جامع الفنا خزان التراث اللامادي

جامع الفنا خزان التراث اللامادي
السبت 21 دجنبر 2013 - 00:06

“قلبك كبير، من جاء لدارك يأكل. أنت مرضي الوالدين، الذين هم أكبر منك يحبونك والذين هم أصغر منك يحسدونك والخير قادم إليك”… هذه هي الخلاصة التي انتهت إليها العرافة بعد أن قرأت طالعي في أوراق اللعب الموضوعة على كرسي صغير أمامها. دفعت لها دولارا ونصف وابتعدت… بعد قليل جاء إليها شخص آخر، سلمته ورقة ووضعها على قلبه، أخذتها منه، خلطتها مع باقي الأوراق بمهارة ثم بدأت تضعها أمامه وهي تتكلم… حين انصرف لحقت به. سألته إن كانت صادقة لأني أريد أن أعرف مستقبلي منها.أجاب بمعنويات مرتفعة أنها صادقة وأخبرته أنه محسود…

يبدو أنها قالت له نفس الكلام الذي قالته لي، ومن حق الفرد أن تنبت له أجنحة حين يكون محسودا. ذهبت إلى عرافة أخرى. وضعتُ يدي في كفها في استسلام شامل لمنطق المكان، تشرح لي مستقبلي بكلمات عامة فضفاضة، تفخم صوتها ودورها قبل كشف النبوءة عن يوم صعود حظي… حدثتني عن حبية سمراء مضت وأخرى سمراء دخلت قلبي… قاطعتها “هل سأفوز بالسعفة الذهبية في كان؟” لم تجب وسرى فيها الشك. واضح أن الجني الذي يخدمها قد ولد قبل اختراع الفن السابع.

تابعت تجوالي في هذا الفضاء الساحر، الرابعة بعد الزوال يدب النشاط تدريجيا في هي قلب مراكش التي يحرسها سبعة رجال متصوفة دفنوا فيها. وهم أولياء صالحين في خدمة الشعب. وقد تعطلت بركتهم في 29-11-2011 حين قتل سبعة عشر شخصا بعد أن فجر إرهابي مقهى في الساحة التي ينظر لها الآن كمفخرة سياحية. بينما في بداية الاستقلال كان اليساريون يخجلون من الساحة لأنها تقدم الوجه الفلكلوري المتخلف للمغرب. وقد تولى الكاتب الأسباني خوان غويتوصولو المقيم بمراكش الدفاع عن المعلمة التاريخية وكشف أن عدة دول حاولت صناعة مثيل لها دون جدوى. ساحة من حوالي عشرة آلاف متر اجتمع فيها ما لم يجتمع في غيرها:

مطاعم في الهواء الطلق، يحث نُدُلها المارة على الجلوس للأكل بكل اللغات. يكفي دولاران لتناول اللحم والشبع. لحم طبخ في “طنجية” وهي مؤنث الطاجين، عبارة عن قدر تعبأ باللحم والتوابل وتدفن في الرماد لتنضج لساعات… فيها إدام ولذة… ويمكن للآكل من موقعه أن يتابع نساء منقبات ينقشن الحناء الفاحمة على فخاذ السائحات الشقراوات… غير بعيد صانع أسنان تقليدي،أمامه طاولة عليها كُلاب وعشرات الأضراس والأسنان… بجانبه بائع أعشاب طبية وسحر مثل جلد ثعبان، قرن غزال. والأغلى مخ الضبع وهو مفيد لصناعة الغباء. فالزوجة التي تطعم زوجها في وجبة مخ الضبع يصير خاتما في يدها يطيعها ويتبعها ولا يضربها. كل مساء يقف العشاب يعدد فوائد الأعشاب التي يبيعها. يزعم أنه يعالج الروح والجسد. لتقديم الدليل يحكي عن زبون لديه زوجتين، سوداء لفصل الشتاء وبيضاء لفصل الصيف. يقف شاب وشابة لسماع دعاوي العشّاب يفتخر بفتوحاته في معالجة الضعف الجنسي. واضح من الحناء والملابس الجديدة ومن الضحكات الخجولة للشابة أنهما متزوجان حديثا، تعتبر زيارة مراكش ليومين شهر عسل كامل. تلكز الشابة العريس بكوعها ليشتري الأعشاب لتختبر النتيجة بنفسها…

أتابع رحلتي في الساحة التي تقدم غذاء البطن وغذاء العين والأذن. على بعد عشرات الأمتار من العشابين حلقيات موسيقية، فرق موسيقية شعبية من كل أنحاء المغرب، تعزف وتحصل على نقود… حين يكون العزف مؤثرا يرقص المتفرجون أيضا… حين يضجرون من العزف يقف الزائرون على مروضي حيوانات غير نافعة، قرد يرقص، فأر مقامر يعرف الاتجاه ويساعد صاحبه على كسب النقود من الرهانات. ذات مرة كان هناك مروض حمير، يقول للحمار نم فيفعل، يقول له انهض فيفعل. هكذا تمكن المغربي من تعليم الحمار ليكسب قوته… بجانب المروضين لاعبو “جمباز مغربي” شبان بأجساد لينة وقوية في آن، يقومون بحركات متناسقة سريعة، يتناوب فيها الوقوف على الأيدي والأقدام، يقفز بعضهم على بعض فيصنعون ثلاث طبقات بشرية. يسمون أولاد حماد أوموسى. كثيرون يظنون أن هذا الإسم يعود لمجموعة أشخاص، أو للسيرك في طبعته المغربية.

الإسم يعود لولي صالح صار مقاوما عندما غزا البرتغاليون منطقة أغادير عام 1505 (سموها سانتا كروز). حينها درب الولي مريدي زاويته لتكون لديهم لياقة بدنية صلبة للإغارة… ومن هنا جاءت تلك الحركات المتناسقة والقفز… تمكن المغاربة من طرد البرتغاليين وبقيت الحركات الرياضية، التي صممت لأغراض حربية، وسيلة تسلية في الحلقة…

وهكذا فإن كل المظاهر التي تجري على ساحة جامع الفنا قد نبعت من أعماق المغرب. لذا فإن فرجة الساحة الأسطورية صامدة، وقد نهضت بعد أن سال فيها الدم…

حوالي الثامنة ليلا اشتد الزحام، ابتعدت عن الساحة وتوجهت لصومعة الكتبية، محاطة بحدائق غناء. قرب الصومعة بائع قهوة متنقل. جل شوارع مراكش حدائق غناء بلا أزبال، يصعب تصور أن مدينتي الدار البيضاء ومراكش تقعان في بلد واحد. صعدت إلى مقهى مرتفع. توجد مقاهي ومطاعم فوق سطوح المنازل المحيطة بالساحة، من عنك تلتقط العين ما يجري من نظرة واحدة. أضواء وأعمدة دخان الشواء تتصاعد…

حوالي العاشرة تراجع الزحام فنزلت إلى الساحة من جديد، توجهت صوب حلقات الحكواتيين، رجال تجاوزا الخمسين يقفون وسط عشرات المستمعين يحكون قصصا شفهية. الحكواتي مثقف ولا يكتب. في مجال الحكي لا تعتبر الأمية مشكلة. الحكي أكثر انتشارا من التفلسف. جحا أشهر من سقراط لأنه في تلقي الحكاية نفكر ضمن وعي جمعي. وهذا سهل للأغلبية المطلقة. في التفلسف نفكر ضمن وعي فردي. وهذا نادر التملك للبشر. استقلالية الفكر يخيفهم بينما التماهي مع الحكاية يسعدهم وهم يرددون بعد سماع ذلك: “وأنا أيضا وقع لي كذلك”.

الحكايات الشفوية تراث إنساني لامادي مهدد بالانقراض، حين يموت المسنون، حملة التراث اللامادي يفقد البلد مكتبات بكاملها. ما هو التراث المادي؟ هو الحكي. هو درايات تدبير الحياة. هو كل أشكال التعبير المرتبط ب: “التقاليد و العادات اليومية.. الفنون و تقاليد أداء العروض..الممارسات الاجتماعية و الطقوس و الاحتفالات..المعارف و الممارسات المتعلقة بالطبيعة و الكون..المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية ” حسب منظمة اليونسكو في اتفاقية باريس سنة 2003|… مع الهوس بالتكنولوجيا يجهل الشباب الثروة اللامادية للمسنين الذين يملكون الحكمة.

ما وظيفة الحكاية الحكمة؟

تفك شفرة العالم. تساعد على الفهم. تشرح قواعد سير الحياة. تنبؤنا الحكايات بعواقب أفعالنا وتساعدنا على اكتشاف المكر. لا تدرك الحكمة بسهولة يقول ميشيل فوكو “إن الحكمة، شأنها شأن كل المواد الثمينة يجب أن تنتزع من قلب الأرض”. ولب الحكمة ليس الشجاعة هي مواجهة المحن بل القدرة على تجنب الوقوع فيها.
[email protected]

‫تعليقات الزوار

4
  • marrueccos
    السبت 21 دجنبر 2013 - 11:38

    " بداية الاستقلال كان اليساريون يخجلون من الساحة لأنها تقدم الوجه الفلكلوري المتخلف للمغرب " !!!!
    ذووا العقول الملحوسة ما كانوا يوما أسياد قرارهم هم صنفان ؛ صنف غرق حد الثمالة في شيوعية " ستالين " ! لا يتحمل رمزا منافسا ولو كان تراثا يمتد لأكثر من ألف سنة . صنف ثاني من خدام البعثية الصدامية والأسدية ! هم يساريون أيضا لكن بثوابل عروبة رائحتها كريهة تكره سماع مراكش فما بالك بساحتها !!!!!!!!

  • سلوى
    الأحد 22 دجنبر 2013 - 09:41

    ارى ان ساحة لفنا عار على المغاربة خصوصا كمية التخلف وانتشار الشعوذة والسحر فيها اميون اغبياء يصوروننا كدجالين واناس مازالو يامنون بالطلاسم والتعويذ هذا الوجه القبيح والمتخلف سوق سمعة سيئة للمغاربة اما باقي العروض تبدو هزيلة غير جميلة وغير ماطرة اناس بملابس رثة وغير متناسقة بشعر اشعت متسخ لماذا لا يتم تاطير هؤلاء الناس وجعل من جلمع لفنا ملحمة غنائية جميلة وقطبا لكل المغاربة المبدعين فهناك كثيرون يريدون تقديم عروضهم بالمجان المرجو من المسؤولين ايقاف المشعودين والشوفات لانهم اساؤوا للمغرب كثيرا ولا زالوا

  • جمال الفزازي
    الأحد 22 دجنبر 2013 - 10:36

    1/ ""قلبك كبير، من جاء لدارك يأكل. أنت مرضي الوالدين، الذين هم أكبر منك يحبونك والذين هم أصغر منك يحسدونك والخير قادم إليك".." المقصود هو جامع الفنا .
    -2/ قرات لكاتبة روسية ان الساحة كان اسمها"الفناء" اي ساحة اعدام وقطع الرؤوس لكن لا اعرف شيئا عن تلك المرحلة ..
    -3/يجب اعادة الاعتبار للساحة كفضاء للحكي…بتخصيص دخل قار للحكائين يكون عدده 7 على وزن سبعة رجال ..تابعين لوزارة الثقافة (3) والبلدية(2) والسياحة(2) بتعاقد ثقافي خاص ..
    -4/تخصيص جابت للحلقات و.الفرجات الاجنبية التي تجوب العالم..
    تحياتي

  • التطوانية المغتربة
    الإثنين 23 دجنبر 2013 - 07:20

    زرت ساحة الفنا لاكثر من مرة فيها فرجة لكن كثير من الاشياء لا تخدم المغرب كبلد سياحي
    النساء الذين يمتهنون الشعوذة يعطون صورة على ان المغاربة مشعودين
    واللباس الرث
    اما الاكل طيب و الحدائق و الكتبية روعة

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55

تقنين التنقل بالتطبيقات