الجمهور العربي والأزمة في أوكرانيا

الجمهور العربي والأزمة في أوكرانيا
الإثنين 28 مارس 2022 - 00:21

ظهرت في المدة الأخيرة تقارير إعلامية وكتابات تنتقد أو تتحمس لوقوف رواد مواقع التواصل الاجتماعي والمتفاعلين مع وسائل الإعلام في المنطقة العربية إلى جانب روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين في حربه على أوكرانيا.

غير أن استعراض تدوينات وتغريدات عدد كبير من رواد “فيسبوك” و”تويتر” من المنطقة العربية (بمن فيهم مؤثرون يمكن اعتبارهم صناع رأي) لا يدفع للجزم بأن الجمهور في المنطقة العربية يقف فعلا، وبشكل واضح، إلى جانب روسيا وقائدها فلاديمير بوتين، أو يدعم اجتياح الأراضي الأوكرانية. يمكن القول إن التركيز كان ومازال على توجيه سهام النقد للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها أكثر من روسيا، بل يمكن الدفع بأن هناك في أغلب الأحيان تجاهلا تاما لإبداء موقف من موسكو وسياساتها، وهو ما يجد تفسيره في أكثر من معطى.

مواقف الشعوب نتاج تجاربها

أول هذه الأسباب يرتبط بكون الشعوب، وكما الأفراد، تنطلق في بلورة مواقفها من تجاربها الخاصة. وفي هذا الصدد لا يمكن لمنصف أن ينكر أن تجارب العرب والمسلمين مع الغرب كانت ومازالت مريرة جدا، وخلفت مآسي وجراحا في كل بقعة من المنطقة، بعضها مازال ينزف حتى الآن.

إن كل خطاب غربي حول الشرعية الدولية أو احترام سيادة الدول وحدودها عند التعاطي مع الاجتياح الروسي لأوكرانيا يصطدم، لدى الجمهور العربي بالتحديد، بوقائع في المنطقة تبنى فيها الغرب مواقف عملية خرقت الشرعية الدولية (حالة العراق وفلسطين) أو شجعت على تقسيم الدول (السودان، العراق…) أو غاب عنها العامل الإنساني (رفض استقبال اللاجئين أو القيام بخروقات وانتهاكات واضحة للقانون الإنساني أو عدم إدانتها…).

هذا على صعيد القضايا الجامعة، أما على مستوى كل قطر عربي فإن الغرب، وهو في أغلب الأحيان المستعمر السابق، كان ومازال، بشكل أو بآخر، جزءا من الصراع السياسي الداخلي، إذ يشكل بذراعيه، الأوروبي والأمريكي، غطاء لعدد من أنظمة حكم لا تكون فيها السلطة ثمرة صناديق اقتراع نزيهة وحاسمة، ما يخلف كثيرا من الارتياب والشكوك حول خطاب الغرب حول الديمقراطية وحقوق الإنسان في روسيا حاليا.

في المقابل فإن خطوط التماس مع روسيا الاتحادية، أو حتى مع الاتحاد السوفياتي السابق، ظلت محدودة أو بعيدة عن الأضواء؛ فباستثناء ما رافق تجربة المجاهدين في أفغانستان من حملة إعلامية ضد الاحتلال الروسي لهذا البلد المسلم، وهي حملة ستندثر آثارها مع الاحتلال الأمريكي لنفس البلد عقب هجمات 11 شتنبر، لم يكن الروس عموما طرفا مباشرا أو حاسما في مآلات ملفات إقليمية.

ورغم أن روسيا لم تتخذ مواقف واضحة وداعمة للجانب العربي في كثير من الملفات الإقليمية، فإنها في المقابل لم تقف على الضفة الأخرى بوضوح أيضا. فعلى مستوى الأمم المتحدة مثلا اصطدمت كل القرارات التي تدين احتلال هذا البلد العربي أو ذاك بفيتو غربي (أمريكي أساسا) وليس بفيتو روسي، سواء كان ذلك عن موقف مبدئي أو عن حسابات براغماتية تفضل اللاموقف.

ومع أن التدخل الروسي في سوريا كان مباشرا وحاسما في مسار الأزمة في هذا البلد، ورغم أنه خلف خسائر في الأرواح ومآسي إنسانية جراء قصف مدن وقرى، فإن الانقسام الحاصل في الٍرأي العام العربي عموما حول الأحداث في هذا البلد، وغياب تغطيات إعلامية ميدانية وذات مصداقية لتبعات التدخل الروسي، وكذا وجود تدخلات ميدانية مشابهة لأطراف إقليمية ودولية أخرى، كلها عوامل خففت من حجم تأثير هذا التدخل على نفسية الجمهور أو على الأقل لم تساعد على رسم صورة لروسيا كفاعل أجنبي رئيسي في الأحداث بالمنطقة.

غياب “التغليف القيمي” للموقف الروسي

أما ثاني الأسباب التي تدفع الجمهور في المنطقة العربية إلى التركيز على انتقاد الموقف الغربي بالتحديد في الأزمة الأوكرانية فيرتبط بطبيعة الموقف الروسي في هذه الأزمة كما في غيرها؛ فالروس عموما، ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي ومعه السردية الكبرى للمعسكر الشيوعي، لم يسعوا قط إلى تقديم عرض قيمي لتبرير موقف سياسي، وهو ما تكرس بشكل أكبر منذ وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة في مطلع الألفية. في غالب الأحيان يقتصر الخطاب الروسي في كل أزمة على الحديث عن المصلحة الروسية الخالصة وعن حفظ دوائر نفوذ أو منع تآكلها.

ورغم أن فلاديمير بوتين حاول عشية اجتياح القوات الروسية لأوكرانيا أن يطرح عرضا قيميا يكون أساس لعملية الاجتياح، فإنه لم يتجاوز في محاولته هذه الحديث عن “القضاء على النازية” في أوكرانيا، وهو الخطاب الذي سرعان ما ستتخلى عنه موسكو تقريبا لتقتصر على الحديث عن الأمن القومي الروسي، والتهديد العسكري الذي يمثله تواجد حلف “الناتو” في أوكرانيا وحماية الناطقين بالروسية.

إن غياب ما يمكن وصفه بـ”التغليف القيمي” للموقف الروسي يجعله واضحا، بمعنى أنه لا يستدعي التوقف عنده، فهو معبر عن نفسه. وعدم التوقف عند الموقف الروسي طويلا في الآراء المعبر عنها من قبل الجمهور العربي لا يعني بالضرورة قبوله كاملا أو دعم تجلياته الميدانية.

الانحياز الأوكراني

إن الانحياز الأوكراني للغرب، واستقواء القادة الأوكرانيين حتى قبل الاجتياح الروسي بـ”شركائهم الغربيين” وبحلف شمال الأطلسي بالتحديد، ورغبتهم الجامحة في الانضمام لهذا الحلف، يجعل من الصعب على الجمهور في العالم العربي التعبير عن تضامن واضح مع أوكرانيا كدولة ونظام سياسي.

إن الاصطفاف مع الغرب يضفي كثيرا من الضبابية على مشروعية الموقف الأوكراني، ويغذي على العكس من ذلك التوجه القائم على عدم انتقاد الطرح الروسي الذي يحرص على تقديم الاجتياح باعتباره حربا ضد “الناتو” أولا وأخيرا، رغم كل التفاصيل الأخرى التي قد تؤثث الحملة الإعلامية الروسية.

والمعادلة في أذهان الجمهور العربي بسيطة جدا، وهي لا تخلو من منطق، ويمكن تلخيصها في السؤال التالي: لماذا هذا الإصرار الأوكراني على الانضمام إلى حلف لا يخلو سجله من حروب بدون أساس من الشرعية الدولية؟ وهل يقاوم الأوكرانيون من أجل تحرير أرضهم من الروس لجعلها تحت الوصاية الأطلسية والأمريكية بالتحديد؟ إن هذه الأسئلة تحول دون التعبير الواضح من الجمهور العربي عن دعم الموقف الأوكراني، وهي لا تحول في كل الأحوال دون التعبير عن التضامن مع ضحايا الحرب من نساء وأطفال وشيوخ ومدنيين في أوكرانيا.

الحملة الإعلامية المواكبة للحرب في أوكرانيا

لعبت الحملة الإعلامية المواكبة للاجتياح الروسي لأوكرانيا دورا كبيرا في إذكاء كثير من الشك حول الأساس الأخلاقي لأي دعم صريح للموقف الأوكراني وسط الجمهور العربي. إن الاهتمام الكبير لوسائل إعلام غربية بحياة ومصائر أوكرانيين، وسيل الروبورتاجات التي تسعى إلى استدرار التعاطف مع الأوكرانيين واستعداء الروس، كان لها مفعول معاكس وسط الجمهور العربي.

لقد ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي وحتى على بعض وسائل الإعلام الجماهيرية مقارنات كثيرة بين تعاطي الإعلام المسمى “دوليا” مع الأزمة الأوكرانية وتعاطيه مع أزمات أخرى مشابهة أو أكثر مأساوية في عدد من بقاع العالم، وخاصة في المنطقة العربية والإسلامية. وكانت الخلاصات عموما تذهب في اتجاه وجود تراتبية في التعاطي مع الأزمات حسب عرق ودين الضحايا، أو حسب تموقع الدول الغربية في خريطة هذه الأزمة أو تلك.

وقد توقف المدونون باللغة العربية بالخصوص عند الحملة الإعلامية التي تدعو إلى استقبال واستضافة اللاجئين الأوكرانيين الفارين من ويلات الحرب، واستحضروا الخطابات الصادرة عن وسائل الإعلام نفسها التي تحذر من استقبال اللاجئين الأفغان والسوريين الفارين من ويلات الحرب أيضا.

إن الحملة الإعلامية في وسائل الإعلام الغربية أو الموالية للطرح الغربي عموما كرست شعورا بوجود تعامل استعلائي مع الشعوب غير الأوروبية، وهو شعور عندما يقترن بالخطاب الأوكراني الرسمي المتمسك بالانتماء لهذا الغرب يتحول في الحد الأدنى إلى تشكيك في الأساس الأخلاقي الذي يتحرك على أساسه خصوم روسيا وخصوم بوتين في هذه الحرب.

كل هذه الأسباب جعلت المدونين العرب يميلون بل ويركزون عند التعاطي مع الحرب في أوكرانيا على انتقاد الغرب وازدواجية خطابه ومواقفه، دون أن يكون ذلك بالضرورة قبولا بالحرب أو تصفيقا لها.

‫تعليقات الزوار

2
  • مغربي أم عربي؟
    الأربعاء 30 مارس 2022 - 15:26

    المواطن المغربي يعتبر نفسه في العموم عربيا ولذلك فهو مرتبط بالشرق الأوسط وقضاياه. وعلى هذا الأساس فإن إسرائيل وأمريكا هما العدوتان الرئيسيتان بينما لا توجد لديه مآخذ على القوتين الاستعماريتين اللتين احتلتا بلده فرنسا وإسبانيا بل على العكس تجده يكن المودة والإعجاب لكل ما هو فرنسي. الانتماء القومي – الديني إذن بالنسبة للمغربي أقوى من الشعور الوطني.

  • Amaghrabi
    الأربعاء 30 مارس 2022 - 16:26

    كما يقول السياسيون الواقعيون”ليس هناك صداقة دائمة او عداوة دائمة وانما هناك مصالح دائمة”والتاريخ شاهد على ذلك بحيث هناك من يبيع وطنه من اجل مصالحه المادية وكيف تدوم الصداقة او التعاون او الاتحاد المبني على اعراق دينية او لغوية بين الدول,واليوم اذا كان بعض المغاربة يفرضون اللغة العربية والدين الاسلامي على المغاربة الاخرين فانتظروا قيام القيامة في المغرب عما قريب,المصالح المشتركة والاحترام المتبادل والاعنتراف بالتعدد اللغوي والديني هو الطريق الاسلم

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة