كم تعقلنا لنصير لا عقلانيين!

كم تعقلنا لنصير لا عقلانيين!
الأحد 20 أكتوبر 2013 - 02:19

قال الأستاذ عبد الله العروي في إحدى محاضراته في نهاية الثمانينيات: «كم تعقلنا لنصير لاعقلانيين». وهو بذلك كان يوجه نقدا للعديد من المظاهر اللاعقلانية التي يعيشها المجتمع العربي، في محاولة نحو ترسيخ قيم اللاعقلانية على مستوى الإبداع والممارسة الفكرية. إذ غالبا ما يتم توظيف نسبية العقل والعقلانية، من أجل محاولة هدم الحقيقة ”المركزية“ الأوربية.. وإذا كانت نسبية العقل والعقلانية مسألة لاجدال فيها، فإنه مع ذلك تبقى هناك حدودا لهذه النسبية التي تكون من داخل العقل ذاته. لذلك فإن الانتقادات التي توجه إلى العقل الأوروبي من داخله لايمكن فهمها بمنطق اللاعقلانية العربية، وكان من الواجب فهم ”نقد العقل“ من داخل العقل الذي أنتجه. هكذا رأى هوركهايمر أن العقل قد تحول إلى أداة قمع. وهو في ذلك كان يستند إلى فعالية العقل ذاته، وهذا جوهر العمل النقدي. إذ يتم التأكيد على الحرية الفردية في مقابل القمع الذي تمارسه السلط الاجتماعية ومعنى ذلك أن الحرية لا ينظر إليها انطلاقا من التضاد مع الجماعة، وإنما في التماهي معها، بحيث إن تحقيق التغيير لا يأتي إلا من خلال القبض على التناقضات التي يحياها المجتمع، وهذا ما كان وراء نقد العقل الأداتي في مقابل إحلال العقل الموضوعي الذي يتم فيه الفصل بين الظاهرة والوجود.

وهذا ما يدخل في صميم الحداثة التي تتجه دائما نحو ممارسة “السؤال” على الذات، لأنها تسير في اتجاه الفعالية النقدية والتفكيك وقتل الوهم. والحداثة لا تعتمد، في أساسها، على البناء العقلاني بقدر ما تتجه نحو اشتغال العقل في ممارسة النقد ووضع حد لمجموع أنماط التعقيل. فهي لاتؤمن بالحقيقة المطلقة، وهذا ما يتناقض مع جوهر الوعي السائد في البلاد العربية، الذي يجعل من الحقيقة مطلقة، ومن ثم فالحقيقة لاتقبل ولاتدخل في صيرورة التطور المستمر، وهنا يكمن جوهر الإشكال المطروح: أي حداثة نريد، وكيف يمكن تحقيقها؟

تعيش المجتمعات العربية أزمة ”عقلانية“ حقيقية، بل هناك معطيات تؤكد أن النقلة لن تتحقق دون أن تتأثر بضربات قوية من الداخل قد تعمل على تغيير دلالتها. الأمر الذي يجعل من المؤسسات الاجتماعية والسياسية والدينية، على كل الواجهات، اللغوية والتشريعية، قوة أساسية تجتهد من أجل الحفاظ على «حقائق» تظل ثابتة ومستمرة. فالدين (المؤدلج) من حيث هو فاعلية تصنيف، له جملة من الوظائف التي ليس من الممكن الإبقاء عليها إلا في استمراريته، وليس ثمة من استمرارية إلا في المؤسسة. في مؤسسة الدين (وهي مؤسسة العبادات) ومؤسسة العقائد (وهي مؤسسات الثقافة والتربية)، والمؤسسات الأخرى التي وجدت في بعض الأديان ولم توجد في البعض الآخر، من حيزات سوسيو-ثقافية تتخذ من بعض ما لمؤسسة العبادات والعقائد من أسس عناصر تفصح عنها بأنماط الإفصاح الخاصة بها: من علم في الفقه والتفسير مثلا وتنظيم اجتماعي كما في القضاء والحسبة.

فالإسلام حاول أن يقضي على العديد من الممارسات التي اعتبرها مناقضة لفلسفته وروحه، غير أنه لم يتمكن من ذلك، وإنما الملاحظ أنه تم إدخاله ضمن مركزية هذه الممارسات، وصار جزءا من نظامها، ومن ذلك مثلا السحر، الذي أضحى يوظف الدين الإسلامي، من حيث هو نصوص وطقوس وعبادات، ومن حيث هو مقدس، وكتابة ولغة. وهو ما يعبر عنه قول كلود ليفي شتراوس: لم يعد ساحرا عظيما لأنه كان يشفي مرضاه، بل إنه كان يشفي مرضاه لأنه كان قد أصبح ساحرا عظيما.

لقد ظل الفقه يحتل مركزية محورية في الوعي الإسلامي، وهذا ما دفع فان آس إلى القول بأن التكيف مع قضايا العالم الراهن لايتم في المجتمعات العربية الإسلامية انطلاقا من خلفيات تنشغل بالمفاهيم الكلامية والفلسفية، وإنما بتوفيره حلولا جديدة لمشكلات شرعية، مما جعل العقل العربي يظل ضحية الاختراق الذي مارسه الخطاب الديني والمؤسسة الدينية (وجب هنا التمييز بين الإسلام في ذاته والخطاب الديني والرسمي!!) التي لم تغفل دورها القوي في حراسته وتتبعه وتوجيهه، وهي بذلك جعلت من العقل مجرد أداة لخدمة السلطة المعرفية الدينية دون أن يفسح المجال أمام العقل لممارسة فاعليته بمعزل عن أية وصاية معرفية أو سياسية تحد من سلطانه. لذلك فإن العقلانية بالمعنى الفلسفي للمفهوم ظلت مجرد هامش معتم، اشتغل بعيدا عن الحراك والفعل الثقافي والاجتماعي. لأن العقل الحر سرعان ما كان ينزاح عن الدائرة »المقدسة« التي لاتقبل بغيرها، وهو الأمر الذي كان يناقش المسار الذي يختاره العقل، وهو يسلك سبل البحث في القضايا التي لم تقبل المعرفة الدينية بإعادة طرحها بعد أن حسم الأمر فيها، ونقصد كل ما هو ميتافيزيقي، وما هو متعلق بالذات الإلهية والمصير، والجبر، وحرية الاختيار..

وقد زاد من عنف السلط المعرفية والدينية المهيمنة، والسياسية على وجه الخصوص، أن هذه القضايا التي عالجها واهتم بها الفلاسفة، كان يُنظر إليها من زوايا تجعلهما طرفي نقيض، ولم يكن النص المقدس يوظف من قبل العقلانيين الفلاسفة إلا من أجل »استعماله« للبرهنة على »صدق نواياهم« وإن كان الأمر أعمق وأكبر من ذلك. ولئن كان العقل الفلسفي جريئا في بعض تصوراته ورؤاه، فإنه كان قابلا للإجهاز عليه في أي لحظة.

من هنا فإن الأسباب الكبرى التي قلصت من سلطة العقل، وحريته واستمراره، هو، “تقيته” ولم يحمل على عاتقه مشروع “الخلاص” من المرجعية الدينية إحدى أهدافه واستراتيجياته، بل كان يبحث عن وسائل »الإقناع« التي تكفل له الحق والشرعية في الاستمرار في الاشتغال، وهو ما عجز على تحقيقه، ووسع من جغرافية العداء تجاهه، خصوصا إذا أضفنا إلى ذلك كله، السلطة السياسية العربية الإسلامية عبر التاريخ، التي كانت تجد الدين (كأداة قابلة للاستعمال) أحد أهم الأعمدة في بنيانه من حيث شرعيته ودوره ووظيفته في نظام الحكم.

إن رضا، وتواطؤ ”العقل الفلسفي“ العربي مع السلط المعرفية الدينية، وقبوله بالاشتغال داخل هذه الدائرة قد جعل من مسألة الإجهاز عليه أمرا في غاية البساطة، وظل دائما تحت قبضة الخط الديني المسيج بنمط محدد، لم يعمل على مجاوزته أو الدخول في صدام ثقافي واضح يعلن عن رفض أو ضحد أو نقد واضح صريح، بل ظل مهادنا ويبحث عن ادلته الحجاجية من داخل الجهاز الديني السائد. ولعل هذا أحد الأسباب التي ماتزال تعوق حركة العقلانية في البلاد العربية الإسلامية إلى اليوم. إذ “التقية” والتظاهر بنصرة الدين والبحث عن سبل تجديده هو الذي ما يزال مهيمنا، في الوقت الذي طرأت تحولات اجتماعية وثقافية يمكنها أن تساهم في ممارسة الحرية الفكرية التي باتت أمرا ضروريا لامناص منه. ففي الوقت الذي نتحدث عن “التاريخية” و “مفهوم السياق الثقافي” وإعادة النظر في مفهوم “الإعجاز” وتنقية التاريخ من الشوائب التي علقت به، نجد أن مفهوم المقدس ما يزال يسطو بكل ثقله التاريخي والمعرفي عليى الوعي السائد. وما يزيد الأمر تعقيدا، هو تداخل الديني بالسياسي، إذ الأنظمة الحاكمة لايمكنها أن تتخلى عن الدين باعتباره آلتها وأداتها في إحكام السيطرة على المحكومين،. لأن ما يعني الأنظمة الحاكمة من العوام هو إذعانها لا إيمانها.

‫تعليقات الزوار

3
  • abourihab
    الأحد 20 أكتوبر 2013 - 02:56

    L'effort est louable
    Les erreurs de traduction sont impardonables
    L'emprunt des concepts sans en faire reference est une faute grave
    Merci pour ce pseudo voyage

  • sifao
    الأحد 20 أكتوبر 2013 - 16:24

    لا اعرف بالتحديد المعنى الذي تتحدث به عن العقل العربي الاسلامي ، هل تقصد به مجموع المنتوج الفكري للانسان العربي المسلم أم درجة حضور الفكر الفلسفي الغربي ذي الاصل اليوناني فيه ، اذا كنت تقصد المعنى الاول فالمسألة تحتاج الى نقاش جدي حول امكانية الحديث عن عقل عربي اسلامي بالمعنى الذي نتحدث به عن العقل اليوناني ، اما اذا كنت تقصد المعنى الثاني فإننا سنسقط في الاشكالات التي طرحتها علاقة العقل بالشريعة في صيغتها الكلاسيكية ، الحديث عن عقل عربي اسلامي سابق لأوانه ، اذا كانت اللاعقلانية تعني من بين تعنيه كل ما يرتبط بالاسطورة والخرافة فان عملية الهدم ستكون من العقل في اتجاه اللاعقل وليس العكس.
    قدسية الخطاب اللاهوتي نابعة من طبيعته الاسطورية والخرافية التي تضع كل محاولة لاختراقه في خانة البدع التي يجب مجابهتها بالتهديد والعنف اذا اقتضى الحال ، وللعرب والمسلمين دروس في هذا الشأن ، المعطى الديني يتجاوز حدود تدخله المجال السياسي ليشمل كل مجالات الحياة بمعناها العام والخاص ، حتى ابسط سلوكاتنا لا معنى ولا قيمة لها الا بقدر ما نضفي عليها من القداسة ، كل ما نفعله نقوم به بالسم الله ، حتى الرذائل

  • ali
    الإثنين 21 أكتوبر 2013 - 00:30

    tout est relatif : Decarte est partout sauf si on manque de moyen pour le deceler.

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات