صناعة الكُفر و تآكل "الحداثة"

صناعة الكُفر و تآكل "الحداثة"
الثلاثاء 21 ماي 2013 - 11:08

أحكام التكفير و الردة باتت تجد لها طريقا سلسا وسهلا لولوج أبواب القاموس الديني ، الرائج الآن في المغرب…

أولا- بوصفها كلاما مسموعا و مقروءا قادرا على مخاطبة الناس و استمالتهم و أيا يكن معلنه (ما علينا إلا القيام بجولة في منتديات التواصل الاجتماعي ، مرورا بآلاف التعاليق على حاشية المواقع الالكترونية للتحقق من هذا )…

ثانيا- لأثرها القوي في إحتواء الشعور الديني ، و توجيه سلوك فئات معينة ، و تنميط ردود أفعال في اتجاه واحد ، إزاء المخالفين ، على الرغم من اصطلاحها العويص ، و صعوبة استيعابه أحيانا من طرف مُتلقيه … و قد حُبكت في تخريج تقليدي مُنتزع من المتون ، يُساير بدقة سُلّما فقهيا قيميا مُعينا ،لا تشوبه شائبة

ففي معمعة القرون الوسطى ، انبرى كثير من حُذّاق المذاهب الفقهية لصقل و بلورة صناعة جديدة ستثمر أُكلها فيما بعد، كوسيلة فتّاكة للحسم في السجالات و التناحرات العقدية ؛ عرفت ، خلال مراحل تقعيدها و التعاطي لضوابطها ، توالد لغة اصطلاحية رصينة ،عالية الفنّية و الحذق في قولبة الأحكام و نحت ألفاظ التكفير ، تُشهر كسلاح طارئ ، عندما يستوجب ذالك ضرورة إنهاء النزاع .

فنجد لديهم في البداية أن للكفر تلاوين و أقسام ، وله مؤشر قيمي يقيس شدّته ، إنتقالا من الأصغر إلى الأكبر . و كل نوع مُرتّب و مُبوّب ، تندرج تحته كثير من الصُور، حسب اجتهاد المُعلّل و فطانته .

ثم نجد مثلا أن هناك :

— كفر الجحود والتكذيب ، كفر الاستحلال، كفر الإعراض والاستكبار ، كفر الشك والريبة ، كفر النفاق ثم يليه الكفر الأصغر بحيثياته و و تفاصيله الصغيرة التي لايُحصّل دقائقها إلا من خبر دروب هذا الباب و تآويليه وعلم تقنية تنزيلها ….

و هناك من استدلَّ على أن من الكفر، ما يُسَمَّى كفرًا لفظيًّا ومحله اللسانُ ، ثم بعده ما يسمى كفرًا اعتقاديًا و يليه ما هو كفرٌ فعليٌّ.. الخ

— ثم يظهر مع مرور الزمن ، تقسيم آخر باصطلاحات رهيفة ، يُفرق بين الكافر الأصلي (يهودي نصراني مجوسي …) وهو من ولد ونشأ في الكفر وهناك الكافر الطارئ ( غير الأصلي ) وهو الذي ثبت له الإسلام بطريق معتبر ثم طرأ عليه ما يستدعي إطلاق الكفر عليه..و ينتج من الفرق بينهما أن يحصل لدينا تفريع :

تكفير عيني و هو أن نعتقد كل من انطبقت عليه صفات الكفر الأصلي يجب أن نطلق عليه لفظ كافر… وكفر نوعي :

يكون خاصة في الكفر الطارئ ،أما إذا ثبت أن صدر منه دليل كفر (بطريق يفيد اليقين في الثبوت والدلالة ) جاز إدخاله في التكفير العيني.
وبالتقسيم و النبش ذاته ، تُستخرج أصناف أخرى للردة و ما شابهها ،و بنفس المنهجية في التعليل لإظهارها و تشذيبها ، و تمريرها كيدا في فتاوى توظيفية ، للتقرب بها من الوُلاة إلخ ….

فإذن ،هذا الفن المذهبي القديم ، لم يكن ليحتاج لمُبتكرين جُدد ، أكثر مما كان في حاجة ، لمن ينفض عنه الغبار و ينتزعه غصبا (دون اعتبار لتحولات الواقع و تغير الظروف التاريخية ) من سياق مجريات تلك القرون الماضية ، ليُبعث من جديد ، ويستوي صناعة تكفيرية في حُلّة إعلامية أنيقة ، مُحاطة بهالة من التواصل الإيماني.

و هذا ما حصل لدينا منذ تسعينات القرن الماضي و حتى تفجيرات 16 ماي و إلى اليوم…

صناعة تكفيرية بكل مُقوّماتها الإغرائية الجذّابة ، سَتَدخل عَلَنَا – بعدما شَبِعَتْ تَخَنْدَقَا فِي السِّرِّ – مُنْعطفا إعلاميا و دعائيا فريدا من نوعه ، لم يعتد عليه المغاربة من قبل …

فستتضخم شيئا فشيئا و تنشط تباعا ، على المستوى الدلالي و الوُجداني و الواقعي ، بكل ما تبُثّه من علامات و رموز وشخوص و مفردات ، -كانت فيما قبل غريبة عن أذن عامة الناس -، مدفوعة بدينامية لاهثة للإطاحة بالقاموس المنافس :

– قاموس العلماني طبعا ، المفترض فيه أنه الخصم اللدود…..

و هكذا ستبدأ تبرز و تَترَسُّخ كرطانة ونبرة تحريضية نزقة ، في نغمة نشاز مع ما يُطيقه الظرف السياسي و يسمح به ، إلى أن ظهر مؤخرا ، ويا للمفاجأة – خطاب توأم لها ، مدرج في لائحة “فتاوى” ، صدر من جهة رسمية ، كانت تُحسب على المنطقة الساكنة و المحايدة.

ﺑﺎﻟﻣﻘﺎﺑل، و في الجبهة الأخرى ، . ﻛﺎن أ صحاب قاموس “الحداثة ” و لواحقها من المفاهيم المكّوكية المستقاة من الحضارة الغربية، في شبه سهْو تام (كما حال اليسار الآن و هو في لحظة شتات) ﻋن ﺟدّﯾﺔ هذه الصناعة التكفيرية اﻟوافدة – و تأثيراتها الصادمة وقوتها اﻟنامية اﻟﺗﻲ تستجمع طاقتها بهدوء و تمهل .

كانوا مطمئنين بالكامل، إلى رطانتهم المستهلكة الرتيبة ، و عنْعنتُها . و غير آبهين إطلاقا ،إلى أنّ :

– خطابهم تكلّس و استحال هيكلا لفظيا أجوفا ، يحوم أكثر فأكثر بعيدا ، عن مدار المجتمع المغربي و تعبيراته الهوياتية ، التي تزداد تذبذبا و تيها ، بحثا عن اتجاه قويم للثبات .

– و أصبح متورطا فيما صار يُؤسْطره سابقا ، غير عالم أنها أشياء كُرّرت مرارا ، دون خلع رداء القداسة عنها . ضرب من النظام الخطابي الحداثي الصارم الذي لم يعد يعمل ، فكان على نسقه إما أن ينفجر من الداخل أو يتعفن ببطء ، أمام هذه الصناعة الدخيلة التي حلّت أمامه فجاة .

تراجع فكري جليّ لا يكف -على امتداد تاريخ قريب، مصبوغ بالتظاهر – عن إضفاء مزيدا من التبرير على إرجاء لحظة النقد الذاتي ، و كله معلل بالاحتراس و الحذر.

– خطاب تقدمي متآكل سقط عميقا في سُبات رمزي، و في غفلة ما، ارتدّ و انخلع عمّا كان ؛ فمنذ بدأ هذا التيار العلماني يجرّد ذاته من واقعيته وملموسيته، وبطرق ملتوية، وينفي عنه أي قصد إيديولوجي، ويتراجع عن التمسّح بالمشروعات الكبرى، أخذ ينأى أكثر فأكثر عن حقائقه الفعلية التي كانت مبرر وجوده في الساحة.

حاليا سيرك الصناعة الخطابية ،بأطيافها ،هو المُهيمن . هذا طبعا يستدعي شيئا من الرصد ،. فنلاحظ قليلا من الفوضى هنا وهناك؛ كثير من الصراعات المتأجّجة ؛ عودة ساخنة إلى البيانات التكفيرية والتهجُّمات التي تتمّ ضد هذا وذاك؛ أصوليات جديدة مقابل يساريات مُتآكلة تُحاول أن تُجدّد النفس …الخ. وبالإضافة إلى هذا، ماكينة إعلام الإثارة ، تبتلع بتشنّج كل ما يحدث، دُفعة واحدة، وترمي به مباشرة على أفهام الغافلين و غير المُحصّنين من بُسطاء الناس ، دون أن تترك للمتتبع حيّزا من الزمن ، للتعرف ولو على نصف الحقيقة من كل ما قيل وكُتب ودارت عليه الرحى…..وسط أمية ثقافية – حتى لا أقول أمية صرفة- تُخجل الصخر، تقترب من نسب مئوية محبطة……..

و من الراجح أن هذا السيرك سُمح به ، لتحريك مصالح معينة ، و دسّ أيادي خفية توجهه بعيدا عن خطر المجهول . صُنّاع المشهد أنفسهم ( من سلفيين و تقدميين) قد لا يدركون مسار ما يحدث. فخارج المناورات الظاهرة و المصالح المعتادة ، هناك شيء يعمل على قولبة و كتم انفجار المسارمستثمرا الوضع ، للحفاظ على الصلاحيات المعهودة ، لأن من طبيعة أي نظام سياسي مرن توزيع القوى و السلط هكذا .

*كاتب وباحث

[email protected]

‫تعليقات الزوار

6
  • ayman
    الثلاثاء 21 ماي 2013 - 11:49

    les takfisristes sont des terroristes assoifes pour le sang , des ignorants avec des masques religieuse , dans la majorite des cas des gens qui souffrent des maladies psychologiques , faut nettoyer le Maroc de ce cancer dorigine les banou wahab de saoudia , thanks hespress

  • Amsbrid
    الثلاثاء 21 ماي 2013 - 12:02

    C'est une très confortable position que celle qui consiste à renvoyer dos à dos les deux parties en présence

  • ABDUL
    الثلاثاء 21 ماي 2013 - 17:53

    والله متم نوره ولو كره الكافرون.صدق الله الكريم.نقطة اول السطر.

  • محمد
    الأربعاء 22 ماي 2013 - 01:19

    تحليل منطقي مقنع اعتقد ان موضة التكفبر اشتدت هذه الايام للاسف

  • مسلم
    الأربعاء 22 ماي 2013 - 23:07

    أين وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية ؟
    أين خطباء المساجد ؟
    و أين الإعلام من هدا ؟
    لمادا يترك الشباب تحت تأثير التكفيريين؟ دون إرشاد أو توجيه.

  • علمانية مغربية
    السبت 29 يونيو 2013 - 23:32

    صناعة الكُفر او بمعنى ادق سياسة التكفير والترهيب ليست بصناعة جديدة ولكنها قديمة ومترسخة ومتجدرة ترجع لبداية الاسلام عندما كان الخارج من الملة يقتل ولكن الفرق بين دلك الزمان وزمننا الان هو ان في وقتنا بمجرد ان تعبر عن افكارك كمسلم معتدل وتطالب بالعلمانية كفصل الدين عن السياسة او الدولة مباشرة تكفر وتحشر في ركن الإستتابة إن تكفير الانسان يعني أنه مهدر الدم، ويعني أيضاً أنه يحق لأي مسلم قتله.. كما تترتب عليه أحكام خطيرة، فهل هذا هو إحقاق الحق بحسب فتاوى التكفير التي هلكوا والدينا بيها مؤخرا شيوخ الضلام وميخيات فتاوى الدم من خلال المنابر الاسلامية والاعلامية ؟؟ والمصيبة ان من يدهب ضحية هده الخطابات التكفيرية هم الشباب المغربي الدي لا يعرف من الدين سوى نواقض الوضوء ..
    تحياتي
    موضوع جميل ومرتب جدا وذو رسالة عميقة جدا نتمنى المزيد من هده المواضيع التنويرية

صوت وصورة
"ليديك" تثير غضب العمال
الخميس 18 أبريل 2024 - 11:55

"ليديك" تثير غضب العمال

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32 9

احتجاج أرباب محلات لافاج

صوت وصورة
"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 15:07

"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء