محمد حسن الجندي "ولْد القْصُورْ".. سي الحسن ولالة رقية

محمد حسن الجندي "ولْد القْصُورْ".. سي الحسن ولالة رقية
الإثنين 6 يونيو 2016 - 15:50

من لا يتذكر أداءه المتقن لدور “أبو جهل” في فيلم “الرسالة” الخالد لمخرجه الراحل مصطفى العقاد، ومن لا يذكر دور رستم في فيلم القادسية لصلاح أبو سيف، وشخصية أمير قرطبة في مسلسل “صقر قريش”، أو دوره في “آخر الفرسان” لنجدة إسماعيل أنزور، أو دور صخر في “الخنساء”…

بطولات وأدوار غاية في الإتقان والسمو قام بها الفنان الفخم ذو الصوت الجهوري المهيب محمد حسن الجندي، ابن مدينة مراكش، من مواليد 1938، والذي يعد بحق أحد أهرامات وأعمدة الفن والثقافة في البلاد، فهو ممثل ومؤلف ومخرج ومسرحي وإذاعي…إنه مكتبة فنون تسير على الأرض.

محمد حسن الجندي اختار أن يخص قراء هسبريس بحلقات من سيرته الذاتية “ولد القصور” طيلة شهر رمضان المبارك، تنشرها الجريدة بوتيرة يومية؛ وهو عمل ارتأى فناننا الكبير أن يضمنه مشاهداته وآراءه وانبطاعاته حيال ما عاشه من أحداث أسرية واجتماعية وفنية، التصقت بمسار حياته الحافلة..

وهذه الحلقة الأولى من رواية “ولد القصور” التي قامت د. خديجة السحني بإبداع غلافها.

كان منزلنا وكأنه في حالة طوارئ عند كل زيارة للقائد مُحماد- قائد قبائل أوريكا- إلى قُصَيْرِه المراكشي الكائن بحي القصور، حيث يجمع المنزلين درب واحد اسمه “سبع تلاوي”. وقد سمي الحي بهذا الاسم لأنه كان يجمع أسرا مرموقة في المجتمع المراكشي، كأسرة “الطيب الفاسي الفهري”، ناظر الأحباس، وهو جد وزير الخارجية السابق وسَمِيُّه، وأسرة “ابن المجاد”، المعروفة في أشهر أسواق مراكش (العطارين) بترويج العطور والعود والند، وكل أواني الشاي النحاسية والفضية وبعض التحف اليدوية، كالتسابيح والمجاديل والساعات.

وهناك أيضا أسرة السيد “هنان الواسطي”، الترجمان الجزائري، الذي لا يُعرف عنه أن تعدى مهمة الترجمة الموكولة إليه. ومن جيراننا الأشدّ قربا الفقيه العلامة سيد “أحمد الكنسوسي”، والسيد “عبد الله الكنسوسي”، وهما من رُموز الطريقة التيجانية، ومؤسسِي أول زاوية لها بحي المواسين؛ ومن فروعهما أفاضل النجباء، كجعفر الكنسوسي، ويوسف، والعربي، والمهدي، وعبد الغني.

ويُلاصق منزل الكنسوسي منزل صهره “عباس الشرايبي”، والد المؤلف الراحل “عبد السلام الشرايبي”. وفي درب “سبع تلاوي” أيضا يوجد منزل تحسَبُه مهجورا، لكن ساكنه ضابط فرنسي ذو مهمة خاصة في بلدية مراكش.

كانت حالة الطوارئ تعلن من طرف الوالد في منزلنا بمجرد أن يُبَلغه الرقّاصْ بخبر هبوط القائد من الجبل مع بعض حراسه وأهل ثقته والمرَفِهين عنه. حينها تتولى والدتي “لالة رقية” الإشراف على كل كبيرة وصغيرة، وتراقب كيف تسير التحضيرات لتنفيذ تعليمات الوالد دون هوادة، وهي تلوح بمفاتيح المْصْرِيَة التي تخزن فيها “خوابي” الزيت البلدية والسمن المذوب، و”الخليع”، و”الزيتون المشقوق، والمفرشخ، والمخلل”، مع “الزنبوع”، والزيتون الأسود المسمى بالأمازيغية “تِزْبِيِبنْتْ”، و”الحامض المْصِيّر”، و”الفلفل المُرَقد”، وغير ذلك مما تحتاجه الطوارئ الأسبوعية. ولا تُسمع في المنزل كلِه إلا عبارات “لالة خَصْنَا…لالة بْغِينَا..”

الكل يخاطب والدتي بـ”لالة”، امتثالا لأوامر الوالد، بمن فيهم ضَرّتَاهَا “احبيبتي رْقْوشْ”، و”اعوينتي الشريفة فاطمة”، وعَمّتَايْ اليتيمتان، وبعضُ أقارب الوالد ممن فقدوا المُعيل، وكذلك “دادة أم الخير”، التي سمعت أن الوالد كان قد “عقد عليها” مُدةً ثم طلقها بسبب استخدامها العنف معي أثناء غياب والدتي لضيافة عند إحدى زوجات “الشيخ النظيفي”، رأس الزاوية، وشيخ الطريقة الذي كان يجاورنا في حي القصور أيضا.

اختارت “أم الخير” البقاء في منزلنا كما كانت من قبل، تُشرف على المطبخ والتربية. وكذلك “دادة جوهرة” التي حررها أحد القياد فاختارت الالتحاق بمنزلنا معززة مع محررة أخرى اسمها “دادة بدر السعود”، ظلت تحافظ على لكنتها الإفريقية المَالِيَة إلى أن يسر لي الله الوقوف على جنازتها، وقد تقدمت بها السن، رحمهم الله جميعا.

كان المنزل يضج بكل هؤلاء الخدم والحشم، ونحن الصغار نتراقص بينهن في مرح وابتهاج، نتفرج كيف يَصببن من “البقارج” ماءها الفائر على الدجاج بعد ذبحه، ويشرعن في “تَرييشِه” وتنظيفه، ثم يسلقن اللوز ويتخلصن من جلده، فيطحن بعضه لتهييء “البْسْطِيلَة” ويقلين بقيته.. وكن “يُفَصّلْنَ” لحم الغنم، فيعزلن الضلع منه لتحميره بعد تبخيره، ثم ينتقين ما يُناسب “الطواجين”، بعضها أشهى من بعض.

ولم يكن يجذبنا نحن الصغار إلا الزاوية التي فيها ما يسهل “نقبه” كالعصافير. وأذكر ذات مرة أن دادة أم الخير أخفت تحت “الطْبْقْ” بعض اللوز، فتحايلت حتى تمكنت من اختلاس حفنة منه وهربت. أسرعت دادة تلاحقني، وكانت تنتعل “القراقيب” الخشبية فسقطت على الأرض وانكسر ذراعها، فاتُّخِذ في حقي قرار الإبعاد والمنع من دخول المطبخ إلى أن أزالت دادة، رحمها الله، الجْبِيرَة التي كان قد جَبّرَها بها المعلم “الرْقِيقْ الحجام”، أشهر المتخصصين في تجبير العظام، والذي ذاع صيته بعد تجبيره العمود الفقري لأشهر وأشرس جنرالات المستعمر الفرنسي”الجنرال كيوم”، حين أسقطه بغل وهو يصعد الجبل للصيد والنزهة واستكشاف ما لم ينهب بعد من الخيرات.

عندما يأتي المساء يبدأ توافد خُدّام القائد لحمل “طواجين” الفخار السلاوية الصنع المختلفة الأحجام، على موائد أخرى مخصصة لهذه المهمة، وهي مستديرة مُسَوّرة بخشب لَيّن، بعضها مُغلف بقماش الحِيطِي الملون بين الأخضر والأحمر والأصفر، وغير ذلك.. ثم تُرفع الموائد على الرؤوس بعد أن تكتمل أبهَتُها بالغطاء الهرمي المُزَيّنَةِ قمته بالنحاس الصافي، أو الفضة.

كانت تلك المشاهد تُبهر الفقراء وتزيدهم شعورا بضعتهم وقلة حيلتهم، فينمو الحقد المكبوت في صدورهم. وكان استعراض الترف ذاك يغيظ على الجانب الآخر أشباه الأثرياء، ويغريهم بالاقتباس والتقليد؛ وقد لا يُسمح لهم بذلك وإن استطاعوا إليه سبيلا، لأن هذه المظاهر تدخل في طقوس المَخْزَنِيَاتْ التي يعتبر التنافس فيها من باب ما يلخصه المثل العامي”تْعلقْ فين يْتْفلقْ”.

ولم يكن والدي معنيا بتلك المظاهر كلها، فمهمته تبدأ بالتسوق وانتقاء ما يلزم، أما تلك المحمولات والآنية فهي من ممتلكات القائد، يأتي ويعود بها خدمه؛ زيادة على العناية بضيوفه الذين يتقدمهم نجم سهراته، وبهجة جلساته، شاعر الحمراء “محمد بن براهيم”، وإلى جانبه طبعا رفيقه وراويته السيد “محمد بنبين”، الذي مد الله في عمره وألهمه التمسك بالوفاء والإخلاص لأرواح أصدقائه، حتى صحح الكثير من المعلومات عنهم التي يجهلها العامة، فأنصف الشاعر نفسه، وساهم في جمع شعره وتصحيحه وتدقيقه، وأقنع الملك الراحل الحسن الثاني بإصدار أمره لطبع ديوانه وإخراجه وتعميمه؛ وقد أنعم عليه الله تعالى بذاكرة قل شبيهها، إن لم أقل انعدم مثيل لها.. وليغفر الله لي ولهم جميعا.

كان “الفقيه بينبين” يكثر الحديث عن مجالس الباشا الكلاوي والقائد محماد، وينوه بلذة “الطواجين” التي تصلهم من منزل السي الحسن الحجام، ويعبر عن تقدير الجماعة له واحترامهم لشخصه لأنه كان يسعدهم بتوفير الضيافة الجميلة دون أن يحضرها مرة؛ وليس له أن يحضرها وهو الصّوفي الملتزم، والملازم لحبيبه وصديقه وقَدوته الحاج امحمد النظيفي، وأوراده التي لا يمكن التغيب عنها أو تأجيلها كما هو معلوم في الطريقة التيجانية.

يتبع..

‫تعليقات الزوار

15
  • محمد وقار
    الثلاثاء 7 يونيو 2016 - 16:30

    الشكر لجريدة هيسبريس على حسن اختيارها. ندعو الكل لسبر أغوار هذا الفنان الشامل المقتدر عبر هذه المذكرات السي حسن الجندي المفروض أن يكون القدوة للوالجين للميدان التمثيلي و العبرة للعامة

  • محمد
    الثلاثاء 7 يونيو 2016 - 16:35

    كانت تلك المشاهد تُبهر الفقراء وتزيدهم شعورا بضعتهم وقلة حيلتهم، فينمو الحقد المكبوت في صدورهم. وكان استعراض الترف ذاك يغيظ على الجانب الآخر أشباه الأثرياء، ويغريهم بالاقتباس والتقليد؛ وقد لا يُسمح لهم بذلك وإن استطاعوا إليه سبيلا، لأن هذه المظاهر تدخل في طقوس المَخْزَنِيَاتْ التي يعتبر التنافس فيها من باب ما يلخصه المثل العامي"تْعلقْ فين يْتْفلقْ"
    كلام لا يصح ان يتفوه به رجل مثل حسن الجندي

  • noureddine, New York City
    الثلاثاء 7 يونيو 2016 - 16:48

    الى هذا الرجل الاسثتناءي، ادعوا واقول "الله يخلي ليك صحيحتك و يطول عمرك". وانا ابعد الاف الاميال عن حبيبتي مراكش، حملتني برفق الى اجمل ايام العمر، ايام طبعت شخصي و كياني الى الابد. جازاك الله عني خيرا. حظيت بلقاءك منذ سنين خلت في حفل عرس اقامه المرحوم االاستاذ مولاي عبد الله ابراهيم لما زفت احدى كريمتيه. لي امل ان نلتقي مره اخرى ان شاء "الى بقينا حييين" كما قد تقول والدتي رحمها الله و المسلمين كافه.

  • ضد الضد
    الثلاثاء 7 يونيو 2016 - 16:48

    عرفناه من خلال مسلسلي العنترية و الأزلية أحسن ما قدمته الاذاعة في الستينات

  • YOUSSEF
    الثلاثاء 7 يونيو 2016 - 16:58

    شكرا لقناتنا الكبير على هدا السرد الدقيق لحياته في مدينة مراكش العتيقة دات التاريخ الأصيل ومهد كبار المغرب الحبيب.

  • مغربي
    الثلاثاء 7 يونيو 2016 - 17:16

    و نسيتم ادائه الرائع لدور سيف دو يزل للازلية المسلسل الاداعي الرائع الدي اداه بصوته المتميز هو نسخة مغربية لالف ليلة و ليلة كنت صغيرا و استمع له عبر الراديو

  • HICHAM
    الثلاثاء 7 يونيو 2016 - 17:20

    تحية خاصة للفنان الدي ابهر كل الممثلين و كدلك المخرجين العرب و العجم بثباته الكبير في المشاهد و صوته الجوهري المدوي .
    لقد عدت بنا ايها الاستاد الفاضل الى تاريخ لم نتعلمه في المدارس و لم نجده في الكتب . يا لها من عزة و ياله من فخر و عيش كريم جعل منكم شخصية قوية داع صيتها .
    كنت و لازلت فخرا لكل المغاربة الاحرار و بعدما كدنا ننساك طلعت لنا بهده الطلعة البهية في هده المناسبة الجلية لتدكرنا بك و بتاريخك و تاريخ الوطن الحبيب .
    شكرا جزيلا و اتمنى لكم رمضان مبارك و صيام مقبول و متمنياتنا لكم بالصحة و العافية .

  • ابوآدم القنيطري
    الثلاثاء 7 يونيو 2016 - 18:00

    كل الاحترام و التقدير لهذا الفنان العملاق بالمناسبة اليس هذا الرجل يستحق ان يكون وزيرا للثقافة؟

  • صالح
    الثلاثاء 7 يونيو 2016 - 18:33

    نسيتم دور هذا الممثل الرائع في أداء دور سيد حمراء اليمن سيف ذي يزن
    سموني وحش الفلاة و اسمي سيف ذو يزن
    رموني أهلي في الخلاة و حماني الخالق الرحمان
    الأزلية. إلى كثير من أعمال أخرى لم تذكر.
    الله يبارك ويجازيك عنا خيرا فلله ذرك ولا عجب إن قل مثيلك.

  • maghribiya man canada
    الثلاثاء 7 يونيو 2016 - 19:02

    فعلا استاذ كبير ورنة صوته خيالية خصوصا فاش كنا صغار وكانو تيدوزو تمتيليات فالراديو وكان متميز فدور سيف بن دي يزن ودبا تنكتشفو مؤرخ فتح نافدة لنطل منها على الحياة في مراكش الحمراء ايام زمان الله يطول فعمرك لاننا تنفتقدو فنانين كبار بحالك

  • doukkali
    الثلاثاء 7 يونيو 2016 - 19:43

    ا خترتم واحسنتم الاختيار شكرا جزيلا هسبرس المزيد من التعريف بمتل هذاالهرم

  • radouane
    الأربعاء 8 يونيو 2016 - 09:59

    أؤكد على روعة الأداء في سلسلة سيف ذوليزن ٠٠٠٠تحية للفنانين الملتزمين الذين لا يقبلون الميوعة رغم الإغراءات

  • ماحي
    الأربعاء 8 يونيو 2016 - 12:50

    اطال الله في عمرك حتى تظل شامخا خالدا كالجبل يا صاحب الصوت الجوهري
    شكرا هسبريس و نعم الاختيار

  • عبد المجيد
    الخميس 9 يونيو 2016 - 00:07

    الجندي لقب به في احدى المسرحيات من طرف احد الفرنسيين، أما لقبه الصحيح فهو بولخضرت نسبة الى عائلته بأمزميز.

  • محمد المربع
    السبت 25 فبراير 2017 - 13:36

    مهما قلنا في حق هذا الانسان المتواضع لربه،فإننا سنبقى غير منصفين له.إن رحيله لخسارة للفن برمته وخاصة الفن السابع.
    فرحم الله هذا الانسان المتواضع،وأسكنه فسيح جناته و إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله

صوت وصورة
مغاربة والتعادل مع موريتانيا
الأربعاء 27 مارس 2024 - 01:07 8

مغاربة والتعادل مع موريتانيا

صوت وصورة
المخارق والزيادة في الأجور
الأربعاء 27 مارس 2024 - 00:30 3

المخارق والزيادة في الأجور

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | انتخابات 2011
الثلاثاء 26 مارس 2024 - 23:00

شهادات للتاريخ | انتخابات 2011

صوت وصورة
قصة | الرجل الذهبي
الثلاثاء 26 مارس 2024 - 21:30 1

قصة | الرجل الذهبي

صوت وصورة
المدينة القديمة | فاس
الثلاثاء 26 مارس 2024 - 20:55

المدينة القديمة | فاس

صوت وصورة
معرض تضامني مع فلسطين
الثلاثاء 26 مارس 2024 - 20:47 1

معرض تضامني مع فلسطين