كوميديانا تلائمنا

كوميديانا تلائمنا
الخميس 16 أكتوبر 2008 - 10:26

من مسلسل «رجل وست ستات»كل عام وأنتم بخير، وكل عام وفطوركم ممتع بفضل المسلسلات الفكاهية التي تشدكم بها التلفزة. تشاهدونها وتضحكون، تعلّقون عليها، تكرّرون اللوازم التي يستخدمها الممثلون الذين يبالغون في كل شيء ليسعدوكم، ينتهي الفطور وتنصرفون لأشغال أخرى، أهمها النوم. وكالعادة كل صباح، في مقارّ العمل حين لا تجدون ما تبدأون به بناء الإجماع اليومي، وفي الجرائد غير المسيّسة التي لا تجد ما تنشره، تستهلكون نقداً شديداً لتلك المسلسلات الفكاهية. توافقون على النقد وتزيدون فيه. طبعاً، فتلك الفكاهة تافهة، خاوية، مكررة، لا إبداع فيها، ثم تتذكّرون مسلسلات السنة الماضية: كانت أفضل، وتلك التي قبلها أجمل، وتستنتجون أننا نسير من أفضل إلى أسوأ، ومن أسوأ إلى… إلى أين؟ تنقصكم الكلمات المناسبة. حينها يتدخل مثقف لا يحب تلك البرامج، لكنه يشاهدها، وهو يزعم أنه مضطر إلى مشاهدتها مع أسرته، ويجد فيها إسفافاً وضحكاً على الذقون وهدراً للمال العام وعلامة على قلة الموهبة.


ثم يقفز ويقارن بينها وبين نظيرتها الأميركية… حتى حين يكون ذلك المثقف أعزب فهو يشاهد فكاهة رمضان، وذلك ليعرف، حسب زعمه، درجة الابتذال التي وصلنا إليها. ويتضح مدى المشاركة الشعبية في تقويم الكوميديا، حيث يرفض كل مواطن وصاية الآخرين عليه، فيأخذ الكلام ليعبّر عن موقفه، ليشارك في «أغورا» الفكاهة. وهذا وضع لا يحلم به قادة الأحزاب الذين يشتكون من تدهور المشاركة الشعبية في الانتخابات… ودليل على أن الوعي الفكاهي أرقى من الوعي السياسي.


رغم هذه المنافع الديموقراطية، تروّج الجرائد للمزاج العام المعادي لكوميديانا، تسفّهها وتحقّرها بدعوى أنها تضرّ بأعصاب المواطنين. كوميديانا التي أعدّت على عجل، وضمت كل شيء، مثل حساء الحريرة الذي لا تخلو منه مائدة في رمضان.


يجري هذا منذ سنوات طويلة، وقد تولّد عنه إجماع وطني علني ضد الفكاهة الموسمية الرسمية، إجماع بديهي لم يتعرض للفحص قط، إجماع يخرج عنه الأشخاص فرادى ويدافعون عنه جماعة. إنهم يحرصون على مشاهدة تلك المسلسلات ولا يستطيعون العيش من دونها. ولذلك مبررات متناثرة، أهمها أنهم يعتبرون أنه يمكن مشاهدة برنامج سياسي أو فيلم أميركي أثناء العشاء، لكن لا يمكن فعل ذلك أثناء إفطار رمضان. لماذا؟ لوجه الله.


من لم يشاهد كوميديانا، سيحرم المشاركة الإيجابية في النقاش الصباحي التافه، نقاش هدفه تجديد الإجماع ضد سذاجة الممثلين وتسرع المخرجين وبؤس خيال كتّاب «السيتكومات». هذه مسلّمات لا يجرؤ أحد على دحضها. لكن لماذا تتنافس شركات الاتصالات والشامبو والمشروبات على عرض منتجاتها قبل كل سلسلة فكاهية وأثناءها وبعدها؟ ولماذا تتحمل إدارة التلفزة هذه الحملة السنوية ضدها؟ هذه «اللماذا؟» مزعجة، قد توقعنا في بعض التناقضات، لكن لنجرب الخروج عن هذا الإجماع النادر.


لنفترض أن ممثلي الفكاهة سذَّج، فهل شركات الإعلان ساذجة لتشتري الدقائق بعشرات الملايين؟ وهذا ثمن يزيد كل عام في ظل المنافسة.


شركات الإعلان لا يعنيها الإبداع والإجماع والشهر الفضيل. إنها تريد الربح، وأكيد أن الربح موجود، بدليل وصلات الإعلان الطويلة التي تخترق تلك المسلسلات. من أين يأتي هذا الربح؟ من أولئك الذين يتسمرّون أمام التلفزة لمشاهدة كوميديانا، وشركات الإعلان واثقة من هذه المعلومة، لذا فهي تعرف أنها لا تلقي نقودها من النافذة. تمويل الفكاهة مضمون، ومسألة النقود لا مزاح ولا كوميديا فيها. وإن السوق إذن بفكاهتنا لسعيد.


لنفحص الموقف من الإجماع اللانقدي ضد كوميديا رمضان: يطالع مديرو القنوات التلفزيونية النقد المزمن الذي يوجّه إلى اختياراتهم الفكاهية، ويتطلعون إلى أرقام المتابعة. هناك تناقض. فالمتابعة عالية. النقد سطحي وغير ذي صلة. والمتابعة هذه السنة أفضل من التي قبلها، والدليل القاطع هو تزايد مداخيل الإعلان. لذا فمن الأفضل زيادة جرعات الإسفاف والبلادة والتسطيح في السنة المقبلة. وهكذا ستزيد مداخيل الإعلان أكثر فأكثر. السوق دائماً على حق.


هناك مشكلة لدى المتفرج المدمن والناقد المزمن. إنه يتابع الإسفاف وينتقده. هنا مربط الحصان.



لنرَ ماذا تقدم الفكاهة الرمضانية: اشتباكات لفظية، تناول سطحي لمشاكل الحياة، صراخ بلا معنى، سخرية شاملة من النساء، سخرية من لكنة ولهجة المناطق، تنميط لغباوة المواطن وعدم انضباطه وسوء نيته وتناقضاته، فهو يمجّد رومانسية البادية ويقاتل ليعيش في المدينة، يبتهج حين يحصل على الأكل مجاناً، يضع معدته على سلّم أولوياته، يؤمن بالشعوذة ويخاف الحسد والعين، يشتري مرسيدس صنعت في بلاد كارل ماركس ويعلق عليها حذوة حصان. ينتقد سلوكيات معينة ويمارسها بلا خجل… هذه هي الحقيقة. لكن لا يجوز نقد المواطن مباشرة، فهو ابن الشعب، والشعب مقدس.


هذه سلوكيات يعيشها عشاق / نقاد كوميديانا يومياً. وهناك إجماع سلوكي على أن تلك الفكاهة انعكاس ميكانيكي لحياة المواطن، بل هي انعكاس لسلوكيات نُخبنا التي تبحر على بوصلة منافع السلطة. نخبة توافق على أننا نسير من أفضل إلى أسوأ، وهذه حالها أيضاً، لذا فإن كوميديانا تلائمنا تماماً، والدليل أنها وحدها التي تبعد المواطن عن الفضائيات طيلة شهر وتشدّه إلى التلفزة المحلية. إنها كوميديا ناجحة وستستمر، لأنها تضحكنا على أنفسنا، وإن كانت عاجزة عن توصيلنا إلى «الكاتارسيس»، أي وظيفة الفن حسب أرسطو، إذ حين أرى عيوبي مشخّصة على خشبة المسرح، أضحك عليها وعلى نفسي، وأتجنّب بالتالي تكرارها لاحقاً. أتطهر منها.


كوميديانا تعيد إنتاج الواقع ولا تتجاوزه بالنقد. لكن من يريدها أن تتجاوزه؟ المطلوب أن تكرسه، وهذا مشروع ناجح، حتى لو كره المثقفون المعادون للتسطيح.

‫تعليقات الزوار

9
  • aboudrar88
    الخميس 16 أكتوبر 2008 - 10:40

    حتى لا نستبلد القارئ فمستوى الأعمال الفنية لا يقاس بنسبة المشاهدة وإنما بناء على معطيات تقنية في المجال الفني وتبقى اسباب المشاهدة العالية العائلية لهده الأعمال محط نقاش المتخصصين ولكم واسع النظر

  • Der bin ich
    الخميس 16 أكتوبر 2008 - 10:36

    هنا اصبت المرام ياجحا, فلو قاطع الكل هده المهازل لتم تدارك الموقف لكن منتجي هذه البسالات يعلمون مسبقا ان المشاهد المغربي يجتر معظم ما يقدم إليه ثم يولول بعد ذلك لأنه لم يرقه , فلو تجاهل مند الاول لما تمادى هؤلاء المعلِّفون في تعنتهم ولا مبالاتهم
    وكأننا في حضيرة

  • assauiry
    الخميس 16 أكتوبر 2008 - 10:32

    مادم كاين القبال ليستهلك الكوميديا المغربية ، فإنك على صواب ، أما ياأخي جل المثقفين المغاربة كن مثيقنا أن ثخمة التلفازقذ بلغت بهم إلى عدم مشاهدتها ، وهذه الأقلية تجاوزت نقذ المسخ والتفاهات وإنما إنتقاذها موجه بالأساس إلى هدرالمال العام وتلاعبات المسؤولين عن البرمجة والدوراللا تثقيفي والإنحرافي لثلفزتينا ، بماذا سيفيدك مثلا موضوع من مواضع كوميديا الخياري ؟ أي مشكل يعالج ؟ بقدرماهوموجه إلى من هجرهم الجفاف واستوطنوا بالمدن ، ولهجته لخيرذليل على رسالته أتباعه الجهلة المقموعين والمحرومين في عيشهم ، هومتنفسهم ينسيهم مرارة الحصول عن رزق يومهم وخصوصا في رمضان ، ليهيأهم مبشوشين لمواجهة معاناة اليوم الموالي متناسين الماضي ، وكأن هذا الكوميدي بمثابة جرعة مخذرثناوله اليومي ضروري ، المبرمجون مثقفون أذكياء لاينتظرون من ينتقذهم لأن سياسة الإملاآت تقيدهم كسائرموظفين الدولة ، ليس لهم الإختيار وليس من حقهم الإجتهاد للتنقيح والإبداع ..وماهوآت نسخة طبق الأصل لما فات ، أسي محمد بن عزيزخلينا مع سلسلة جحا السياسي أما فكرة موضوع اليوم فمصيبة دهرية لاعلاج لها .

  • السي كوريط
    الخميس 16 أكتوبر 2008 - 10:30

    سيدي الكاتب, لقد أصبت “منغيغة” الحقيقة.
    تبارك الله عليك

  • أبوذرالغفّاري
    الخميس 16 أكتوبر 2008 - 10:34

    لدي ملاحظة بسيطة على المقال بل فقط على مصطلح واحد جاء في آخر المقالة-الكاتارسيس أو التطهير-:اشرح لنا -نحن-الفقراء لله وللعلم والأدب والثقافة والنقد-معنى الكاتارسيس أو التطهير حسب أرسطو وسنكون لك من الشاكرين.أقول قولي هذا ليس للتعجيزأو-الفهامات- ولكن لتعم الفائدة كل قراء ومتصفحي هسبريس.لأنك تحدثت عن الكاتارسيس/التطهير هكذا مجرداوكأنك تلقي درسا في النقدالأدبي أو المسرح أو الشعر أو الرواية في مدرجات الجامعة؛ دون أن ترفقه بشرح وافي ينير ظلمة الفهم لدى القارئ العادي.فهل سأظفر بما تمنيت؟

  • عبدالصمد
    الخميس 16 أكتوبر 2008 - 10:42

    أتفق معك فيما يتعلق بالرداءة، لكنني لست واثقا من الاجماع المزعوم، لأن بيننا من يعتبر الفكاهة في المغرب سائرة في طريق النمو.
    مساءلة ردود أفعال المشاهدين حيال أي برنامج فكاهي أمر طبيعي.
    أعتبر أن أزمة الفكاهة المغربية خلقت نقاشا عموميا، وهذا في حد ذاته أمر ايجابي يخدم الفكاهة في هذا البلد عكس ما يعتقده بعض المثقفين.
    إن الازمة تولد الاحساس بضرورة التغيير…

  • بنعزيز
    الخميس 16 أكتوبر 2008 - 10:28

    تحية طيبة
    تساءل أرسطو ما هي وظيفة الفن؟
    أجاب التطهير، أي أن الفن يحاكي حياة البشر، وخاصة عيوبهم ويضخمها ليسخروا منها فيتجنبوها لاحقا، أي يتطهروا منها. وكل فن لا يؤدي هذه الوظيفة تافه, الفن هو الذي يمتع ويفهم المتلقي، يوسع أفقه ليشاهد العالم من موقع واسع وعالي، بدل مشاهدة العالم من ثقب مفتاح الباب.
    الأكورا هي ساحة المناقشة في المدن الإغريقية، حيث تمارس الديمقراطية بحضور جميع المواطنين.
    صور البارلماني موجودة وهو يأكل بإخلاص وهو يتزود بلهفة. كان الله في عونه، وكان الله في عون دافعي الضرائب.

  • ناظوري
    الخميس 16 أكتوبر 2008 - 10:38

    الكوميديا عندنا بالمغرب تافهة ولا تستحق اي اهتمام ما دامت التلفزة تقدم لنا الاعمال الرديئة والتي اكل عليها الزمن وشرب وشهد شاهد من اهلها لمادا لا تقدم لنا التلفزة المغربية الكوميديين المتالقين في هدا الميدان امثال محمد الجم وغيرهم

  • متبه
    الخميس 16 أكتوبر 2008 - 10:44

    بعض االمحضوضين يستحودون كل موسم على كعك من مخازن لعرايشي دون خجل و لا تبت اعمالهمادكر منهم مصطفى لخياط فقط لانه يعرف من اين تاكل الكتف و هو اخ زوج نعيمة لمشرقي

صوت وصورة
تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:12 1

تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين

صوت وصورة
احتجاج بوزارة التشغيل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:02 2

احتجاج بوزارة التشغيل

صوت وصورة
تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 15:15 2

تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات

صوت وصورة
حملة ضد العربات المجرورة
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 11:41 20

حملة ضد العربات المجرورة

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42 9

جدل فيديو “المواعدة العمياء”