنه قتل على أيدي أبطال الثورة الذين أرسلوه إلى الآخرة على وجه السرعة دفعا للحرج .
    منير لا يحرج أحدا تأدبا و طيبوبة، من فجر نفسه داخل مسجد شهيد ومن قتل داخل المسجد شهيد وهذا قول لذيد وو بليد في الآن نفسه
    أحبك في الله أخي منير المزيد من هذا الطرب الأندلسي

  • abdellah
    الإثنين 8 أبريل 2013 - 20:24

    السيدة منا رشدي تقول لم تسمع من قبل نقذ لنظام الاسد ان كانت تقصد العدل و الاحسان فلانها من فئة من لا يقرأ و اذا قرأ كان حظه على الاحسن مجلة موضة فكتابات عبدالسلام ياسين حبلى منذ الثمانينات بنقد لاذع بل قاس احيانا لنظامي البعث . و لا تسمع الا لغو الحديث لان قيادات الجماعة في المحاضرات و الندوات دائما على نقدهم و طلبة الجماعة في تأطيرهم للجامعة .
    ان كانت تقصد عامة الاسلاميين فلتتكبد عناء ماكتبه ضحايا الاسد من الاخوان و من حركة الطلائع و لتراجع مثلا شهادة شيخنا الفاضل عصام العطار على قناة الحوار ثم لتراجع قانون البعث الكافر كما يسميه الشيخ ياسين الذي يقضي باعدام من ينتمي للاخوان. ان لم يكف عد لكلام الشيخ كشك في الباب.
    ثم راجع نقذ غيرنا و قارن ليتبين اصحاب المبدأ من المتملقين و الله المستعان

  • مريح
    الإثنين 8 أبريل 2013 - 23:01

    زادكم الله بسطة في الجسم والعلم، ونفعنا بصحبتكم..آمين

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة