الحس النقدي الزائد يستنزف اليسار

الحس النقدي الزائد يستنزف اليسار
الإثنين 13 أكتوبر 2008 - 05:02

عقب الشروع في تشكيل قطب حزبي ليبرالي في المغرب، ارتفعت وتيرة نقد هذه المبادرة من طرف تنظيمات اليسار، لأن تلك اللبرالية اقتصادية وليست سياسية أصلا، لكن لينظر الناقدون في المرآة ليبصروا حالهم بدل تسليط الأضواء على خصومهم. ماذا تقول المرآة؟


هناك حزب اشتراكي، حزب تقدمي اشتراكي، حزب طليعي اشتراكي، حزب يساري موحد، حزب بنهج مقسم وبقايا حزب اشتراكي ديمقراطي… وقد سبق أن نوت هذه الحزيـبات أن تقفز على واقع التشرذم والتشتت الذي لا يخدم إلا أعداء الطبقة الكادحة، وذلك بأخذ المبادرة التي لا رجعة فيها وإعلان الوحدة الشاملة بين القوى الحية في المجتمع، لتفويت الفرصة على البرجوازية الطفيلية… وذلك بتناول الخيار الوحيد المطروح على الطاولة وهو تأسيس القطب اليساري الكبير، ولتجنب أخطاء الماضي، يجب فتح نقاش وطني أفقي وعمودي يسمح بتشكل وجهات النظر بشكل صحيح لتستجيب لمتطلبات المرحلة.


استمر النقاش سنوات، وبعد الهزيمة الانتخابية لليسار نضجت فكرة الوحدة فجأة، وبالفعل نظمت حفلات ولقاءات احتفاء بميلاد الديناصور الاشتراكي الذي سيزاحم الأحزاب اليمينية والإدارية والكارطونية التي تعامل المواطنين كزبناء انتخابيين…


وبعد أشهر قليلة اتضح للرفاق أن ديناصورهم غير ديمقراطي، وبعد نقاش دام دقائق قرروا تفتيت ما جمعوه وذلك باستبدال القطب بديناصورات صغيرة تخيلوها في حجم فيلة وسموها “تيارات”، وهذه قمة الديمقراطية، بحيث لا يصادر أي طرف رأي الطرف الآخر، وبالتالي تتعايش مختلف الآراء مما فيه إخصاب للديناصورات الصغيرة وتسمينها في أفق الانتخابات المقبلة، والتي سيبين فيها اليسار حجمه الحقيقي ومدى تجذره وسط الجماهير…


وبالفعل، بدأت اللعبة بتشكيل أربعة تيارات داخل القطب الاشتراكي، ولكل تيار ناطق رسمي خاص به، وفي أي حادث مهما كان عابرا، يدلي الناطقون بمواقف مختلفة، وقد كان لهذه الديمقراطية تطورات مسلية، جعلت التلفزة الرسمية تستدعي ناطقين لمحاورتهم، وبالفعل عبرا عن موقفهما من الأوضاع القائمة وأدليا باقتراحاتهما للخروج من أزمة المجتمع…


وفي الغد كتبت الصحف بتفصيل عن الاختلافات بين الناطقين الرسميين، وذهب صحفي نبيه ليستفهم الأمين العام للقطب الاشتراكي عن موقفه، ولأنه ثمرة التراضي بين الرفاق فقد حرص الأمين ألا يُغضب أحدا وقال بأن موقفه هو مجموع رأي التيارات الأربعة المشكلة للحزب، ولم يتجرأ الصحفي أن ينبه السيد الأمين أن ثقافته التنظيمية ضحلة إلى درجة أنه يتوقع تطور حزب بأربعة رؤوس زائد رأس قيادي يظن نفسه ظلا للرؤوس الأربعة… وهكذا اتضح لخصوم اليسار أن الديناصورات الصغيرة قد تحولت إلى أربعة أرانب غير مزعجة، وبدل دراسة هذا التقهقر البيولوجي والأيديولوجي اكتشف أحد الرفاق بدهشة أن التلفزة الرسمية هي السبب في حصول الأزمة داخل القطب وعودة الحزيبات السابقة من جديد إلى عهدها، مضاف إليها شجار الرفاق حول المقرات الجهوية وملكية الجريدة، أي كل ما يمكن تصوره من نزاعات.


وللاستمرار في واجهة التصريحات صب الناطقون الأربعة زائد الأمين العام للقطب المتجمد جام غضبهم على الإعلام الرسمي الذي يخدم الأطروحة الرجعية وهو ضد الديمقراطية والتعددية وحرية الإعلام وحقوق الإنسان… وبينما الرفاق فيما هم فيه حلت انتخابات تشريعية جديدة فحصل زعيم حزب طليعي على 600 صوت في دائرته وحصل الحزب على ثلاثة آلاف صوت في المغرب بكامله… بينما حصل الإسلاميون على 500ألف… سيرد الرفاق إن اليسار في المجمع الإسلامي طائر مذبوح، ينزف لكنه ينتفض بقوة. يا سلام على الشعر.


بعد هذه الهزيمة اشتد نقد الأحزاب التي حصلت على عشرات المقاعد لأنها اعتمدت على القبلية والأعيان والمال لشراء الذمم… هذه هي نقطة قوة اليسار، النقد الشديد، يقول عبد الله العروي “إن النقد خلاق مادام يواجه نظاما مناقضا له”، وجود التناقض والجدل والديالكتيك ضروري لفعالية هذا النقد، قوة اليسار لا توجد داخله، توجد في الظروف المحيطة، التناقض موجود، لكن اللغة خادعة، فالإعلام الرسمي نفسه يقول إنه مع الديمقراطية والتعددية والحرية وحقوق الإنسان، بل إنه ضد الفساد والرشوة… فماذا بقي من تلك القوة اليسارية عندما يستخدم وزير الداخلية بنفسه معجم اليسار؟ عندما يرفع شعار التنمية البشرية ومحاربة الفقر والهشاشة الاجتماعية، بل ويقول وزير داخلية سابق إن الدستور الحالي متجاوز؟


صحيح أن معجم اليسار قد انتشر، وهذا نصر تسبب في مشكلة، فهذا المعجم مشحون بطاقة مطلبية عندما يستخدمه أصحابه، أما عندما يستخدمه خصومهم فالمعجم يصبح تقريريا، وكأن ما يطالب به متحقق، فوزير الداخلية عندما يتحدث عن المساواة والعدالة الاجتماعية، فهو يعتبرها أمرا قائما وليس طلبا موجها لجهة ما.


عندما يتحدث الوزير مثل الرفاق، ماذا بقي ليقوله اليسار؟ ماذا يحصل عندما تُطمس التناقضات وتستعير السلطة خطاب خصومها لتجيره لصالحها، عندما يقر وزير العدل بأزمة القضاء ويتحدث وزير التربية عن الخلل في المنظومة التعليمية ويعترف الوزير الأول أنه لا يملك عصا سحرية ويتباكى وزير الاقتصاد من العولمة وارتفاع الأسعار؟


هنا نعود لجواب العروي “إن النقد خلاق مادام يواجه نظاما مناقضا له، وإلا انقلب على نفسه لينتقدها ويقضي عليها”، إن اليساريين لم يعودوا يحددون العدو بدقة، تشابه عليهم الأعداء فراحوا يرمون بعضهم بعضا، فقدوا حسهم اليقظ بالفصل بين المسائل الاستراتيجية والتكتيكية، لم يعد اليسار صلبا متماسكا، صار كل رفيق يتصرف كتنظيم وعين نفسه ناطقا باسم شخصه للمساهمة في تنافس مجاني، وبدل أن تتركز الأفكار حول الأساسي، حول الواقع، صارت الآراء هي المشكلة، وكأن كل رأي يمثل حلا وكل تيار يحمل كيس أجوبة لأسئلة المرحلة، والحصيلة أن الرفاق ينهكون أنفسهم في الجدال والنقاش، سيقول أحدهم أن هذا مظهر صحي، طبعا هو صحي لو كان الجدال هو الهدف، أما إن كان تشكيل قوة سياسية قادرة على معادلة نفوذ السلطة لفرض إصلاح سياسي حقيقي هو الهدف، فإن الجدال يصبح سفسطة يسارية مرضية… التمرين الأخير في هذا الباب شهده مؤتمر حزب الاتحاد الاشتراكي المنعقد منتصف يونيو 2008، بحيث تبادل الرفاق اللكمات وتقدم عشرات المؤتمرين إلى المنصة لانتزاع الميكروفون من المتحدث مع ما رافق ذالك من صراخ وفوضى، وكل هذا بسبب مسائل تنظيمية فقط، والنتيجة هي تعليق اختتام المؤتمر الثامن لمدة ستة أشهر… وطبعا لم تبرمج رئاسة المؤتمر أي دورات تكوينية للمتشاجرين ليتعلموا أنه بدون انضباط وطاعة لن يوجد حزب. الثقافة اليسارية تعتبر الطاعة مذلة والانضباط عسكرة…


يبدو أن هذا حال الرفاق في دول كثيرة، يفهمون في نقد الأحزاب ولكنهم عاجزون عن بناء أحزاب قوية، في البرتغال ترشح للرئاسة خمسة اشتراكيين أمام مرشح يميني واحد، في فرنسا أصبح كوشنير شارحا لسياسات ساركوزي، في إيطاليا عاد بيرلسكوني بابتسامته اللئيمة محل رومانو برودي…


في ظل هذه الهشاشة التنظيمية المرضية، تنفتح التنظيمات اليمينية على بعض رموز اليسار لتزيد من صعوبة وضع الرفاق، حينها يكتشفون أن بينهم “خونة” تغريهم السلطة والرفاهية يشرعون في تبادل التهمة فيما بينهم… في المغرب اليوم، وقبل عام من الانتخابات الجماعية، القطب الليبرالي يتوسع بأساليبه القديمة، بينما حزيبات اليسار تنتقد الآخرين وتتناحر فتتفكك، وهذا يدفع كل باحث عن بديل عملي يتساءل بألم: ما جدوى التباكي بعد الانتخابات؟

‫تعليقات الزوار

6
  • رفيق
    الإثنين 13 أكتوبر 2008 - 05:12

    اليسار لا زال بخير عندما نقول اليسار نعني اليسار بما تحمله الكلمة من معنى ليس الاتحاد الممخزن الدي قبل بالعبة وكدا الحزب الشيوعي هو ايضا قبل بالعبة96 بقية منضمة العمل التي استطاعات مع مجموعة من الشرفاء تجميع شتات اليسار لاكن المخزن يصر على ان لايكون هدا الحزب في ااواجهة

  • حميد ابن رشد
    الإثنين 13 أكتوبر 2008 - 05:04

    بداية نهنئ الرفيق الحاج محمدبنعزوز على قضائه لفريضة الحج. يبدوا أن جنيين إسلامي صغير ينموا في ذهن الحاج الرفيق ، همه الاساسي هو قدف اليسار و تبخيس تضحياته …. لكن غيماننا و ثقتنا في الحاج الرفيق يدفعنا إلى تنزيهه عن ذلك .. كل عام حج و الرفاق في مسيرة الارتداد

  • اليسار
    الإثنين 13 أكتوبر 2008 - 05:06

    بعد مشاركة اليسار في الحكومة و تسيير الشأن العام و فشله الدريع ، بل و سكوته عن الفساد و الأدهى و الأمر مشاركته في عمليات الإفساد و الزبونية و المحسوبية، و مصادرة الحريات و العصا للمعطلين أمام البرلمان و هو الذي كان يملئ الدنيا صراخا من قبل؛ تبين أ ن خيار اليسار خيار فاشل لا يمك ن أن نعول عليه؛
    لم يبقى إلا الإسلاميين؛ الذين بينوا عن كفاءة في تسيير بعض البلديات رغم المضايقات ،

  • chamkar
    الإثنين 13 أكتوبر 2008 - 05:08

    ولكن واحدة لي عليها العمدة وهي المهم وهي التي تصنع التراكمات التحولية وهي من ميزة اليسار أو حتى واحد ميقدر لها وهي الإرتباط بالجماهير وما الحركات الإحتجاجية في مختلف الواجهات دليل على ما أقول .أما لي بغ يكذب على راسو اليوم وقول رني جبت الأغلبية أو غدي نحكم أوغدي نغير في هذا الشرط الوطني الراهن فهو غي بغ يوصل أو ره إدير الديماغوجية أوكان .

  • آمال المغرب
    الإثنين 13 أكتوبر 2008 - 05:10

    مقالتك فيها نسبة من الواقعية لا تخلو من تحامل, اليسار قدم العديد من التضحيات والإسهامات الفكرية والتنظيمية للمجتمع , وجزء هام من المجتمع المدني الجاد تربى في احضان اليسار
    انحساره هو نتيجة لانهيار الاتحاد السوفييتي سابقا و للفراغ الإديولوجي والعولمة المرتكزة على القطب الواحد بكل عتادها الاقتصادي والسياسي والإديولوجي و المفروض على العالم
    ويبدو أن ما تعيشه العظمى بجبروتها “أمريكا”ا اليوم من أزمة اقتصادية خانقة سيعجل بانهيار عولمة قائمة على الظلم والاضطهاد وو
    وبعودة الفكر الاشتراكي إلى الواجهة كأحد الحلول الممكنة لمشاكل البشرية
    ما نعيشه من تشرذم حزبوي وتنظيمي هو نتاج لتنشئة سياسية تتقاطعها قيم مريضة
    يجب الا ننسى بأننا جميعا تربينا في ظل نظام تسلطي عمل على تمرير قيمه إلينا عبر الكثير من اجهزته التربوية والاجتماعية وهذا التاثير هو غير مرئي ويتم بشكل شبه تلقائي من خلال عمل الأجهزة المخزنية الموازية مهما كانت الأفكار المعتنقة
    هناك تجاذبات فكرية وسلوكية يعيشها كل من شب وترعرع داخل فضاءات كهذه فكل زعيم حزبي يسعى لأن يكون ملكا له رعايا داخل تنظيمه ولو بشكل لا شعوري لأنه استبطن هذا النمط رغما عنه
    وهكذا دواليك كما حلل ذلك حمودي عبر كتابه الشيخ والمريد بتفصيل دقيق
    هذا ما اظنه والله اعلم كما يقول الفقهاء

  • مواطن
    الإثنين 13 أكتوبر 2008 - 05:14

    ااينتهي المقال بطرح أزمة البديل بعد الحديث عن فشل اليسار ويلوح بالخيار الإسلامي من خلال الحديث عن اكتساحهم الإنتخابي، من حق الكاتب أن يكون يمينيا كيفما يريد،يميني ليبيرالي أو يميني مسلح بإيديولوجيا دينية شرط أن يوضح لنا مزايا المشروع المجتمعي الذي يتبناه بكل جرأة ووضوح في الخيار عن قناعة فكريةوسياسية .وسيكون من السخافة حقا تبرير اختيار اليمين بفشل ومشاكل اليسار واليساريين لأن في الأمر فهم تبسيطي للوعي السياسي ، أما الحديث عن الحزب الاشتراكي الموحد والتيارات ومشاكل الوحدة ، فأعتقد أنه تم تناولها بسطحية كبيرة وبنوع من التشفي وهذا ليس غريبا فتمة دائما من ينتظر أن يفشل هذا الخيار، لا أعتقد أن الإنتخابات في نظام غير ديمقراطي تصلح لتقييم لأحزاب ،،،،،،،

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 3

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 5

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال